“الحداثة المعطوبة” والفلسفة المضادة  والحوار مع بائع البطاطا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قلولي بن ساعد

لحد هذه الساعة الحداثة، فإن التي يعرفها المثقف العربي هي حداثة على الورق أو حداثة الخطاب النقدي أو الفلسفي، بينما ذهنية المثقف العربي نفسه مع استثناءات قليلة لا يمكن التنكر لها  لا زالت ذهنية تقليدية غارقة في التخلف والمرض والاستبداد.

 والواقع السياسي والعربي هوالآخر يتنافى مع أبسط مبادئ شروط الانخراط في ثقافة العصر وقيمه الرمزية التي تتأسس على الرغبة في الخروج من دائرة “الأسيجة الدوغمائية المغلقة” بتعبيرمحمد أركون. لقد تسيد من جديد التفكير القبلي وسحر الخطاب الأحادي الشعبوي حتى داخل مؤسسات التعليم العليا ولم تعد فضاء لإنتاج المعرفة والعمل على (تبيئتها) بتعبير الجابري فانتفت المهمة التي وجدت من أجلها في ظل  الهوس بالقيم النفعية والتراتبيات الاجتماعية المهنية في بعدها البراغماتي البحت.

ولم يخطئ تماما  السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن حين تحدث في تسعينيات القرن المنصرم عن ما سماه  (الحداثة المعطوبة ) وحلل بكفاءة علمية نادرة أسباب هذا العطب التاريخية والنفسية والسوسيولوجية وهي التي لا تزال قائمة إلى الآن.

فاجترار المقولات والمفاهيم العلمية والمعرفية والفلسفية ذات البعد الحداثي  من دون وعي بها وبسياقاتها التاريخية ومن دون القدرة  على الإستخدام الوظيفي لها في الحياة العامة وفي الرفع من مستوى الوعي السياسي والفكري للمواطن العربي المغلوب على أمره  والتطلع إلى الآفاق الحديثة التي قطعتها المجتمعات المتقدمة عوض الظهور بها في جو من الإستعراض المجاني أو  البريستيج الأكاديمي الزائف  ومن دون أدنى تمثل فاعل لها يخرجها من دائرة التجريد والاستعراض اللغوي والمفاهيمي  إلى فضاء الممارسة اليومية الحية النابضة بالمعنى والدلالة  في محيطنا الثقافي والإجتماعي والسياسي  لا يعني أبدا أنه لدينا  حداثة عربية أنجزت مشاريعها التحديثية على صعيد  التربية و الثقافة و المجتمع وفي الفضاء العام أو (الفضاء العمومي) بتعبير هابرماس  ولا يعني سوى شيئا واحدا وهو أننا كمجتمعات عربية قد اقتصر وعينا للحداثة الأوربية فقط على إشكالها الصورية والتقنية أو الميكانيكية من دون النفاذ الى أدق أليات إشتغالها و استشراف أفاقها ولم نتجاوز بعد ذلك السؤال الحيوي الذي كان قد طرحه أحد رموز النهضة العربية وهو: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب … ؟

الفلسفة ورجل الشارع والحوار مع بائع البطاطا

 في ظل هذا الخواء وفشل المشاريع النهضوية الفوقية التي فرضتها معطيات سياسية  ليست وليدة رغبة صادقة و جادة في  تحرير الإنسان والمجتمع والتمثل الوجداني  الثقافي لأسئلة ومقولات النقد والحداثة  والتعدد  القائمة في بعدين يراهما السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن ضروريين  بعد أول هو “البعد  الثقافي المناقض لكل شوفينية أثنية وعرقية أي كتجسيد للنغراس المثقف وتغلغله في أعماق وأغوار الواقع الثقافي الوطني  وتصميمه على المشاركة في الكونية العالمية المعاصرة وبعد ثان كفيل بنقل خصوصيته  إلى الآخر وإيجاد القواسم المشتركة بينه وبين العالم فكرا وإبداعا ولغة” (01) .

 وبناء على ذلك يستنتج عمار بلحسن أن “الحداثة المعطوبة” هي نفسها الحداثة التي “تمارس جاذبية قاهرة على مستوى الإستهلاك و المعيش والثقافة والحياة  اليومية وتتجسد في غرب لعالم متغطرس مستبد وساحق” (02). أي أنها حداثة ترفض الإنخراط في الشأن الإجتماعي والشؤون العامة للمواطن العربي  والمساهمة في خلق بدائل تحديثية تحررنا من الاستخدام النيو كولونيالي المهيمن للأسس والمنطلقات الأنطولوجية التي قامت عليها الحداثة الاوربية في مركزيتها المتعالية عبر فعل المثاقفة واللقاء بالآخر طوعا أو كرها .

