شعرية الشذرة وبلاغة التكثيف في “العزلة غيرت عناوينها باكرا” لأحمد الدمناتي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

بماذا تتميز شعرية الشذرة في ديوان "العزلة غيرت عناوينها باكرا"؟  وكيف تؤثث بلاغة التكثيف متخيل القصيدة؟ وما السمات الفنية التي تميز شعرية الشذرة في الديوان؟ وكيف تسهم الصور الفنية في بناء هذه الشعرية؟ 





في ضوء هذه الأسئلة سنقارب المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر المغربي الطنجاوي أحمد الدمناتي الموسومة بعنوان دال وجميل: “العزلة غيرت عناوينها باكرا”.

ما يلفت نظر قارئ الديوان كثرة النصوص القصيرة المكثفة التي تتخذ سمت الشذرة، وتنطلق من إمكاناتها الفنية لتقول منطوقها الشعري، ولتقدح أبعادها الدلالية والترميزية. وبعملية إحصائية بسيطة لاحظنا أن هذه النصوص تنضوي، في الغالب، تحت عنوان يجمعها ويلخص في الغالب تيمة من التيمات التي يشتغل بها الشاعر، كما تكون منطلقا لتشكيل متخيله الشعري. ومن هذه النصوص نذكر: الخيال طفل أنيق، قصائد للجنون والعاصفة، أناشيد لفم المخيلة، ذكريات أنيقة، رحيق الطفولة، قصائد مائية، قلب القصيدة، شراسة الجسد، شاعر يرعى قصائده ليلا، قناديل القلب الجميلة، شاعر مفتون برماد الروح، بحر نسي ملحه. هذا فضلا عن تكوُّن عدد آخر من القصائد استنادا إلى مقاطع قصيرة مرقمة أو تحمل حروف أسماء أمكنة مثل: مكناس، عمان، العرائش وطن الشعراء، أصيلة، برشلونة، طنجة حارسة الحلم.

وبعض هذه النصوص هي التي سنتخذها عينة للكشف عن شعرية الشذرة وبلاغة التكثيف في “العزلة غيرت عناوينها باكرا”. يقول الشاعر في “أناشيد لفم المخيلة”:

1/ “نورس يتسلق شاعرا

قصيدة ترتب بحرا

النورس والقصيدة وجهان

لاتساع براءة العالم”

2/ “في منتصف العزلة

تستيقظ القصيدة مرتعشة

وتسأل الشاعر:

أين ظلي العذري؟”

3/”أعترف أن اللغة التي تخرج

من فم المخيلة

هذا الصباح

لا تكترث كثيرا لنشيد الجرح

ولا تحنو على أطفال

يسكنون تحت خيمة عباد الشمس”

4/”في كل كهف فنجان قهوة

يجد الشاعر متسعا

لترويض قصيدة مسكونة

بدم الأيائل

وسحر السؤال”.(ص.18/19)

 تكتنز هذه النصوص قدرا هاما من الإشارات تقدحها بلاغة التكثيف، وانطلاقا منها يتشكل متخيل كل نص على حدة، من جهة، ويتكون أفق لمتخيل جامع بينها، من جهة ثانية. وبهذه الشاكلة تكون موضوعة الانطلاق منبثقة من العنوان الذي يجمع هذه النصوص الشذرية، كما أن كل شذرة تستقل بذاتها وتكتفي بمنطوقها وظلال دلالاتها.

في النص الأول، وهو بعنوان:”تسلق” تنشد المخيلة أغنية البراءة: براءة العالم، فالنورس والشاعر معا وجهان لعملة واحدة.. إنهما يتسلقان المدى الواسع للبحر والقصيدة ليقولا براءة العالم، وهما يكابدان من أجل رد القصيدة وجموح اللغة إلى عفويتها وجمالها، وصد هيجان البحر وإعادة ترتيبه من أجل السكون والاطمئنان. وهذا ما تفعله المخيلة في سعيها إلى نشر البراءة والاطمئنان والجمال والسكون.

في النص الثاني المعنون “مساءلة” تنويع آخر على نفس الموضوعة، وسؤال آخر عن البراءة والطهر، إذ تتساءل القصيدة عن ظلها العذري، عن صورتها الأخرى التي توارت وهي سادرة في سباتها، أو في عزلتها. هكذا تصنع القصيدة معناها وتشكل وحدتها القائمة على بلاغة التكثيف، لكن لهذه العناصر الفنية صلة بما سبقها، وبما سيليها من نصوص. وعبر هذه الاستراتيجية الفنية يبني أحمد الدمناتي عوالم كتابته الشعرية/الشذرية.

