سعيد نصر
تضم مجموعة “التى هى أحزن” القصصية للكاتب عمار على حسن ثمانى قصص قصيرة هى : غرفة تهزها الريح، إشارة،شبح الظهيرة، ينتظرون دموعه، على مايرام، وابو الجاز، سهر، والتى هى أحزن، والأخيرة تستحق أن تكون عنوان المجموعة ، فهى رواية قصيرة أو هي أطول قصة فى المجموعة وأشبه بالرواية، وتتجاوز فى عدد كلماتها القصص السبع الأخرى، وتتناول قضية حساسة ومهمة ولها تداعيات كارثية على نفسية النساء فى المجتمع المصرى، وهى جهل كثير من الرجال بالثقافة الجنسية، وعدم إدراكهم لاحتياجات النساء العاطفية والنفسية، ونظرتهم للمرأة على أنها مجرد دمية فى بيت الزوج وبهيمة على فراش الزوجية، ويلقى الكاتب الضوء من خلال تلك “القضية الأم” على قضايا فرعية عديدة ذات صلة بالعلاقة بين الرجل والمرأة، منها زواج القاصرات،و التدين الشكلى، وآفة الطلاق الشفهى، وهلع الأمهات والآباء من حصول بناتهم على لقب مطلقة، والخيانة الزوجية، الواقعية والإلكترونية، والتربية الخاطئة للبنات القائمة على القسوة والخالية من حنان الأبوة، والتأثيرات السلبية المدمرة للعلاقة الزوجية الناجمة عن عدم التوافق النفسى بين العريس والعروس عند الزواج، والتأثير المدمر للتدخين السلبى، فبطلة القصة “غدير” فتاة جميلة رومانسية شاعرة حالمة بفارس أحلام هادىء رومانسى،على شاكلة عمر الشريف فى أفلامه الرومانسية مع فاتن حمامة، و تراه فى مخيلتها،فى الأفق الأزرق البعيد، رجلا قويا قادرا على احتوائها بالحب والحنان، وليس بالقسوة والعنف، ولكنها تزوجت من عزمى جابر،طبيب وصولى مادى جاهل باحتياجات ومشاعر الجنس الناعم،وله فى الغشم والفظاظة من اسمه نصيب كبير، فكانت النتيجة الطلاق وابتعاد ثلاثة أطفال عن أمهم بسبب علاقة حميمة أشبه بالاغتصاب الجسدى، تسببت لغدير فى عقدة من الزواج، وجعلتها تعيش بقية حياتها فى دائرة خيالها وتخيلاتها مع فارس أحلامها،حيث شعرت فى نهاية القصة،ومن خلال سردية عجائبية بديعة، أنه يكلمها وتكلمه،ويطمئنها بأنها كانت محقة فى قرارها بالانفصال عن زوجها الغشوم،ويراها أجمل حكاية لامرأة رومانسية فى تاريخ الإنسانية،ويناديها بأوصاف تروق لها،وكانت ومازالت تشتاق لسماعها،مثل جميلتى وحلم عمرى ومدينتى وأيامى الحلوة وسيدتى وأيتها الرائقة، ويقول لها بصوت هامس ودافىء: “غدير.أنت وردة نضعها فى صدر أحلامنا … تجربة تنحنى أمامها رؤوس المحبين احتراما..”،ويقول لها أيضا:” أتدرين ماذا أود الآن يا صغيرتى الرائعة،يا ابنة السبعة عشر ربيعا أود لو آخذ رأسك على صدرى وأمسح شعرك بأصابعى،وأربت على ظهرك أيتها الطفلة الكبيرة .. وأحكى لك حكاية الشاطر حسن وست الحسن والجمال حتى تنامين … أود يا طفلتى الكبيرة لو أضع رأسى فى حجرك، وأدس وجهى بين نهديك الأبيضين وأبكى أيامك ..”