ولتجاوز هذا المأزق العربي في التعامل مع أسئلة الحداثة العربية  تعاملا صالونيا بعيدا عن هموم الناس والطبقات المسحوقة ومناقشة مشروع هو مشروع الدكتور مراد وهبة القاضي (بإنزال الفلسفة من عرشها) كما يعبر خلدون الشمعة في المقال الذي يحمل العنوان ذاته ( إنزال الفلسفة من عرشها )   يفتتح خلدون الشمعة  مقاله بعبارة شهيرة لكارل ماركس يقول مضمون هذه العبارة  أن مشكلة ديليكتيك هيغل تكمن في أنه يقف على رأسه وينبغي أن نوقفه على قدمية بالإتكاء على تجربة مخصوصة هي تجربة الفيلسوف المصري الدكتور مراد وهبة وهي المقولة ذاتها التي إتخذها مراد وهبة عونا له في تبرير صلاحية مشروعه التنويري الذي لا يتضاد مع حركة المجتمع وصيرورته التاريخية لكن خلدون الشمعة عندما يتأمل في دعاوي وهبة يرى أن هذا غير ممكن ويعتبر أن ” اللجوء إلى التفاؤل المفرط في تجميل الخيار التنويري يترتب عنه نوع من الإستخفاف المفرط في الصعاب التي تحول دون تحقيقه ” (03) فهل هذا صحيح … ؟

يحيلنا خلدون الشمعة إلى فعاليات مؤتمر عقد بالقاهرة وهو بالطبع لا يذكر تاريخ إنعقاد هذا المؤتمر والجهة المنظمة له المؤتمر حمل عنوان (الفلسفة ورجل الشارع) في ذلك المؤتمر يقربنا خلدون الشمعة من مضمون فلسفة مراد وهبة بلغة بيسيطة تتكئ على واقعة غريبة  إذ أحضر مراد وهبة حسب رواية خلدون الشمعة معه إلى قاعة المؤتمر بائع بطاطا ثم شرع مراد وهبة في طرح عدد من الأسئلة على بائع البطاطا ومن هذه الأسئلة .

من هو الفيلسوف … ؟

فيرد بائع البطاطا إنه أبو العريف

فيستنتج مراد وهبة أن الرجل البسيط على علم ودراية بمعنى الفلسفة لأنه عبر عن ذلك بأسلوبه البسيط ولا يكتفي بذلك مراد وهبة بل إنه يعود إلى سقراط رغبة منه في البحث عن مرجعية فلسفية تبرر علاقة الفلسفة بالواقع وبالشأن الإجتماعي للمواطن العربي المسحوق تحت عجلات مشاريع التنمية العربية المهدورة .

ورغم أن خلدون الشمعة لا يجاري مراد وهبة في كل ماذهب إليه والدليل على ذلك أن خلدون الشمعة يرى في هذه العودة إلى سقراط غير مجدية ولا فائدة ترجى من ورائها لأن سقراط في نظر خلدون الشمعة ” عاش في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد ولا يعقل أن ينسى مراد وهبة أننا في عصر آخر هو عصر المعلوماتية وهذا بحد ذاته إستخفاف شديد بدور الأكاديمية التي وضع إفلاطون أسسها في صناعة الفكر الفلسفي المعاصر ” (04 ) .

وإذ كان هذا التحفظ الذي يبديه خلدون الشمعة يعكس فصلا من الحقيقة فإنه لا يعكس الحقيقة كاملة بمعنى أنه لا ينبغي لخلدون الشمعة أن ينسى هو أيضا  أنه حتى   في زمن ما بعد زمن سقراط وإفلاطون أطلق فيلسوف العدمية نيتشة  دعوته إلى  إخراج الفلسفة من السجون والمدارس والكنائئس إلى حيث الفضاءات الواسعة  وحتى فيلسوف التفكيك جاك ديريدا لم يتردد في أن يربط حياة الإستعارة  بوجود الشمس والضوء وكان يرى أنه متى تسطع الشمس تكون الإستعارة قد بدأت معها .

