مستويات “التماهي” بين الغائب والحاضر في رواية”حجاب السَّاحر” لأحمد الشَّهاوي

نانسي إبراهيم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. نانسي إبراهيم

يعد مصطلح “التماهي” واحدا من أهم المصطلحات التي استخدمت في مجالات عدة كعلم النفس والسياسة والنقد الأدبي،فقد استخدمه (فرويد) في علم النفس لأول مرة عام ١٨٩٩ باعتباره”التعبير المبكر عن الرابطة العاطفية مع شخص آخر كمثال للذات،بوصفه شخصا يريد أن يكونه،أكثر مما يريد أن يمتلكه” مشيرا إلى اختزان ذلك على مستوى اللاوعي وإعادة الاستعانة به فيما بعد،بينما يعرِّفه علماء النفس المحدثون بأنه” سيرورة سيكولوجية في بناء الشخصية،تبدأ من المحاكاة اللاشعورية، وتتلاحق بالتمثيل أو التقمُّص للنموذج”.

ويعرِّفه الدكتور (مصطفى حجازي) في كتابه”سيكولوجية الإنسان المقهور” الصادر عن معهد الإنماء العربي/١٢٧ بأنه”استلاب الإنسان المقهور الذي يهرب من عالمه كي يذوب في عالم المتسلط أملا في الخلاص”.

وقد اقترب من هذا المعنى(ابن خلدون)في مقدمته[١٩٦/١]حيث أشار إلى أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها،فتنتحل جميع المذاهب لتقترب من عالمه وتستطيع مقاومته.

وقد انتقلت تلك المفاهيم إلى مجال النقد الأدبي،في وصف العلاقة ما بين المؤلف وشخصيات أعماله،أو بين الراوي والبطل،حيث إن الأصل اللغوي للمصطلح له جذوره اللغوية في معاجمنا العربية،ففي تاج العروس[٥١٠/٣٦](م و ه)”من المجاز:-أماه الشيء:خلط”،وفي المعجم الوسيط[٨٩٤/٢]”أماه الشيء:خلطه”،وهو ما يقترب من مفهوم(الحلول) عند الصوفية حين يحل أحد الشيئين في الآخر.

والمتتبع لكتابات (أحمد الشهاوي) كشاعر شكل لنفسه لغته وعالمه الخاص الذي يبتعد عن كل ما هو نمطي ومألوف منذ اختياره موضوعات وعناوين وإيقاع قصائده والتي منها(ركعتان للعشق، والوصايا في عشق النساء،والأحاديث(السفر الأول،والسفر الثاني)، كتاب الموت،باب واحد ومنازل،قل هي)والكثير يراه وقد اقترب كثيرا من التراث الصوفي وفلسفة الدين،والتاريخ وغيرها من الروافد الثقافية المتعددة التي انتقلت-رغما عنه-روحا ولغة إلى عالم الحكاية من خلال روايته الأولى(حجاب الساحر) الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في ثلثمائة وخمس وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، والتي تبدأ بالإهداء إلى روح والدته(نوال عيسى) الحاضرة الغائبة دوما في أعماله،والتي يرمز لها أحيانا ب(نون) النسوة،يعقبه إهداء ثان إلى (أحمد/الابن) مستخدما الجملة ذاتها التي سنراها في متن الرواية-فيما بعد- على لسان بطلته المحورية(شمس حمدي)،متحدثة إلى (عمر الحديدي) الشخصية المحورية الثانية في حديث تتماهى فيه شخوص المؤلف مع الكاتب،بل تتماهى الألوان مع اختلاف أحوالها الإنسانية”ضع بنفسجةً على قبري كلما طلعت شمسٌ”(٣٩).

تبدأ الرواية في حديث إلى المتلقي عبر ضمير المتكلم في سرد يتماهى فيه السارد الحقيقي بالمتخيل واضعا الجمهور معه في مأزق الكتابة، واختيار الشكل المناسب لعرض روايته”لن أذهب إلى نظرية ما سأكتبها أو أحكي قصتها،فالشكل الكتابي أمر فضفاض وواسع،وأنا أحب ألا أكون مملا،أو أجعل من يقرؤني يلتفت عني من فرط الملل والاستطراد والاستغراق في الدقائق والهوامش الصغيرة المغرية”(٩).

ويستمر في ذلك الحديث الذي يفترض جمهورا يحدثه في مواضع عدة “لن أتخذ أسلوبا يصدمك،ولكنني سأتبع هواي”(٢٢)،بل تصل به سطوة الكاتب أحيانا إلى تلك التوجيهات الصارمة بفعل الأمر،كأنه يسمعه “وعليك أن تجتاز معي سطرا بسطر،وليس فصلا بفصل كي تشاركني الكتابة،والخروج بشمس إلى نهارها الغائب،وأن تتعاطف معها،وأن تحبها”(٢٢).