كل أبطال القصص ومعظم شخصياتها من الفقراء والكادحين،والمعذبين فى الأرض،والمصابين باضطرابات نفسية ولوثات عقلية،ومرضى القلب،والحالمين بالرومانسية،والجاهلين بالثقافة الجنسية والناس الطيبين الحالمين بـ”سترة بناتهم” بالزواج،والأطفال البريئة، فشعبان بطل قصة وابور الجاز طالب جامعى يقوم بإصلاح “بوابير الجاز” فى إحدى القرى للإنفاق على نفسه وإخوته “،وبطل قصة “شبح الظهيرة”رجل فقير يحمل عيدان القصب على رأسه ساعات طويلة فى حر الظهيرة ويقتات من بيعها للجالسين على مقهى عبود،وبطل قصة “على مايرام”،موظف بسيط فى مطحن وقع فريسة لأمراض القلب،بسبب إدمانه للنرجيلة نتيجة لتعرضه للتدخين السلبى لفترات طويلة،وقد تحول بيته إلى صيدلية أدوية،كيميائية وبديلة،لهذا السبب،وبطل قصة “إشارة”طفل فقير يجلس على حجر أمه داخل أوتوبيس فى إشارة مرور،ويعانى من الصهد الحارق،وطفلة ثرية تجلس فى سيارة أبيها الثرى تنعم بالموسيقى ولكنها تئن من شدة التكييف،ويجمع بينهما جو رومانسى ونظرات إعجاب،فى دلالة بديعة على أن الحب الرومانسى غريزة فطرية،وبطل قصة “غرفة يهزها الريح “رجل هش نفسيا،ويبدو أنه مختل عقليا، ولكنه ليس مضرا للأخرين،يعيش فى غرفة ضيقة على السطوح،ويتخيل أن لديه زوجة خائنة تستحق القتل لأنها باعت عمارته الشاهقة لأحد السماسرة من وراء ظهره،وبطل قصة “سهر” طالب جامعى فقير رومانسى أوقعه القدر فى فخ الإحساس الوهمى القاتل “الحب من طرف واحد”،فهو يحب فتاة جميلة من بيت ثرى فى قريته تحب شابا ثريا أخر من قرية أخرى،فى مجتمع يخطف فيه العريس الجاهز حلم العريس التفصيل،وبطل قصة “ينتظرون دموعه”رجل ماتت جدته التى أخذته من أمه وقامت بتربيته،وفعلت معه ما تفعله الأمهات الطيبات الكادحات مع أبنائها،ويظن البعض فى جنازتها أنه ليس حزينا عليها،بسبب صمته وعدم ولولته فى جنازتها،على الرغم من أن الحزن يقتله من داخله عليها،حيث يرسم الكاتب للرجل،فى نهاية القصة، صورة حركية بفرشاة علم النفس العاطفى معبرة عن حبه وحنينه لجدته وحزنه العاصف للعقل على فراقها ،فالراوى يحكى واصفا حالته عندما وجد صاحب عربة الكارو المحملة بالسلع التموينية يسأل عن دكان جدته،فيقول:”قبيل المغرب ظهرت فى انحناء الشارع عربة كارو محملة بالسلع التموينية، وجاءه مختلطا بصهيل حصانه المجهد صوت العربجى يسأل أحد الصبية عن مكان الدكان.عندها هب من مكانه،وجرى إلى العربة كما كان يفعل وهو طفل.”
بعض القصص يتميز بمقدمات خاطفة للذهن،وبعضها الأخر يتميز بنهايات صادمة لنفسية البطل وعاطفة المتلقى المتفاعل معه بفعل تقنيات سردية مؤثرة بقوة فى قلبه وعقله ومثيرة لدهشته، فالكاتب يبدأ قصة “ينتظرون دموعه”،بمقدمة خاطفة يقول فيها:” لم يبك عليها وهى تغيب أمام عينيه تدريجيا حتى انطفأت شمعتها إلى الأبد.”،ويبدأ قصة “غرفة تهزها الريح” بمقدمة خاطفة يقول فيها:” فى الرشفة الثالثة من كوب الشاى الساخن اقتحمت أذنى كلمته الجارحة.”، ويبدأ قصة “على مايرام”، بقوله:” حين وقع زلزالى الرهيب كان النور ينضح من بين تلافيف الشجرة العجوز التى تعانق النافذة.”، أما النهايات الصادمة لنفسية البطل وعاطفة المتلقى، فتظهر فى قصة “سهر”، فالطالب الجامعى المحب لحنان مسعود من طرف واحد ، والموهوم بأنها تحبه وتفضله على شاب ثرى من قرية أخرى،يستيقظ من غفوة حكاياته عنها لصديقه على هول مفاجأة صادمة وقاسية، تحدث له انهيارا نفسيا، وربما تسبب له الوفاة، حيث يحكى الكاتب:” وعاد من ذهبوا إلى بيت الثرى يتوسطهم شيخ الجامع، الذى قال للناس والفرحة تكسو وجهه:مبروك لكم جميعا، حضرنا خطبة بنت الحاج مسعود الصغيرة الست حنان.وما إن أنهى كلامه حتى سمع الناس صوت ارتطام مكتوم. نظروا إلى جانبهم فوجدوا العاشق قد سقط مغشيا عليه.”
وفى قصة “إشارة” نهاية صادمة لنفسية الطفل وعاطفة المتلقى المتفاعل معه بفعل سردية تعبيرية وتصويرية تشعرك بأن حياة الطفل تحولت من جهنم إلى جنة، عقب رؤيته لطفلة جميلة فى سيارة أبيها، تفاعلت مع إعجابه بها، ولوحت له بيدها، خلال توقف الاوتوبيس والسيارة بإشارة مرور فى الحر والزحام،ولكن النهاية كانت صادمة بالفراق الأبدى،وهى نهاية درامية مفتوحة و تشى بمقتل الطفل، حيث يحكى الراوى:” اخضرت الإشارة فجأة. ضغط سائق السيارة على زر فارتفع الزجاج، وانحبست الموسيقى،واندفعت العجلات تمرق إلى حيث لا يدرى الولد. تململ الأتوبيس وشحر واهتز بخطوات وئيدة، تأرجح لها الركاب،ولم يلق لهم السائق بالاً، لم ير رأس الولد المعلق فى وسط الشارع يبحث عن صاحبته التى غابت فى الزحام.”
الكاتب يستخدم الأحكام والأمثال الشعبية ببراعة للتعبير عن دواخل الشخصيات وإظهار مكنونها وطبع ملامحها فى ذهنية المتلقى،بهدف إثارة دهشته وجذبه للأحداث وتفاعله معها ، وهذه ميزة يتميز بها الكاتب فى كل أعماله الأدبية، خاصة العمل الذى بين أيدينا الآن “التى هى أحزن”، حيث يحكى فى ذات القصة:”وأخذتها نبيلة من يدها بعيدا،وهى تقول لها فى قرف:عزمى أحلى منها بكثير. فهزت رأسها، وقالت: الطيور على أشكالها تقع.”، ويحكى فى مقام أخر بنفس القصة:”ثم قال ساخرا:وهل أهلتك المذاكرة لدخول كلية الطب؟، وشعرت أن نصلا حادا رشق فى صدرها، فقالت والغيظ يفور فى عروقها:كلية الطب لم تعننى فى يوم من الأيام.ثم نظرت إليه ساخطة وقالت:العينة بينة.”، ويحكى فى مقام ثالث عن غدير وصديق أبيها ضابط الشرطة والذى استغل عدم وجود أبيها فى المنزل،و دخل على خط الصلح بينها وبين زوجها بنيئة سيئة وخبيثة :(فنظرت إليه بتوجس ولم تنطق، فتابع قائلا:الكلب الأعمى يقع فى النخل الرطب.وحين هزت رأسها فى استنكار واستفهام معا، قال لها:هناك مثل آخر يقول:”يدى الحلق للي بلا ودان”).،ويحكى الرواى فى قصة “غرفة تهزها الريح:” فلما انتهيت مد يده إلى ذقنى ورفعها حتى حلت عيناى فى عينيه وقال: حابسها فى البيت هى وعيالها.مالوا إليها فقلت كلاب أولاد كلبة. لذت بصمت طويل فصرخ فى:ما رأيك؟، فقلت له دون تفكير: الجزاء من جنس العمل”، وفى قصة “ينتظرون دموعه”، يحكى الراوى:”ومن خلف ظهره قال صاحبه للناس حتى يكفوا عن أسئلتهم التى لا معنى لها:شدة الحزن تجف لها الدموع.”،ويحكى الكاتب فى قصة شبح الظهيرة، عن البطل:” وراح يتابع القطار حتى اختفى، ثم قال: من زمان نفسى أسافر، حتى ولو إلى آخر الدنيا.فى السفر سبع فوائد.”،ويقول الكاتب عن غدير فى قصة التى هى أحزن:” وتذكرت وقتها الحكمة التى عقدها فى نفسها مدرس التاريخ،حين قال لها:يجب أن ننظر دوما إلى نصف الكوب الملآن.”، ويحكى الراوى عن العريس الثرى المغرور الذى رفضته غدير:”لكن العريس لم يلق بالا لهذا الكلام، وقال فى ثبات:خير البر عاجله.”
الكاتب يسستخدم فى قصص مجموعة”التى هى أحزن” سرديات وصفية وتعبيرية ترسم لوحات تشكيلية ومشاهد سينمائية تثير الدهشة فى ذهن المتلقى وتضفى على الأحداث طابع المتعة والإثارة، ففى قصة “التى هى أحزن”،يرسم الكاتب لوحة فنية قاتمة للعلاقة الحميمة، أشبه بمشهد سينمائى مرعب،يظهر مدى معاناة غدير الرومانسية مع زوجها عزمى العنيف الهمجى،حيث يحكى الراوى:”كان يقع عليها كالبهيمة، يطعنها بعنف، ويدهس جسدها ويقبله كيفما شاء،وهو يطلب منها أن تكون مستسلمة، ميتة، كحجر تدحرجه مياه دافقة، أو ورقة شجر يابسة تعبث بها ريح عاصفة. كان يتوحد مع نفسه في تلك اللحظات الخاصة،وكأنه يمارس العادة السرية.”،وفى ذات القصة يرسم الكاتب لوحة بديعة تعبر عن رومانسية غدير،حيث يقول:”هذا البيت رسمت جدرانه على أداء بطلات كل الأفلام الرومانسية التى شاهدتها. الزوجة العاشقة التى تنتظر زوجها حين يعود من عمله ظهرا، فتمسح عرقه براحتيها وشفتيها، وتخفف عنه ملابسه كطفل بين يدى أمه،وتأخذه إلى الحمام، لتسكب على جسده الماء، وتدعكه بالصابون والعطر،ثم تساعده على ارتداء ملابس أخرى نظيفة،وبينما هو يواصل قراءة الجريدة تكون هى فى المطبخ تغرف له فى أطباق لامعة طعاما شهيا قضت ساعات النهار الأولى فى تجهيزه.”
وفى قصة “غرفة يهزها الريح” سردية تعبيرية سينمائية عن الهلع والزعر الذى انتاب الراوى فى مدخل البيت القديم الذى يسكن فيه الرجل المضطرب نفسيا،حيث يقول الكاتب:”وماءت قطة فمرق فأر مذعور من بين أرجلنا، وعوى كلب راقد بجوار السور وزعق بوق سيارة وصرخت سيدة فى البناية المجاورة فى وجه بنتها التى كانت تدلى رأسها من النافذة وسحبتها بعنف إلى الداخل،فقلت له مبتسما، وأنا أحاول أن أسحب ذراعى بلطف: دقيقة واحدة، هاشترى علبة سجائر.”،وفى قصة
“على مايرام”،يوجد ثلاث سرديات وصفية وتعبيرية سينمائية تعكس الحالة النفسية السيئة التى يعانى منها مرضى القلب،ويرسم فيها الآلام بألوان سوداوية فى ذهنية المتلقى،بشكل يدفعه للتعاطف التلقائى مع حالة البطل المريض،والسرديات الثلاثة على لسان الراوى،باعتباره بطل القصة،حيث يحكى فى الأولى:”كنت تائها فى خواطرى المضطربة، وذكرياتى المشبعة برائحة الديتول المنبع فى جنبات المستشفيات والمصحات والعيادات الكبرى، حين هاجمني حيوان خرافى بشع،وحاول أن يصرعنى بضربة قاضية.”،ويحكى فى الثانية:”ورحت أمارس طقوسا رياضية عشوائية،وبان جسمى فى زجاج النافذة كشبح يصارع كائنا مجهولا.”،ويحكى فى الثالثة:” ولم تنقطع اليد الخشنة القابضة على قلبى. كل ليلة تخدعنى على عتبات المساء، وتتسلل إلى داخلى،وترقد متربصة حتى يأتى موعد النوم،فتفرد كامل أصابعها،بأظافرها المسنونة،ثم تضغط على التفاحة الطرية بعنف وقسوة، فأهب جالسا،وأهرع إلى النافذة،أو إلى الحمام،وأطلق الماء البارد فوق رأسى،وعلى صدرى.”
المجموعة القصصية لم تخلو من الواقعية السحرية،وذلك بتقنية الخيال والتخيل فى السرد والحكى، فعلى سبيل المثال لا الحصر،يحكى الكاتب عن غدير فى قصة “التى هى أحزن”:”ولاح هناك فى الأفق فارسها النبيل، يمشى الهوينى على الرذاذ الأبيض، يهبط ويصعد مع الموج، لكنه يسير فى خط مستقيم، ينتهى إلى رأس جميل ينام مفتوح العينين على جذع نخلة تداعبها الريح.”،ويحكى أيضا:”وتراءت لها على حوائط صالة المطار صور من الزمن البعيد، تبرق وتبهت كأحلام خاطفة، تحل وتموت فى سنة سريعة من نوم. واستقرت الصور على حقائبها التى دارت دورتها حتى انتهت إلى المكان الذى تقف فيه مرتبكة، تتذوق للمرة الأولى فى حياتها طعم الغربة.”،ويحكى فى نهاية هذه القصة عن غدير:”رأته يهل عليها مبتسما، صورته ربما هى التى رسمتها على الورق، وربما طرأ عليها تغير طفيف، أو لا تشبهه إلا قليلا، أو لا صلة للصورة بالأصل، لكنها أحست أنه هو،وأنها صغيرة مجردة من الأحزان والأولاد،فرحة بضفائرها المتراقصة،وأنه يمد يده إلى رأسها،ويضعها بين راحتيه، وينظر إلى أعماق أعماق عينيها النجلاوين،وينفتح صدره عن قلب نابض،وتظهر بالقلب شفتان مقددتان من حرقة العشق،فتقولان لها في امتنان:أيتها النبيلة الصابرة.. لا يضيع الله أجر المحسنين.”
المضمون الاجتماعى يغلب على قصص المجموعة، ولكنها لاتخلو فى الوقت نفسه من المضمون الفلسفى،فعلى سبيل المثال لا الحصر، يضع الكاتب فى قصة “وابور الجاز” مفهوم جديد للبطولة والبطل فى الحياة،فشعبان الشاب الفقير اليتيم الذى يكدح ويعمل للإنفاق على نفسه، ليكمل تعليمه ويجد وظيفة له فى المستقبل،ويأكل من الحلال ، بدلا من الانحراف لعالم الجريمة والنشل، هو رمز للبطولة والبطل، وهذا التعريف يكشف إلى أى حد صارت حياة الفقراء واليتامى صعبة جدا هذه الأيام، حيث يحكى الكاتب عن شعبان ،على لسان أبناء القرية، فى قصة”وابور الجاز”:” على المصاطب في المساءات الرائقة يأتى الناس على ذكر شعبان كثيرا. يقولون إنه نفسه طالب فى المدرسة الفنية الصناعية، مات أبوه وترك له أخت تكبره وتدرس بمدرسة التجارة، ويعول وإياها. ستة أيام فى المدرسة، ويوم واحد للعمل، يلملم فيه بعض قروش الفلاحين الكادحين ويعود إلى البندر.. بطل ..شاب محترم ..يأكل لقمته بالحلال ..والله بطل.”
وفى قصة”التى هى أحزن” يظهر الطابع الفلسفى فى شخصية غدير، حيث يحكى عنها الكاتب، فى وصف مشاعرها تجاه زوجها القاسى:” وتلك البرودة الراسخة التى حلت بعواطفها، دون أن تجرفها أبدا إلى حد الكراهية. ربما كانت تدرك وقتها، أو أن المواقف الراقدة فى اللاشعور أهدتها وعيا لا تلمسه، بأن الكراهية اهتمام، وهى لا تريد أن تهتم بهذا الرجل، الذى عبث بها كثيرا، وكان يحسبها دمية رخيصة.”، ويحكى الكاتب أيضا عن رد فعلها اللفظى والفلسفى على إعجاب زوجها العنيف بجمال جسدها، بقوله:”فعلت وجهها ابتسامة، وقالت: يا ليتك ترى أيضا جمال روحى.”