 وهذا ليس بغريب على ناقد وفيلسوف تصدى لكل  أنظمة العقل الغربية المتمركزة حول ذاتها  اللسانية منها والفلسفية المعبر عنها بما يسميه ( ميتافيزيقا الحضور في الفلسفة الغربية ) الأمر الذي قاده مرة أخرى وبإيعاز من دورة التفكيك الذي يتتخذها رؤية إلى تفكيك أسئلة  المأسسة الأكاديمية  الحاضنة المعرفية  لقضايا الوثوق الفلسفية من داخل حجرة الدرس عبر كتابه ( عن الحق في الفلسفة ) .

 وكان يرى أن هذا الحق يجب أن يرتبط بالبحث عن ماهية  الفلسفة وهويتها بما لا يتناغم مع ما يطلق عليه ( الحقيقة النفعية للفلسفة )  ولحصول هذا الحق على وجهه الصحيح يقترح ديريدا إنجاز تحليل نظري مؤسساتي قادر كما يقول ” على النفاذ إلى ماهو ممنوع ومحروم من التجليات المؤسساتية ” (05) .

 وعندما يعلم أن ذلك غير ممكن  يعود ليذكر بأن ذلك لا يعني تهديدا للخصوصية الفلسفية التي تصر عليها المؤسسة الأكاديمية غير أنه مرة أخرى يحذر من إستخدام هذه الحجة لغايات دفاعية أو دوغمائية أو ذات صبغة مهنية  ولا ينبغي في رأيه الخلط بين مفهومين هما على طرفي نقيض  ويعني بذلك الهوية المؤسساتية للمادة الفلسفية والهوية الفلسفية للفلسفة كهوية ” مطالبة بالإنفتاح على كل التدخلات دون أن تفقد هويتها ” (06) .

 وليس خاف على أحد أن دريدا نفسه لم تعترف به المؤسسة الأكاديمية الفرنسية بصنميتها المعروفة بوصفها يهوديا آخر قدم إليها من إحدى  مستعمرتها  السابقة ( الجزائر )   إلا بعد أن جلب معه إعترافا كبيرا من خارج فرنسا وتحديدا  من الولايات المتحدة الأمريكية منذ اللحظة التي قدم فيها مداخلته الشهيرة الموسومة ( البنية واللعب والعلامة  في خطاب العلوم الإنسانية ) خلال مؤتمر علمي إحتضنته جامعة هوبكونز ياولايات المتحدة الأمريكية   أمام جمهور أمريكي إحتفى به أيما إحتفاء .

 هذا فضلا عن رغبة فيلسوف ما بعد الفوضوية الفرنسي ميشال أونفري إلى التأسيس للجامعة الشعبية وإخراج الفلسفة من السجون والقاعات إلى حيث الفضاءات العامة مثلما كانت عليه في زمن سقراط الذي أعدم بسبب إفراطه في توعية الطبقات المسحوقة ومدها بكل أسباب التميز العقلي والإدراك الفلسفي . وقد فعل ذلك ميشال أونفري عندما أسس هذه الجامعة لإزالة الفوارق والتراتبيات  المهنية والعلمية بين المتعطشين للمعرفة جامعة يلتقي فيها المتعلم وغير المتعلم خالية من (الطبقية الثقافية) بنص العبارة التي أوردها عبد الله الغذامي في مشروعه عن النقد الثقافي ومن الإسمية والشهاداتية  وهي جامعة   مثلما يقول ” تقدم معرفة وأسئلة ولا تقدم شهادات مفبركة لا علاقة لها بقيمة الإنسان الحقيقية ” (07) . خاصة وأن ميشال  أونفري قد ألحق هذا العمل بعمل آخر وهو عبارة عن كتاب نشره بعنوان ( تاريخ مضاد للفلسفة ) أعاد فيه الإعتبار لعدد مهم من الفلاسفة والبوهيميين  المنسيين الذين تجاهلتهم المؤسسة الفلسفية الرسمية ورمتهم خارج دائرة التداول النقدي.

والأكاديمي لإعتبارات دينية كما يقول كانت تستمد قوتها من سلطة الكنسية . التي لا زالت تتمتع ببعض التأثير.

 لكن أيضا لا يمكن الإكتفاء فقط بماورد في هذه المحاورة بين بائع البطاطا ومراد وهبة بل لا بد من العودة إلى النصوص الفلسفية المضادة التي كتبها مراد وهبة للوقوف على مضمون فلسفته التي لا تختلف كثيرا عن مضمون فلسفة غرامشي الفيلسوف الإيطالي الذي أعدمته الفاشية الإيطالية في ذلك الزمن عندما أبطل مفعول ذلك الزعم القائل بأن الفلسفة شأن خاص لا يحق لغير المتخصصين الحديث فيه أو الإقتراب منه وقد برهن غرامشي على صحة  فلسفته بأن البشر كلهم فلاسفة كما يرى واضعا نمطا من التفلسف يسميه  ( الفلسفة العفوية ) مقرا بأن هذه الفلسفة تتضمن ثلاثة عناصر أساسية :

” 01) اللغة نفسها وهي مجموع الأفكار والمفاهيم لا مجموع الكلمات الخالية من المضمون النحوي

02) الحس المشترك والفطرة السليمة

03) الدين الشعبي بما فيه نظام الإعتقادات والخرافات والآراء ووجهات النظر وأنماط السلوك (08).

وليس غرامشي فقط الذي أعدم بسبب خروجه المعلن عن قيم الطاعة الفلسفية المفروضة على المثقفين والمشتغلين بالخطاب الفلسفي والنقدي من طرف السلطة السياسية فسقراط أيضا أعدم لنفس السبب على مايستنتج ذلك شاعر وأكاديمي مغربي  هو صلاح بوسريف عندما اعتبر أن سقراط “كان يمثلا مرجعا للعقل الشارد الذي أشاع القلق في الساحات والفضاءات العامة وجر “العوام” إلى التفكير وفق آليات المنطق والعقل” (09) بما لا يتناغم مع إرادة السلطة الأكاديمية المعبر عنها  بلغة صلاح بوسريف (أسرى كهف إفلاطون) وهو يعني هنا الكهف المؤسساتي بوصفه فضاء كما يقول لترويض العقل

وبالطبع فدعوة مراد وهبة (لإنزال الفلسفة من عرشها) قوبلت بالرفض والاستنكار حتى أن خلدون الشمعة ينقل عن مراد وهبة واقعة أخرى جرت أطوارها بين مراد وهبة وزكي نجيب محمود عندما عارض زكي نجيب محمود دعوة مراد وهبة وقال له بالحرف الواحد “أنت ذبحت الفلسفة من الوريد إلى الوريد” (10) .

ولما قابله بعد سنوات وسأل مراد وهبة زكي نجيب محمود قائلا

هل لا زلت عند رأيك  … ؟

رد عليه زكي نجيب محمود

“إنه قصور مني  في إدراك العلاقة بين الفلسفة والتغيير” (11)

 …………………………

01 ) أنتلجانسيا أم مثقفون في الجزائر عمار بلحسن ص 177 دار الحداثة ، بيروت 1986

02)من تسييس الثقافة إلى تثقيف السياسة –عمار بلحسن- مجلة التبيين – ص07 .08- العدد الرابع -1991 – الجزائر

03) المختلف والمؤتلف ..تمثيلات المركز الغربي وشيطنة الآخر – خلدون الشمعة ص 241 منشورات دار المتوسط إيطاليا 2019

04) المختلف والمؤتلف ..تمثيلات المركز الغربي وشيطنة الآخر مصدر مذكور ص 245

05 ) عن الحق في الفلسفة – جاك ديريدا ترجمة عزالدين الخطابي – ص 43 منشورات المنظمة العربية للترجمة بيروت الطبعة الأولى 2010

06 ) عن الحق في الفلسفة المرجع السابق ص 35

07) ميشال أونفري الفيلسوف الفرنسي الأكثر شهرة – حميد زنار صحيفة العرب بتايخ 04/ 05/ 2014

08)الثقافة والهيمنة الإيديولوجية أنطونيو غرامشي ضمن كتاب غبش المرايا فصول في الثقافة والنظرية الثقافية   ترجمة وتقديم خالدة حامد ص 107 منشورات دار المتوسط إيطاليا 2016

09) المثقف الجامعي أو أسرى كهف إفلاطون صلاح بوسريف  جريدة القدس العربي 08 يوليو 2016

10) المختلف والمؤتلف ..تمثيلات المركز الغربي وشيطنة الآخر مصدر مذكور ص 244

11) المختلف والمؤتلف ..تمثيلات المركز الغربي وشيطنة الآخر مصدر مذكور ص 244

 

مقالات من نفس القسم