في النص الثالث “اعتراف”، يصرح الشاعر أن لغة مخيلته تتمرد، وتأبى الاكتراث لنشيد الجرح، ولا تحنو على أطفال يسكنون تحت خيمة عباد الشمس. إنها لغة لا تريد الانتظام في سياق قصيدة تتغنى للبراءة والجمال والسكون والاطمئنان، كما أنها لا تكترث للجراح ومعاناة أبرياء العالم: الأطفال. وهكذا يتشكل متخيل النص استنادا إلى منطق الاختلاف، وهو يصور رغبة الذات الشاعرة في أن تقول القصيدة ما تحسه وما تشعر به، وما يتلائم مع رؤاها الفنية.

أما النص الرابع، فيتغنى، أيضا، بكتابة القصيدة وصعوبة ترويضها، وهي القصيدة المسكونة بالجموح والشك التي تأبى إلا أن تعذب مبدعها وتضنيه. إنها قصيدة عصية على التطويع مشاكسة. وبهذه الكيفية يقدم أحمد الدمناتي تنويعة تصويرية أخرى على ما صوره في النص السابق “اعتراف”. وبهذه الشاكلة تتمحور النصوص جميعا حول فعل الكتابة ومعاناة الإبداع، وصعوبة تغذية المخيلة بما يلائم متطلباتها الفنية.

ومن خلال كل هذه الإشارات والتأويلات التي سقناها بصدد هذه النصوص الأربعة نستشف أن الشاعر أحمد الدمناتي يوصل معانيه الشعرية في لغة مكثفة تقوم على بنية شذرية جلية، كما أن الصور الشعرية التي يوظفها الشاعر تخدم مقاصده وأبعاد نصوصه الدلالية، كما نلمس في الصور الآتية: “نورس يتسلق شاعرا، قصيدة ترتب بحرا. تستيقظ القصيدة مرتعشة، وتسأل الشاعر: أين ظلي العذري؟. اللغة التي تخرج من فم المخيلة، هذا الصباح، لا تكترث كثيرا لنشيد الجرح، ولا تحنو على أطفال. لترويض قصيدة مسكونة، بدم الأيائل، وسحر السؤال”.

هكذا تتأنسن المجردات ويتم تشخيصها عبر الاستعارات والمجازات، وهكذا يتم منح الإنسان صفات الجماد/ الدرج أو الشجر وما شابه ذلك. وكل هذه الصور تنخرط في أفق جمالي، وتشكيل دلالي يجسدان علاقة الذات المبدعة بالقصيدة وفعل الكتابة. 

وتشتغل نصوص “شاعر يرعى قصائده ليلا” بالشعر والكتابة والإبداع والخيال، تماما كالنصوص السابقة، وكغالبية نصوص الديوان التي جعلت من هذه التيمات محاور جوهرية في صياغة النص الشذري عند أحمد الدمناتي. وتتكون هذه “الوحدة الشعرية” من إثني عشر نصا مكثفا مرقما خاليا من عناوين صغرى. والناظر في هذه النصوص يلفي متخيلها الشعري مهموما بفعل الكتابة ومعاناة صياغة القصيدة، ومكابدة الواقع وتفاعل الذات المبدعة مع العالم. وهكذا تتنوع موضوعات هذه النصوص الإبداعية تنوعا كبيرا وتتنوع صورها الفنية وتغتني ببلاغة التكثيف وسحر اللمحة وأسر الومضة، مما يلفت نظر المتلقي ويجعله قادرا على الذهاب مذاهب شتى في تأويل مرامي الشاعر ومقاصده الشعرية. وسنتخذ بعض هذه النصوص منطلقا لتبيان غنى الكتابة الشذرية وطاقاتها التصويرية لدى أحمد الدمناتي، كما فعلنا مع النصوص السالفة.

النص 4: “شاعر يرعى قصائده ليلا

في فلوات الجسد

حتى تتزوج اللغة الخجولة

من إشراقات الحب”.

النص 6: “نملة مثقفة

تبيع للشعراء

أحلام الغجر المنسيين

في عيون لوركا”.

