الجنون والحب في رواية “جسر النعمانية” لعبد النور مزين

جسر النعمانية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شيماء اضباني*

“جسر النعمانية” (منشورات سليكي أخوين، طنجة، 2024) هي رواية للكاتب المغربي عبد النور مزين، صدرت بعد تسع سنوات من روايته الأولى “رسائل زمن العاصفة”. تعالج في ثناياها إشكال التعدد الثقافي والصراع الهوياتي، وإن كان يبدو للوهلة الأولى كتيمة رئيسية في الرواية، إلا أنها غنية بتعدد المواضيع التي شكلت رؤية جمالية لها.

ترصد الرواية مصائر عائلة كل من السعيد بوخلافة وعائلة تزيري الريحاني، بعد الصراع الذي تفاقم  بين كل من الفصيلين: ” الذئاب القرمزية ” في شخصية قائدها الأكبر موحا الريحاني و”الذئاب البيض”.

في ظل الدمار الذي حل بالنعمانية وفي إطار الصراع بين الفصيلين لاقت الشخصيات مصائرها، هنا نجد أن الرواية تتمحور حول مآلات الشخصيات بعد كل المآسي التي كانت عرضة لها، وفي إطار بحثها عن ذواتها وحياتها تحكي الرواية مصائر شخصيات أخرى أثرت بشكل أو بآخر في حياة كل من أبطال الرواية، حيث شكلت العلاقة بينهم نوعا من التفاعل.

في إطار الشتات الذي حل بالنعمانية وما ترتب عنه في حياة كل من تزيري، والسعيد، كان للقدر رأي آخر رسم ملاحمه وحدد خطواته، حيث أخذت الحياة منحاها سواء عند السعيد بو خلافة أو تزيري. لكن العشق كان هو العامل المشترك في تطور حياتهما معا، كان نقطة الانطلاق ونقطة الالتقاء. حيث شكلت العاطفة جسرا يربط كل شخصية بذاتها، إلى أن احتل الحب كمفهوم حيزا مهما في تطور الجانب النفسي والاجتماعي لدى الشخصيات، وفي علاقة كل واحد منهم بالآخر.وهذا يدل على أن الإنسان بما هو كيان كلي يتحكم فيه ما هو عقلاني وما هو وجداني.

صحيح أن الخراب شتت النعمانية، لكنه لم يستطع أن يدمر حب السعيد لجورية التي شكلت قلبه النابض بالحب وإنما ظل يكبر وينمو في الغياب، فحضورها الغائب كان قويا وأعمق في حياة السعيد.

نجد أن حب الطفولة الذي جمع بين كل من السعيد بو خلافة وتزيري أو جورية كما يحلو له أن يسميها، ظل معهما طوال حياتهما، كل واحد منهما شكل لديه نظرة مختلفة لنفسه وعن الآخر.

كبرت جورية في الغياب، وكبر مع السعيد جنونه وهلوساته. صحيح أن الدمار الذي حل بالنعمانية والشتات الذي أعقب ذلك، ظل يلاحق السعيد كما ظلت جورية تذكره بالنعمانية؛ بل يمكن القول إنها ما تبقى للسعيد من النعمانية.كان حضور جورية طاغيا على حياة السعيد.

عشقه لها يستبد به أشد ما يكون الاستبداد ليصل إلى حالة الجنون وهنا نجد العلاقة التلازمية بين حالة الجنون التي يدخل فيها السعيد، ومع أول انفجار في النعمانية والسعيد يحضن جورية بين ذراعيه، بقدر ما كبرت جورية ونمت في الغياب بقدر ما كبر الخراب في حياة السعيد: “كانت الذراع اليمنى تلتف حول كتفي والذراع اليسرى تلتف حول خصري، وهو محاصر بين جذعي وجذع شجرة السنديان الكبيرة التي تلي الجسر جهة الشرق. جسر النعمانية.” ص: 19.

