محمد حسني عليوة
بمستوى يليق بشعرية الصوفي المتقد حضورًا بذاته في كل ذات، حضورًا ليس حضورَ “أنا” منفصلة، بل اندماج كلّي في النسيجِ الكوني، حضورًا يجعل من الكلمة مرايا للنور والظل.
وحيث لا مسافة بين السرِّ والمكشوف، بين الوضوح والغموض.. نحاول أن نقرأ بين ثنايا نصوصه بلغةٍ صوفيةٍ متوهجة، يتم التركيز فيها على الصور والرموز – مثل: الماء، الشجر، الضوء والظلام، النيل، المرأة، الحب، الطير… الخ– وكيف تتحول إلى لغة تعبّر عن حالات روحية وعاطفية تفوق المعنى الحرفي للكلمات، بما تحمله من دلالات متعددة تُثري التجربة الشعرية.
بعبارة أخرى، تهدف قراءتنا إلى فك شفرة النص للوصول إلى رسالة أعمق، تُعبّر عن رؤيته الخاصة للكون والذات. وهذا على نحوٍ من شِقّين رئيسين:
- الدلالة كمقام صوفي: التأويل بلا سقف؛ حيث تحمل الكلمات معاني مباشرة وأخرى خفية. مستخدمًا الانزياحات اللغوية لخلق عالم شعري غني بالدلالات التي تتطلب من القارئ التأمل والتفكير.. (والانزياح هنا ليس تسليمًا بالخروج عن المألوف، بل أداة فنية تعكس رؤيته الخاصة، لذاته، للطبيعة، للوجود، وللعالم؛ فعلى سبيل المثال، قد يستخدم كلمة “الماء” – بشكل غير مألوف- لتعني الروح أو الوجود، مما يخلق دلالات جديدة تتجاوز المعنى المباشر للكلمة.
كما أن إنزياحات الصورة البلاغية لا تأتي بظاهر الزخرفة اللفظية، بل هي أساس بنية الرؤية الفكرية للقصيدة.)
كذلك الحال في تعامله مع “الروح”، فهي إما: “كمساحة للحب والعشق”/ وسيطًا للوصول إلى الحب المطلق. كما نجد في قوله: “يتوضأ من ينبوعٍ بين النهدين”، فهي هنا تُطهَّر وتُرفع إلى مستوى الحب الإلهي. إما “كقوة ديناميكية” تتحول وتتغير. وقادرة، في نفس الوقت، على التطور والنمو. وإما “كرمز للوحدة بين الإنسان والطبيعة والكون”.. كقوة حياة تربط كل شيء ببعضه البعض.
- الإحالة إلى مفهوم الرمزية في نصوصه:
فالرمزية، أحد الركائز الأساسية التي يقوم عليها عالمه الشعري، في خلق عالم شعري غني بالدلالات، والتعبير عن التجارب الداخلية برؤية فلسفية وشعرية تعكس تعامله مع اللغة والعالم، كما أنها تخلق تفاعلًا بين النص والقارئ. فلا يستدرج القارئ لصناعة حالة من التلقي السلبي، بل يدفعه للمشاركة في عملية الخلق والبحث عن المعاني الخفية، حيث تتجاوز الكلمات السطحية لتصل إلى مستويات أعمق من التأمل حول الحياة والوجود، ما يجعل التجربة القرائية مميزة وفريدة.
كما أن هناك ثمة علاقة فارقة بين الرمزية والدلالة: حيث أن الرمزية لا تُطرح بمعزل عن الدلالة، بل يتداخل المفهومان في أوعية مصطفّة الطبقات؛ تجعل من كل رمز حاملًا لمعانٍ متعددة، ومن كل دلالة امتدادًا لرؤية فلسفية متحركة، يمكن قراءتها وتأويلها وفق سياقات مختلفة.
فالرموز كمولد للدلالات، تظهر كعناصر مشحونة بطاقة دلالية تتجاوز معانيها المباشرة. الماء، على سبيل المثال، يتخذ دلالات متغيرة تبعًا للسياق: فيكون رمزًا للطهّر والتجلي الروحي كما في التصوف، وقد يشير إلى الضياع والتلاشي في لحظات الانكسار، أو يتحول إلى استعارة للغة نفسها، حيث تتخذ الألفاظ حركة الماء في تدفقها وانسيابها.