قصص مجموعة “التى هى أحزن” تتميز بالسرديات الدالة عميقة الدلالات والمعانى،ففى قصة”التى هى أحزن” سردية دالة على التأثيرات السلبية للتربية الخاطئة للبنات، الفارغة من حنان الأب:”ربما كان نادما أنه لم يأخذها فى حضنه يوما،وعاملها منذ أن كانت تحبو على الأرض على أنها مسؤولة عن أفعالها.”،وسردية دالة على هلع الآباء والأمهات من حصوب بناتهم على لقب سيدة مطلقة، حيث يحكى الكاتب عن غدير:”كلما ألحت عليها رغبة فى الخلاص، تتذكر قول أبيها: أفضل موتك عن أن تكونى مطلقة فى هذه السن.وتقول لها أمها:إن طلبت الطلاق سأقاطعك طيلة عمرى،وسيكون قلبى غاضبا منك إلى أن ألقى وجه الله.”،ويحكى فى مقام أخر:”لكن صوت أبيها آتاها عبر الهاتف صارخا، حتى ظنته يكلمها من الحجرة المجاورة.أخبرها أن عزمى هاتفه وحكى له ما جرى، وقال لها فى صرامة:إن رجعت طالقا فابحثى لك عن بيت آخر… وإن بقيت فى بيتى سأحبسك، ولن أسمح لك بأن تعملى أبدا.”
وفى سردية دالة فى قصة “التى هى أحزن “على فظاظة وجفاوة عزمى جابر وجهله التام بالثقافة الجنسية،يحكى الكاتب:”وكان يحسبها دمية رخيصة.طالما قالت له فى إلحاح باك:أحتاج إلى أن تدرك ما بداخلى وطالما رد ساخرا:لا وقت عندى لهذه الحماقات.”،وفى قصة” التى هى أحزن” سردية دالة على التدين الشكلى،حيث يحكى الكاتب:” وقالت له ذات ليلة: أنت رجل تحافظ على الصلوات الخمس، فكيف يستقيم لك أن ترى مثل هذه الأفلام.. فضحك وقال:هذه نقرة وتلك نقرة..فقالت ساخرة:نقراتك لا تنتهى.”،وفى سردية دالة على التوق للحرية بمفهومها الرومانسى،يقول الكاتب فى “التى هى أحزن”:”لكن ما يأسرها هو المدى المفتوح إلى النهاية، والشمس الطليقة،والأشرعة المسافرة في تمهل، وتلك الصخرة الكبيرة الراسخة منذ سنين طويلة.”
قصة “التى هى أحزن ” تتضمن سردية دالة على العلاقة الوطيدة بين الضرب فى الصغر والجبن فى الكبر، حيث يقول الراوى:” وحلت محلها ذكريات مخيفة، لأب متجهم،وأم صامتة،وهى تجلس حول مائدة استذكار دروسها،ترمق العصا الرفيعة التي تلسع يديها كلما أخطأت فى حل مسائل الحساب.هذه العصا،وذلك التجهم، صنعا منها بنتا مطيعة،لا تجرؤ على أن تعصى لأبيها أمرا. وقسا الرجل عليها،فساقها دوما إلى طرق لا يروق لها السير فيها،وهو يقول لها فى صرامة:أنا أبوك وأعرف مصلحتك.”،وتتضمن أيضا سردية دالة على قهر الزوج للزوجة بالعنف الجسدى والغباء العاطفى،حيث يقول الكاتب”:” وانتهى شرودها إلى اللحظة التي تعيشها الآن،امرأة محطمة يائسة، تعيش أعراض الشيخوخة فى ريعان الشباب،وتسرى فى أعماقها رغبة فى الغياب الأخير عن هذه الدنيا برمتها.”
وفى سردية دالة على الطيبة والخير فى قلوب الفقراء الكادحين، فى قصة “شمس الظهيرة”، من خلال رمزية بائع القصب ، يحكى الكاتب:” وبعد دقائق، جاء كلب مرقط، شعره أبيض تزركشه بقع سوداء. كان يلهث من العطش،ومن عينيه يطل جوع شديد.وقف عند رأس الرجل،وراح يحملق فى وجهه مليا، ثم مد لسانه، وراح يلعق شاربه فى هدوء، ثم رمى جسده بجوار الرجل،وراح هو الآخر فى نوم شديد. “،وفى سردية دالة على التأثيرات الكارثية للتدخين السلبى يحكى الكاتب فى قصة”على مايرام”: وبدلا من الإقلاع عن أماكن السموم السوداء الطائرة،وضعت للمرة الأولى فم النرجيلة فى فمى،وقبلتها كارها، أو مستطلعا فى فضول غريب،ثم أقبلت عليها مطيعا محبا، وفتحت الطريق أمام الدخان ليجرى فى عروقى،وللنيكوتين ليحل برأسى فتدور وتسترخى فى راحة عجيبة.”
الكاتب فى قصة “هى التى أحزن” يعزف من خلال الخلط بين السرد والحوار على وتر مشاعر المتلقى،بشكل يصب فى خانة الحبكة القصصية،والتى تدفع بغدير إلى حتمية الخلاص من زوجها عزمى،وذلك بالطلاق بلا رجعة،وقد نجحت السردية الوصفية والتعبيرية فى رسم صورة فظة لعزمى تدفع المتلقى للتعاطف مع البطلة فى طلبها الطلاق منه،فإلى جانب بخله الشديد معها وخيانته الزوجية لها فى امرأة أقل منها جمالا، يحكى الكاتب عن علاقته الحميمية بغدير: “وقالت لأمها ذات مساء يقع فى هواى كل من يرانى … والرجل الذى ارتبط به يعاملنى كدمية رخيصة.”، ويحكى عن غديرأيضا:”فردت بغيظ: وهل من الأصالة أن تعاملنى كالبهيمة.”،ويحكى فى مقام أخر:” فقالت فى غيظ: هذا أفضل كثيرا من العيش مع رجل لا يحترم مشاعرى.”، ويصف الطابع العنيف لعزمى بقوله:” فقبض على ذراعها وقال: سأقتلك حقا لو لم تفعلى ما طلبته منك.. فنظرت باستهانة إلى أصابعه الخمسة التى تضغط على قطعة من لحمها، وقالت: لن تنال منى أي شىء إلا إذا راعيت إنسانيتى.”
وفى ذات القصة يرسم الكاتب صورة لطبيعة عزمى جابر تتماهى تماما مع طريقته فى التعامل العنيف مع غدير على فراش الزوجية ، وكأنها علاقة من طرف واحد،حيث الكاتب طبيعة عزمى المادية بقوله :”مصلحته هى سيده، والمنظار الذي يطل به على العالم، ويفهم به كل الأمور التى تجري حوله، وكل ما يصدر عنه من تصرفات، حتى ولو فى الفراش.”،ويحكى عن طريقته العنيفة فى العلاقة الحميمة:”طالما قالت له فى إلحاح باك:أحتاج إلى أن تدرك ما بداخلى…وطالما رد ساخرا:لا وقت عندى لهذه الحماقات.”، ويحكى عن غدير:” كانت ممزقة بين فرحها بالخلاص، وحزنها على أولادها. لكنها لم تكن تشعر بتأنيب الضمير. وقالت بصوت مسموع دون أن تدرى: فعلت كل ما فى وسعى من أجل أسرتى.
وفى سردية حوارية تصب فى ذات الاتجاه، يحكى الكاتب عن معاناة غدير مع زوجها عزمى من خلال سردية عميقة الدلالة والمعنى، يقول فيها:
” وعاد ليجدها ملقاة على ظهرها، تحملق فى السقف، وعلى وجهها غم مكتوم. جلس جانبها وقال:
ـ ألم يفارقك النكد بعد؟.
فالتفتت إليه وقالت في جدية:
ـ لم تتغير.
فندت عنه ضحكة كالعطس، وقال:
ـ الرجل الأصيل لا يتغير.
فردت بغيظ:
ـ وهل من الأصالة أن تعاملني كالبهيمة.
ونظر إليها صامتا، وملامحه منقبضة، فتابعت:
ـ تخيلت أن لقاءنا سيكون مختلفا.
فعبث بأصابعه فى ذقنه وتساءل:
ـ كيف؟
فقالت:
ـ كان يجب أن تسألني أولا عن حالي. تجلس بجانبى، نتحدث سويا، وسيأتى ما فعلته طبيعيا، فيلبى حاجتى مع حاجتك.
لكنه أشاح بوجهه عنها وقال:
ـ لا وقت لدى للحديث، أهلى على وصول”.