هنا نجد، من جانب، عشق السعيد لجورية الذي نما في الغياب وهيمن على حياته كلها، ومن جانب آخر حالته العقلية التي تميزت بالتدهور أو بعبارة أخرى “الجنون”، فقد شكل هذا الثنائي المتناقض أي” الحب والجنون” تيمة أساسية في الرواية بصفة عامة وفي حياة السعيد العقلية والوجدانية بصفة خاصة.

في ظل التشظي الشامل الذي أحاط بالسعيد وجد نفسه يكتب مجموعة من الرسائل لجورية أطلق عليها حقينة القلب، هنا نجد قيمة الكتابة التي طبعت العمل الروائي  بصبغة جمالية يخالطها الألم والتحسر على ذاكرة مضت وانقضت، وهنا يمكنا الحديث عن قيمة الكتابة في العلاج النفسي لدى المريض، وهذا ما تطرق إليه الروائي عبد النور مزين في قالب سردي يميل إلى لغة شعرية شفافة وعميقة. وهو ما يتضح في الرواية عندما زار المستشفى للعلاج: ” منذ أن أدخلوه إلى المحجز العقلي وهو يحاول أن يكتب على الحائط، أو في الهواء. لم يفهموا ما به. طلب بالإشارة في الهواء أشياء للكتابة. جعلتها الممرضة ضمن نوبة الهذيان حتى كانت مسك تتحدث إلى الطبيب المشرف. حكت له عن ملكات الكتابة لديه، وعن النعمانية والجير وجورية وجنون الشعر في كلماته.”  ص517. كتابات السعيد كانت شكل من أشكال الخراب الفظيع الذي تحتويه روحه في كينونته الداخلية. حيث كشفت الكتابة عن عالم السعيد الداخلي بكل ما يحمله من التناقضات.

السعيد استطاع تجاوز حالته النفسية والعقلية التي صاحبته طيلة حياته وكيف أن الشتات الذي حل بالنعمانية كان جزءا لا يتجزأ من نفسية السعيد التي أخذت من الدمار ما لا يقل عن الدمار الذي حل بالنعمانية، وكيف أن العودة للنعمانية من جديد تزامن مع عودة السعيد لنفسه، وذلك من خلال تصالحه مع ذاته، لقاؤه بأخته ماوية، وكذا حبه الجديد مع مسك التي لعبت دورا مهما في حياة السعيد، تجلى في كونها نقلت السعيد من حالة الجنون إلى  التصالح مع النفس والعودة لذاته والنعمانية.

صحيح أن الصراع مع الذات ومع الآخر كان حاضرا بقوة في الرواية. حيث لاقت كل الشخصيات مصائرها  الحتمية وتطورت حياتها بشكل مختلف عن الشخصيات الأخرى، لكن في ظل عوالم النعمانية، كان الجسر هو الرابط الأساسي بينها.

كان الجسر هو القلب النابض في النعمانية الذي يربط غربها بشرقها، وكذا هو الخيط الناظم بين الشخصيات والأحداث حيث من خلاله وعبره تعرفنا على مصائر الشخصيات. وهنا نجد الجسر كما شكل هاجسا جنونيا لأهم شخصية من شخصيات الرواية السعيد، نجده من جانب آخر يحمل دلالات عميقة كونه رمزا للحياة والأمل والتفاؤل والتواصل، حيث حظي الجسر بمكانة هامة في الأدب وهذا لا يخفى علينا من خلال أبرز الروايات الذي احتل فيها مكانة مرموقة نجد “حين تركنا الجسر” لعبد الرحمن منيف و” الجسر على نهر درينا” إيفو أندريت.

وعبد النور مزين طبيب وروائي مغربي ولد سنة 1965 صدرت له بالعربية ” قبلة اللوست” مجموعة قصصية سنة 2010 بالرباط، وديوان “وصايا البحر” سنة 2013 بطنجة، ورواية “رسائل زمن العاصفة” سنة 2015 بطنجة، قبل أن يصدر روايته الأخيرة “جسر النعمانية” سنة 2024.

………………..

*كاتبة من المغرب

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم