“حى الأميركان”.. تنويعات من مقام الإحباط

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ربما تكون القراءة الأعمق لرواية "حى الأميركان"  للكاتب اللبنانى جبّور الدويهى والصادرة عن دار الساقى ( قائمة البوكر الطويلة ) أن نعتبرها رواية عن فن صناعة الإحباط لا عن فن صناعة الإرهاب، مع وجود علاقة أكيدة بين الصناعتين، التى يصدرها اليوم العرب والمسلمون. الخط المحورى عن شاب لبنانى يتم تجنيده من خلال جماعة إرهابية متأسلمة لتنفيذ عملية إنتحارية فى العراق، ولكن شخصيات الرواية تدور فى الأساس فى دوامة من الإحباط والهزيمة الداخلية والدوران فى المكان، بصرف النظر عن مستوى تعليمها أو ثقافتها أو طبقتها الإقتصادية والإجتماعية، بل وبصرف النظر عن عمرها، وكأنها إفراز مكان لا يثمر إلا إحباطا، ومنطقة مضطربة لا تُنتج إلا أشواكا، تلك النظرة المنطفئة، وهذا الوجه المتصلب، يتم توارثه جيلا بعد جيل ، سواء بين أفراد أسرة العزام الثرية، أو بين عائلة بلال محسن الفقيرة والمهمشة، شىء أقرب الى البصمة الناتجة عن تغيرات عاصفة داخلية وخارجية، او لعلها بسبب المسافة الهائلة بين الحلم والممكن أو المتاح.

حى الأميركان فى مدينة طرابلس الساحلية هو مكان الرواية بأماكنه وشخصياته ، وبما فعله الزمن فيه من تغيرات، يرتبط مصير أفراد عائلة بلال محسن بمصير أفراد عائلة العزام، منذ الجد الذى تلقى بعض رصاصات عن السيد الذى حاولوا اغتياله، توارثت انتصار، زوجة بلال محسن الخدمة فى منزل آل العزام عن أمها، انتصار قريبة فى العمر من عبد الكريم الحفيد الذى درس فى فرنسا ، ثم عاد مكسور الخاطر بعد أن تركته راقصة الباليه اليوجوسلافية التى عشقها، انتصار أيضا مكسورة بسبب ظروفها الفقيرة، أم لأربعة أولاد وزوج أقرب الى العاطلين، لديها طفل معطوب فى رجله، تسكن الأسرة فى شقة متواضعة تصل إليها من خلال شقة أخرى تسكنها أسرة عبد الرحمن المشنوق المهمشة أيضا، إحباط انتصار مزدوج : فقر وحاجة، ثم غياب للزوج ثم لابنها إسماعيل، تركا المنزل لأسباب مختلفة، ولكن مصير إسماعيل سيرتبط من جديد بعيد الكريم، أحد أفراد آل العزام، هذه الحركة الدائرية فى بناء الرواية ترتبط عضويا بمعناها، تمنحها طابعا قدريا قاهرا، وتجعل الشخوص تدور فى المحل، تبدأ من نقطة ثم تعود إليها، وكأن عيون الجد الأكبر المنطفئة لآل عزام ، تظهر من جديد فى عيون عبد الكريم الحزينة بسبب حبيبته التى هجرته، وكأن معركة بلال محسن العبثية بالأسلحة والآر بى جى فى الماضى، تولد من جديد فى شكل رحلة ابنه إسماعيل مزنّرا بالحزام الناسف،وذلك فى عمليته الإرهابية العبثية فى بغداد، بل إن بلال يمنح ابنه مسدسه الصغير، ويظل هذا المسدس مع الابن حتى النهاية، فى دلالة واضحة على استمرار الحكاية ، وكأنها تنويعات مختلفة من مقام الإنكسار والإحباط.

لا يلف الإنكسار والتهميش شخصيات الرواية المحورية فحسب، ولكنه يمتد الى نماذج أخرى كثيرة مثل عبد الرحمن المشنوق الذى لايفعل سوى متابعة عروض الأزياء العارية ، ومصارعة النساء فى الفضائيات، والذى يحملق فى أرداف انتصار فى غدوها ورواحها، ومثل ياسين الشامى الذى قتلت المخابرات شقيقه، ثم قاموا بتعذيبه حتى  انكسرت فقرات ظهره حرفيا، والذى يحتفظ فى دُرج دكانه بقنبلة يدوية، لاستخدامها دفاعا عن نفسه، هناك حالة من الإحباط الجماعى فى الحى الذى تصعد إليه بسلالم حجرية، إحباط يجعل السكان يهللون لعملية إرهابية إفتراضية قام بها إسماعيل فى العراق، إنهم “كمن ولدوا وسلاح الدولة مصوب الى رؤوسهم”، دائما ما يكونون فى دائرة الشبهات والإتهام: ” إذا حملت فى السويد تولد عندنا”. كان يمكن أن يكون إسماعيل أقل إحباطا، أخذته جدته لتربيته فى منزلها تخفيفا على ابنتها انتصار المهزومة، تأثر اسماعيل بخاله المدرّس الذى طاف العالم، ولكن الخال سرعان ما سيدخل دائرة الإحباط والإنكسار بعد هزيمة عبد الناصر عام 1967، كانت هزيمة قومية شاملة، غاب الخال تحت تأثير الخمر، ماتت الجدة، فعاد إسماعيل ليربيه الشارع ، ثم تتلقفه جماعات التأسلم السياسى، أخيرا وجد ما يستطيع أن ينتمى إليه، فى ظروف وجود قوات أمريكية فى العراق، أصبح من الميسور استخدام الجهاد لمقاومة المحتل، ينضم إسماعيل  الى فريق متعدد الجنسيات لتنفيذ عملياتهم فى العراق.

جبّور الدويهى حكّاء بارع، يعرف شخصياته جيدا، واع تماما بالتغيرات العاصفة التى شهدتها بلاده والمنطقة بأسرها، من حرب أهلية طويلة، الى معارك إقليمية أدت الى انهيار دول بأكملها، تغيرت معالم حى الأميركان عندما عاد عبد الكريم مكسورا من باريس: أغنياء يظهرون فى لافتات انتخابات، يشترون الأصوات، زحف ممنهج من المتأسلمين لاحتلال المساجد والجمعيات الخيرية الأهلية، حيتان رأس المال يتنافسون على هدم البيوت وبناء الأبراج، فقراء ومتسولون ، اختفاء دور العرض، وسحابة هائلة من الإحباط تظلل  الحى والمدينة والمنطقة، يبدو الحى بشخوصه وحالته مصغرا لأحياء كثيرة  لانعرفها جاء منها إرهابيون ، من الجزائر والصومال والمغرب وفلسطين، الإرهاب فى روايتنا هو الحصاد المرير لتراكم واتساع طبقات من الإحباط والإنكسار، من الدائرة الذاتية الشخصية، الى الدائرة الواسعة الوطنية أو الإقليمية، وحى الأميركان هو حى عربى الدلالة بامتياز، يبدو الصراع فى  الرواية بين رائحة الليمون، و رائحة البارود، التى سرعان ما ستغطى المنطقة كلها.

تمتلك الرواية بناء متماسكا للغاية بداية من تقديم الشخصيات فى الحاضر، ثم العودة الى حكاية عبد الكريم وإسماعيل فى الماضى، ثم نعود من جديد الى الحاضر لكى تتقاطع مصائر عبد الكريم وإسماعيل، وأسرة آل العزام وآل بلال محسن من جديد، لا يخدش هذا البناء إلا أمور محدودة منها مثلا أن الدويهى يعرّف الحى الذى يصفه، ولكنه لايذكر اسم المدينة، وكأن كل القراء يعرفون أنه يتحدث عن طرابلس، ومنها غموض حكاية موقعة باب الحديد الدموية التى يصف تفاصيلها، دون أن نعرف بالضبط السياق المقصود ضمن تفاصيل المشهد اللبنانى المعقدة، لكن أبرز ملاحظة على الرواية تتمثل فى رأيى فى تراجع إسماعيل عن تفجير الحزام الناسف فى بغداد لمجرد أنه شاهد طفلا وامرأة يشبهان أمه وأخيه المعطوب، من الصعب أن نبتلع ذلك ، هذا شخص تم تدريبه على السمع والطاعة المطلقة، ويؤمن إيمانا جازما أنه سيدخل الجنة، أراد الدويهى أن يعيد إسماعيل ليتقاطع قدره وقدر أسرته من جديد مع آل العزام، وكأن الجميع واحد فى الإحباط،  أراد أيضا السخرية من أولئك الذين استعجلوا صناعة شهيد ينقذ حيا بأكمله من انكساره وإحباطه، كل ذلك جيد ولافت، ولكن تراجع شاب بتكوين إسماعيل عن عمليته كان مصطنعا وصعب التصديق، فى ضوء ما عرفنا عنه من اندفاع وكآبة وارتباط بفكرة الموت ( على ظهره وشم يمثل ملاك الموت شخصيا) وكراهية للحياة فى حى الأميركان بشكل خاص.

لا تغلق الرواية أقواسها، تدور الحياة بالجميع ليعودوا الى نفس النقطة ، يتآلفون فيما يبدو مع إحباطهم، يختفى إسماعيل حاملا مسدسه، ينفتح طريق بين عبد الكريم وانتصار، ما زال عبد الكريم يحلم بعودة حبيبة هربت الى بلدها وفى بطنها جنين منه، مسافة هائلة مستمرة بين المأمول والمتحقق، نصعد السلالم لنلقى نظرة عميقة على أحد الأحياء المحبطة  فى عالمنا العربى، وتظل فى الذاكرة أغنية أوبرالية لحبيبة مفقودة، ورائحة ليمون منسية، وأثواب باليه فى الدواليب، وشجرة قزمة يقصقصونها لكى لاتكبر أبدا، هل تراها شجرة أحلامنا الضائعة التى لا تتحقق أبدا، والتى لاتثمر على الإطلاق، مهما اختلفت التفاصيل، ومهما تباينت البلدان، ومهما كانت الأحياء والأسماء على خريطة العالم العربى؟ 

 

مقالات من نفس القسم