النص 8: “عوسجة موشحة بالليل

تحفر في أرخبيل الصمت

قبر القصيدة

وتشعل في جسد الشاعر

نار الكتابة/المنفى”.

النص 10: “فراشة تمسح عشب الذكريات

من ديوان شاعر

كي يبقى الربيع

منذورا لبهائها”. (ص. 46/48)

تكتنز هذه النصوص قدرا هاما من الإشارات تقدحها بلاغة التكثيف، وانطلاقا منها يتشكل متخيل كل نص على حدة، من جهة، ويتكون أفق لمتخيل جامع بينها، من جهة ثانية، تماما كما رأينا في النصوص الأربعة الأولى التي اشتغلنا بها. وبهذه الشاكلة تكون موضوعة الانطلاق منبثقة من العنوان الذي يجمع هذه النصوص الشذرية، كما أن كل شذرة تستقل بذاتها وتكتفي بمنطوقها وظلال دلالاتها. وهكذا نجد النص الأول يركز على تصوير وهج الحب وإشعال نار الكتابة في فلوات الجسد حتى تشرق اللغة الخجولة وتترك فتورها لتقول ما تستشعره الذات المبدعة من أحاسيس ومعاني. وبهذه الكيفية تربط الشذرة عبر بلاغة تكثيفها بين وهج الحب وإشراقاته الجسدية وبين ميلاد القصيدة وتوهج كلماتها. والمدار دائما، هو ارتباط الإبداع الشعري بالمعاناة واشتعال الروح.

ولعل نفس المعنى يردده النص رقم 6 الذي يصور مثقفة/نملة دائبة على بيع الشعراء أحلام الغجر المنسية في عيون لوركا. إنها نملة مصرة على استمرار التغني بأحلام لوركا وغجر لوركا المتمردين على الأعراف والقيم الثابتة. وما يقوم بذلك هم الشعراء. هكذا يعبر النص عن نمط آخر من الارتباط بالكتابة وعنفوان القصيدة.

وفي النص رقم 8 تصور الشذرة هذا التضاد الحاصل بين صمت الليل وقبر القصيدة، وبين صخب الذات الشاعرة التي تشتعل في منفى الكتابة ومنعزلها حتى تبدع، هذا الإبداع الذي يتوهج ليلا ويستمر. وبهذه الكيفية تتشكل بلاغة التكثيف لتقول معاني كثرا، ولتصور للمتلقي إحساس الشاعر بفعل الكتابة وقسوة ممارسة القول الفني الراقي.

أما النص الأخير رقم 10 فيصور رغبة الذات في التخلص من عشب الذكريات الضار حفاظا على استمرار توهج الكتابة الشعرية وبهائها. وبهذه الشاكلة تتصادى هذه الشذرة مع مثيلاتها في تركيزها على أهمية الكتابة وقيمة فعل الإبداع. كما أنها تبين رغبة الشاعر وتطلعه إلى أن تكون قصيدته خصبة معطاءة، أو أن يظل الزهو والبهاء للشاعر أبديين. والفراشة التي تمسح عشب الماضي وتسعى إلى استمرار الربيع من أجلها، فقط، دون غيرها.

بهذه الشاكلة تتحد هذه النصوص حول موضوعة واحدة لكنها تغتني بصور فنية متنوعة ناسجة عبر طاقة التكثيف جمالية خاصة للكتابة الشذرية عند أحمد الدمناتي.

وإذا تأملنا صور هذه النصوص الأربعة نجد نفس عناصر تشكيل الصورة، كما لامسناها في النصوص الأربعة الأولى، تحضر بقوة لتشكل متخيل كل نص على حدة: “شاعر يرعى قصائده ليلا، في فلوات الجسد، حتى تتزوج اللغة الخجولة. نملة مثقفة، تبيع للشعراء أحلام الغجر المنسيين. عوسجة موشحة بالليل، تحفر في أرخبيل الصمت قبر القصيدة. فراشة تمسح عشب الذكريات من ديوان شاعر”.

هكذا تتأنسن المجردات ويتم تشخيصها عبر الاستعارات والمجازات، وهكذا يتم منح المجردات صفات الإنسان وما شابه ذلك. كما أن الشاعر استعمل النملة والفراشة كقناعين/رمزيين للذات الشاعرة. وكل هذه الصور تنخرط في أفق جمالي، وتشكيل دلالي يجسدان علاقة الذات المبدعة بالقصيدة وفعل الكتابة.


مقالات من نفس القسم