والدلالات كامتداد/ مرآة للرؤية الفلسفية المتعلقة بالوجود، الزمن، والمطلق. وهنا يمكن أن نقول أنها تتجاوز المعاني التقليدية، فمثلًا: “الظل” يصبح علامة على المسافة بين الذات والحقيقة، و “النيل” رمز التاريخ والتراث والهوية؛ يعكس رؤية الشاعر للجذور والذاكرة الجمعية.
وقد سعينا، في هذه القراءة، إلى تقسيم التحليل الرمزي والدلالي في نصوصه إلى عدة محاور رئيسة، كالتالي:
- محور البنية والأسلوب:
تتجلى بنية شعرية متناثرة تشبه رقصةً تقف على حواف الذاكرة، حيث تتداخل التفعيلة التقليدية مع الشعر الحر في تناغم هشّ يجمع بين الإيقاع الكلاسيكي وإنزياحات الحداثة التي تبدو مترددة أحيانًا. يفضل الشاعر استخدام جمل مقطَّعة وغير متوقعة، مما يدفع القارئ إلى إعادة تركيب المعنى بشكل نشط، وكأنه مشارك في عملية الخلق الشعري ذاتها، ما يضفي على النص طابعًا غنيًّا ومتعدد الطبقات.
ولتحليل الرؤية التي تعكسها نصوص أحمد الشهاوي، يمكننا أخذ مثالين بارزين، كما في قصيدة: “الحزن مفتتح لأغنية الفتى”، وقصيدة: “خمسة مقاطع لحزني الطويل القامة”.
والنصان، يعكسان كيفية توظيف الشهاوي ، للرموز والإشارات الشعرية لاستكشاف قضايا وجودية وروحية.. ما يجعل نصوصه غنية بالدلالات المتعددة التي تلامس القارئ على مستويات مختلفة.
في “الحزن مفتتح لأغنية الفقد” تُعدّ نموذجًا بارزًا للشعر الصوفي الذي يجمع بين العمق الفلسفي والتعبير الفني الرفيع. من خلال بنية النص ودلالاته، تتميز ببنية شعرية حرة، دون ضرورة لالتزام بقوافي معينة أو إيقاعات تقليدية. كل سطر فيها يحمل دلالات متعددة، ما يجعلها تتخذ موقعًا محوريًا في تشكيل التجربة العاطفية والفكرية، وكتجربة تأملية تساعد على فهم طبيعة الوجود.
فمن حيث الإيقاع والتشكيل الشعري؛ فإن الشهاوي يمنح النص ديناميكية خاصة تعكس حالات التحول الداخلي لدى الذات الشاعرة، وذلك بحركة سلسلة بين الجمل القصيرة المتقطعة، بما يعزز الإحساس بالتردد والبحث، وهو ما يتوافق مع بنية القصيدة الصوفية التقليدية التي تمزج بين التأمل والانسياب اللغوي.
ومن حيث “التناص” مع التراث الصوفي والفلسفي: يستدعي النص مفاهيم تتصل بالرؤية الصوفية للحب والاغتراب، حيث يصبح “الفتى” كيانًا يبحث عن جوهر الحقيقة في الألم والتأمل. يتقاطع ذلك مع التراث الصوفي عند “الرومي” و”الحلاج”، حيث تتردد أصداء فلسفية حول الوجود والمعرفة، مستعيدةً جدليات الكينونة والتحول التي طرحها الفلاسفة الإغريق والعرب.
أما من البعد الرمزي والدلالي؛ فالحزن يتجلى كـ”بوابة” إلى فهم أعمق للذات والوجود، يستحيل معها عنصرًا بنائيًا يشكّل رحلة الفتى عبر الألم والبحث عن الحقيقة، في تماهٍ مع المفاهيم الصوفية التي ترى في الحزن أداة للتطهير الروحي.
“ويسألون عن النبأ العظيم؛ فقل لهم:
حُزْنٌ بداخلنا
مُزْنٌ يُفاجِئُنَا
وطنٌ يغادرنا
بُعدٌ يقرّبنا
عشقٌ يُؤججنا
ويُبقينا السؤالْ”
كما أنّ، ثمة التناقض بين “الضوء والعتمة“، “الفرح والحزن“، و”الوطن والمنفى” يشكل ثنائيات متشابكة تعكس توتر التجربة الوجدانية للشاعر. وهي ليست أداة جمالية فحسب، بل “فعل كينونة” يعكس طبيعة التجربة الصوفية التي ترى في التقابل بين الأضداد وسيلة للوصول إلى الحقيقة.
و نص “خمسة مقاطع لحزني الطويل القامة”، حيث يتبنى الأسلوب الحداثي من حيث البناء المفتوح والصور الرمزية والتكثيف الدلالي. كما يتجلى تأثير الفلسفة الوجودية من خلال التساؤلات حول جدوى الفعل الإنساني، والبحث عن المعنى في عالم مضطرب، كما يظهر عند سارتر وكامو.
– ولادة الحزن من التناقضات؛ فالشاعر يبدأ نصه بـ :
“طفلٌ لم يبلغ التاسعة
رشرشَ الأرضَ قمحًا؛
فأنبتت ناسًا جائعةْ!”
وهي تلخص مفارقة الحياة، حيث تتقاطع البراءة (الطفل) مع القسوة (المجاعة). الزرع رمز للأمل، لكن النتيجة جاءت معكوسة، ما يؤسس رؤية تشاؤمية حول جدوى الفعل الإنساني في عالم يسوده الحرمان.
“ليس ما تدفع الآن
ثمنًا للشرابِ المُصفى
لكنه
أول الغيث
أول الزيف
أول البيع
وأول الاواخر التي قد تستقر في الدماغ
وتسقطُ الأرضُ في اليدِ الفراغْ“
يتخذ هذا المقطع بعدًا فلسفيًا، حيث يطرح فكرة أن الفساد والتزييف يبدأان بتنازلات صغيرة تتراكم حتى تتحول إلى نمط سائد. عبارة “أول الغيث.. أول الزيف” تبرز العلاقة المتلازمة بين البداية الفعلية والانحراف التدريجي، مما يعكس رؤية وجودية للفساد كحتمية غير مرئية في البداية.
ولنقرأ هذه الفقرة بتمعن:
“كان ينتظر الحافلة
فلمّا لم تجئ
دار دورتين في اليمين واليسار
وسار نحو نجمةٍ بعيدة المسار
وأسند الذراع
وأفرغ حزن الأراضين
في أنهرِ السماءِ القاحلةْ”
رغم ما تتسم به، من بساطة مفردات ووضوح صورها، غير أنها تخفي وراءها طبقات من المعاني العميقة. الأفعال الوصفية مثل “كان ينتظر”، “دار دورتين”، و”سار نحو”.. تُظهر حركة مادية للشخصية، لكنها تشير أيضًا إلى حركة داخلية في النفس البشرية، بما تمثله من لحظة “تحول نفسي”، بدأها الشاعر بـ مشهد درامي داخلي واغتراب وجودي يُصدر للقارئ حالة من الترقب وانتظار المجهول. وفي دلالة فلسفية، نرى أن “الحافلة” و”النجمة” يمثلان الفرص والأهداف التي يسعى الإنسان لتحقيقها، لكن غياب الحافلة وبُعد النجمة يعكسان الصعوبات التي تواجه الإنسان في حياته اليومية.
يتعزز هذا المعنى مع الصورة شديدة الكثافة تعبّر عن خيبة الوجود الإنساني، حيث يقول:
يُفرغ حزن الأراضين
في أنهر السماء القاحلةْ
فالحزن هنا ليس شخصيًا فقط، بل هو حزن شامل (“الأراضين”)، وكأن الذات تتماهى مع ألم الوجود نفسه. أما أنهر السماء القاحلة، فهي تناقض صريح يجسد المفارقة العميقة: كيف يمكن لأنهر أن تكون قاحلة؟ هذه الصورة تطرح رؤية عبثية، حيث يصبح البوح بالحزن مجرد صرخة في الفراغ، وصراع الإنسان مع معاناته لا يجد صدًى في الكون.
وفي المقطع الرابع:
“حينما فرغتُ من كتابة الرسائل
سألتني
هل تستطيع كلمتي
أن تستعيد وجهيَ المسافر
وجهها المُعبأ في دمي؟!”
يطرح الشاعر سؤالًا جوهريًا عن قدرة وإمكانية اللغة في مواجهة الفقدان. لكنه في النهاية يترك الجواب للحزن نفسه، الذي يؤكد أن الدم، أي المعاناة والتجربة المباشرة، الأكثر قدرة على استعادة الحقيقة. هذا يعكس إحساسًا بعدم جدوى اللغة في التعبير عن جوهر المعاناة الإنسانية، وهو موقف نجده في كثير من التجارب الحداثية.
ويختتم الشاعر نصه، بالمقطع الخامس، إذ يقول:
“تحت وطأةِ التتابع الغريب
أقوم تفتحُ عيناي أبوابها
للنهار القريب
فأبصر في ساحة الدار
شيئين:
ظلمتي،
وأشجار حزنٍ بامتداد قامتي
تحاول الشروع في الهرب
لكنه التعب
أسكن سيقانها غرفتي
ووّزع أوراقها وجهتي
وغرّس أثمارها في الكتب“
في صورة بصرية ترسم مشهدًا داخليًا للحزن. فالحزن يستحيل أشجارًا ممتدة القامة، أي أنه يتجذر في أعماقه. لكنه لا يستطيع الهروب، لأنه مرهق ومستنزف. اللافت أن هذه الأشجار لا تنمو في أرض الواقع، بل في “غرفته” و”كتبه”، مما يشير إلى أن الحزن أصبح جزءًا من وعيه وثقافته الخاصة.
*
وهذه الرؤية تأخذنا إلى الحديث عن مفهوم “التناص“، كما تظهر من خلفية، الشاعر، الثقافية وتنشئته في بيت أزهري وتعرضه للإنشاد الصوفي، وقد طبَعه باستخدام الرموز الصوفية بشكل متكرر، بما يشكل بُعدًا جوهريًا يثري تجربته الشعرية، من تداخل الأصوات النصية المختلفة لتوليد معانٍ متعددة، كوسيلة لخلق مستويات من الدلالة، حيث تتماهى التجربة الفردية مع أصداء تراثية وفلسفية، ما يمنح النص عمقًا يتجاوز البوح المباشر نحو أفق أكثر رحابة وتأملًا.
نرى ذلك، مثلًا، في: “رحتُ أشدُّ أساكِ من الجُملِ المنسيّة”، التي تتخذ شكلًا حواريًا داخليًا يمزج بين التساؤلات المتلاحقة والتأملات العاطفية العميقة. تتكرر أداة الاستفهام “ماذا لو؟” بشكل إيقاعي، ما يخلق توترًا داخليًا يُشبه الحصار الذاتي الذي يعانيه الشاعر. كل سؤال لا ينتظر إجابة، بل يعمّق الشعور باللايقين والحنين والقلق الوجودي.
فعبارة “ماذا لو عشتُ أشمُّ روائحَ جسدكِ” أحالت الجسد إلى تجربة حسية متجددة، وكأن الزمن يُختزل في الرائحة، في ما تبقى بعد الحضور الفعلي. هنا، الجسد ليس مجرد كيان مادي، بل وسيلة لاستعادة ما لا يمكن استعادته.
لكن هذا أيضًا يحمل بعدًا مأساويًا: هل يمكن للروائح أن تعيد الماضي، أم أنها مجرد أوهام حسية تضللنا بأننا ما زلنا هناك؟ القصيدة لا تجيب، بل تتركنا مع هذا السؤال.
– في قوله: “ينام في شكّه”, هنا الشاعر وكأنه يعترف بفراغه الداخلي، لكن ليس فراغًا سلبيًا، بل هو حالة من الانتظار الروحي، حيث يصبح الإنسان مستعدًا لاستقبال الحقيقة المطلقة.
– في قوله: “العِرق الذهبي النائم في أعلى جبل الصمت”, العِرق الذهبي يرمز إلى الكمال الروحي أو الحقيقة المطلقة. لكن الطريق إلى هذا الكمال ليس سهلًا، فهو يتطلب أدوات خاصة “الماس الأحمر”، أي الجرأة والإصرار على تحقيق الذات.
– في قوله: “لن يصحو إلا بنفاد السكين إلى قلب العتمات”, دعوة إلى كسر القشور الخارجية والولوج إلى العمق الحقيقي للأشياء. السكين هنا يرمز إلى الجرأة والإرادة القادرة على الاختراق.
“يتحرك قبرٌ كلَّ مساءٍ ويسافر كي يتدفأ بكِ”
هل القبر موتٌ؟ أم حياةٌ أخرى؟ هل هو كيان ماديّ أم روح تتجدد في جسد جديد؟ لا يقدم الشاعر إجابة؛ لأنه ليس من وظيفته أن يمنحك اليقين، بل أن يجعلك تسير في المتاهة؛ حيث تبدأ الأسئلة ولا تنتهي.
– وفي توحد “ذاته” الصوفية مع الكون، حيث تتلاشى في بحر الوجود. يقول:
“خيالي حرٌّ”، في حالة تعكس التحرر من قيود الجسد والعقل؛ فالخيال مركبة الروح التي تسافر في فضاءات مُشرعةً لها كل الآفاق.
وفي تعبيره عن تجربة روحية تتجاوز حدود الواقع المادي، يقول: “أشرب ماءً لم تعرفه سماءٌ”؛ وهنا لا يصف عطشًا، بل يُجسِّد توق الروح إلى معرفةٍ تفوق السماء ذاتها.
- محور اللغة والصورة الشعرية:
حيث تسخّر اللغة، قوة الخيال؛ فتتجلّى الصور الشعرية نابضة بالحياة، تجمع بين الطبيعة والمدينة والكون الداخلي للإنسان، في لغة رمزية تحمل في طياتها إشارات إلى الأصالة الصوفية والبحث عن المعنى في عبور اللامرئي؛ حيث يتحوّل الوصف إلى تجربة حسية متكاملة، تنطق بأسرار الضوء والعتمة.
- محور الزمن المتواتر:
الزمن عند “الشهاوي” مرتبط باللحظة الشعرية التي تتجاوز الزمن الفيزيائي إلى زمن روحي؛ فهي تتعامل مع الزمن ككيانٍ غير ثابت؛ الماضي يُغرق، الحاضر يحترق، والمستقبل يبدو كاحتمال مفتوح لا يمكن القبض عليه. تؤكد عبارته “ماذا لو أغرقنا الماضي في النهر؟” التي تحمل دلالة تطهيرية، على أن المتكلم يبحث عن خلاص ما، وفي الوقت نفسه، سرعان ما يتراجع في التساؤل التالي: “ماذا لو شطّفنا قلبيْنا بالنار؟”، وكأن الماء غير كافٍ لمحو أثر الذكرى، فلا بدّ من نار أكثر تطرفًا.
- محور العلاقة مع الآخر:
في علاقة الشاعر مع الحبيبة، نرى هنا أنها ليست مجرد شخص، بل رمزٌ للحب ذاته، للمعرفة، وللكيان الذي يحاول الشاعر تعريفه وتحديده. يظهر ذلك جليًا في العبارة “وأسمّي الأشياء بحرفٍ من عينين / فأنتِ الشيء / وكلّ الأشياء”. اللغة تفقد تعريفاتها المتعارف عليها، وتصبح الحبيبة هي المرجع المطلق للوجود.
في المقابل، هناك صراع مع الهوية الذاتية لذات الشاعر، يظهر بوضوح في التساؤل “وأعرف ما اسمي / وأين أكون”، وكأنه رغم كل المحاولات لتسمية الأشياء، يظل هو نفسه عالقًا في سؤال عن ذاته.
- محور الرمزية والفلسفة:
بما أن المرآة، تأخذ دلالة وجودية، فمثلًا في “ماذا لو كسرتِ المرآةَ الآن؟ / إذ أنكِ طول الوقتِ تطيرين إليها” نرى الحبيبة هنا تبدو وكأنها تعيش في انعكاسها أكثر من واقعها، كأنها تهرب من أن تُرى كما هي. المرآة ليست مجرد زجاج، بل هي إدراك الذات، وتحطيمها قد يكون كسرًا للوهم أو لحالة من الانعكاس المستمر.
وتماشيًا مع انفجار استفهامي من “الماذات” المطروحة في تشكيل البيئة الخاصة بالنص، نلاحظ أنه -الشاعر- قد آثر أن يتركها في فقرة النص الأخيرة، وكأنها تدعو القارئ للمشاركة في عملية البحث عن إجابة شافية وافية ومستحيلة في آن.
لكن الأهم هو ما يلي: “إني أستفهم وأشيرُ إليك / وأسمّي الأشياء بحرفٍ من عينين / فأنتِ الشيء / وكلّ الأشياء”. هنا، تصل القصيدة إلى ذروتها الفلسفية، فجملة:
“وأنتِ الشيء / وكلّ الأشياء”: تحمل تجريدًا فلسفيًا عميقًا.
حيث تصبح الحبيبة هي المرجع المطلق للوجود. المتكلم يحاول الإمساك بها عبر اللغة، لكنه يدرك في النهاية أن الحب، كالمصير، يفلت دائمًا عند محاولة تعريفه.
- محور التأثير العام:
في نصوصه التي تناولناها، يبرز بشكلٍ واضح امتزاجٌ عميق بين العاطفة الجياشة والتفكير الفلسفي العميق، حيث يعتمد بشكل كُلّي على الإيقاع الداخلي للنص بدلًا من الالتزام بالوزن الشعري التقليدي. هذا الانزياح عن الشكل الظاهري للقصيدة يفتح آفاقًا جديدة للتعبير، حيث يصبح الإيقاع انعكاسًا لتدفق المشاعر والأفكار بشكل عضوي سلسل.
من خلال استخدام أدوات مثل التكرار المتقن، والصور الحسية الغنية، والأسئلة المتلاحقة التي تتدفق دون توقف، يخلق الشهاوي جوًا من التوتر الدرامي الذي يشد القارئ إلى عالم النص. هذا التوتر لا يعكس فقط حالة الاضطراب التي يعيشها الشاعر، بل يكشف أيضًا عن صراعه الدائم مع مفاهيم مثل الحب واللغة والزمن.
- محور البعد الثقافي والوجودي للحب/ تجربة تذوب في سؤال مفتوح:
يمكن قراءة ذلك ضمن سياق ثقافي أوسع، ففي العديد من المجتمعات التقليدية، يرتبط الحب بالعائلة والتقاليد والقيم الاجتماعية، مما يجعله جزءًا من نسيج ثقافي يعكس مفاهيم الهوية والانتماء.
لكن تجربة الشهاوي الشعرية تأخذ الحب إلى مستوى أكثر شمولًا، في تحويله إلى تجربة وجودية مترابطة مع اللغة، والمجتمع، والكون نفسه. ولا يُقدّمه، كمفهوم محدود بحدود اجتماعية، بل كحالة ديناميكية تمتد عبر المستويات الفردية والثقافية والميتافيزيقية، مما يمنحه عمقًا فكريًا يتجاوز الإطار التقليدي، في رحلة وجودية تنتهي دائمًا بسؤالٍ مفتوح: “ماذا؟”.
في هذا السياق، يتخذ الحب بعدًا صوفيًا يتجاوز التجربة الذاتية؛ ليصبح جزءًا من حوارٍ عالمي حول العلاقة بين الإنسان والإله. ففي التصوف الإسلامي، يظهر الحب كوسيلة للتقرب إلى الله. هنا يمكننا أن نستحضر كلمات الصوفي الكبير “جلال الدين الرومي” الذي يقول: “إن الحب هو القوة التي ترفع الإنسان فوق الماديات وتربطه بالله”؛ فيُظهر كيف أن الحب ليس مجرد شعور شخصي، بل هو سُلمٌ روحي يقود إلى الكمال الإلهي.
– كما يوضح أفلاطون أن الحب ليس مجرد علاقة بين شخصين، بل هو وسيلة لتحقيق المعرفة العليا. الحب، في هذا السياق، يصبح طريقًا نحو الحقيقة والمثالية.
وأخيرًا، فإن هذه العملية المستمرة من البحث والتساؤل تُعتبر جوهر التجربة الصوفية التي لا تخفى على دارسي نصوص الشاعر الكبير أحمد الشهاوي. فمن خلالها، يقدم الشهاوي رؤية شاملة تربط بين الحب والوجود، اللغة والمصير، في إطار تجربة شعرية تتجاوز الزمان والمكان.
الإحالات والإشارات
- ديوان “ركعتان للعشق”، دار ألف للنشر 1988
- ديوان “سماء باسمي”، الدار المصرية اللبنانية 2013
- ديوان أتحدث باسمكِ ككمان، الدار المصرية اللبنانية 2024
- جريدة القاهرة، عدد 56. فبراير 1986
- جريدة القاهرة، عدد 91 . يناير 1989
…………………………
** نشرت في مجلة عالم الكتاب عدد مايو 2025