ثم سرعان ما يبين هدفه من كتابة روايته ممتزجا بشخصيته الحقيقية والمتخيلة التي تريد النظر عميقا نحو ما لا يراه الآخرون من خلال عالم مواز تتجلى فيه الأنوثة بكل صورها(الجسدية والنفسية والروحية) بل البيولوجية كذلك (فصل لقاء نساء الثلاثاء والحوار الصحفي الاستقرائي عن (استئصال الرحم)، والحديث عن الحمل والولادة من خلال شخصية(شمس حمدي) التي” ازدوجت وتكاثرت وراودتها الأشباح عن نفسها كل ليلة،وتلقفها ذلك الثعبان الضخم،وأحيانا يضحي بها على أعتاب معبد مجهول حتى أصبحت تعيش خارج الزمان والمكان والمنطق في مكان بين اليقظة والحلم والماضي والحاضر”(١٠) حتى تماهت ذاتها مع الإلهة المصرية القديمة  (سخمت) وربما(إيزيس)،ولا تعلم هل حلت فيها،أم حلت هي بها عبر سرد أنثوي محكم يتخفى خلف سارد حقيقي تظهر شخصيته جلية في تماهٍ واضح مع شخصيتيه المحورتين الأنثوية والذكورية(شمس حمدي وعمر الحديدي)مع ملاحظة دلالات الأسماء بما فيها (غازي) الذي اتخذ من عالم السحر وسيلة للانتقام وبث السموم في جسد ضحيته شمس.

فتتجلى(أنا) الشاعر-بداية- عبر شخصية (شمس) التي تعكس نظرته الشخصية للمرأة التي تظهر من خلال كتاباته بصفتها مقدسة يجمع في كتابته عنها كل الهالات النورانية التي يجب أن تحيط بها،كما تتجسد ثانية عبر شخصية (عمر الحديدي) الذي يقدم ذاته داخل الرواية ممتزجا بكاتبه” فأنا من أهل الكشف والتأويل،والمعنى الباطن،والتخيل، والشطح في التوهم”(١١).

والمتابع لحركة السرد يراها متداخلة أيضا تعتمد على ضمائر عدة ما بين ضمير الغائب والمتكلم (الأنثوي والذكوري)،كما تتردد حركة الزمان والمكان ما بين الزمن الفعلي (الخارجي والداخلي) للرواية حيث زمن الكتابة الخارجي،والزمن داخل الرواية الذي يقع كلاهما في الزمن الحديث من خلال ذكر التواريخ أو ذكر الأحداث والأماكن صراحة، بينما نراها غارقة في التراث(المصري القديم  والإسلامي والموروث الشعبي)،كما تمتزج بعوالم غيبية وأسطورية تمهد سلفا لتقبل كل أحداثها بشغف القارىء الذي تجذبه الغيبيات ويسعى إلى متابعتها على اختلاف مستويات وعيه عبر عالم يمتلىء بالأسرار والمعرفة،فندخل معه خطوة بخطوة عالم السحر والجان والأحجار والخواتم والطلاسم المتوارث الذي يحشده الكاتب في روايته عمدا،فها هو (حجر الزمرد) الذي له” قدرات سحرية خصوصا في صنع الطلاسم والتعاويذ والحروز،ويمنح الأمان والثقة..وهو يرتبط بكوكب عطارد ويقضي على الطاقة السلبية والكوابيس المزعجة”(١٥)،كما آمنت الربات”بقوة الجواهر والرموز والسحرية للتأثير على حياتهن”،وها هو “سوار العضد” المطعم باللازورد والعقيق الأحمر والمزين بأشكال الذهب المطعم لأنثى العقاب لدرء الشر (١٦)،والكثير من الظلال المعرفية تحت مظلة سرد واحد يخدم الفكرة الأساسية للولوج إلى عالم السحر والخرافة والتي ارتبطت في وعينا الجمعي،كما ارتبطت بفكرة القداسة الأنثوية من خلال الآلهة العربية القديمة كالثالوث المقدس(اللات والعزة ومناة)،أو الفرعونية كسخمت وإيزيس كما ارتبطت بمعابد الآلهة وحرَّاس المقابر وعالم الكيمياء والفلك وحركة المد والجذر وخط الاستواء، ودلالات الألوان وأنواع الأقمشة والأحجار وتأثيرتها المختلفة،كما ارتبطت بعالم الطير والحيوان والورد واستخدمات اللغة والسحر بأنواعه مما يمزج الواقعي بالمتخيل،البشري والإلهي من خلال “الإيهام” والخطوط التي يصعب فصلها، بل تمييزها أحيانا من خلال سبعة وعشرين فصلا في عناوين أشبه بعناوين قصائد وتفاصيل سردي سينمائية تعيد إنتاج الواقع وإعادة تشكيله تحت رؤية مغايرة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم