البحث

فداء العايدي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. فداء العايدي

سحر المجهول، نقطة، تعادل وحدة زمنية، تلسع قلبي
بحنين، إلى حياة، عشتها خلف حجاب المعنى والإجابة. اللذين لا يمكن رؤيتهما، إلا من علٍ.
شيءٌ يشبه ما كانت تقوله أختي، دفاعًا عن نفسها أمام أبي: سيتبين لكم الحق، يوم القيامة. حينها، كان أبي، لا يتمالك نفسه، من الضحك.
لعل أبي، الآن، في برزخه، يعلم صدق أختي.

يعتقد بعض الناس، أن الروح، تنسل عبر نفق الجسد، إلى حياة جديدة، عقب انتهاء الحياة.

لقد عدمتْ الجوارح.
وظل إلى جوار الروح، صوتٌ عال، لواحد من متعلقات الإنسان: الذاكرة.

جُرَّت الذاكرة إلى الموت، بوصفها أحد أفراد مجموعة الإنسان، وتجري عليها كلمة الزمن، مثله.

كانت الذاكرة تصرخ، وتصرخ، بهستيريا تزعج الحياة.
نفذ الأمر، وانتهى وجود الذاكرة.
لكن ترددات الصدى، خلفت ندبات، في الحياة الثانية.

خلود الذكر، مكافأة الكون للصدق.
الصدق: أن تحرص على تقصير المسافة، بين ثنائيتيك الصوتيتين.
النمش، نصب تذكاري، لندبات حب، في حياة سابقة.
شقائق النعمان، نصب تذكاري، لدماء الشهداء
النجوم، نصب تذكاري، للعظماء.

المعجزة، انتصار المعنى.
الصدق يتفجر، ليصنع الظواهر، فيحركُ المعنى المادةَ. وتغلب الدلالةُ على المدلول.

اجترح لنا مسيو فوكو، مصطلح “حفريات المعرفة”. وتلقفناه نحن مريدو النقد الأدبي، وصرنا لا نكل من البحث.
وفي قلب النفق، أدركنا أن علينا أن نسيّد الفأس، على الكنز. حتى لقد تعلقنا بالمعنى الاصطلاحي للبحث. فتجدونني الآن؛ أبحث في البحث.

بحثت عنك –

كنتُ قد غصصتُ بمرارة، قصيرة، حين غادرتَ إلى غيابات الخفاء. أول مرة.
ثم التقينا في مشترك عظيم، بيننا.
لكن، واحدنا، يقبض عليه من زاوية مغايرة، للآخر. مثل
الثوب، الذي وضع فيه الحجر الأسود، لتحمله بطون مكة، حلًا للخلاف.

كأننا اصطدمنا بقوة، في شارع مادبا، إذ كنا نمشي، شاردين
ينقب كل منا في رأسه، عن الأسئلة، ليعبد فعل الإجابة. ثم توقفنا مدة أنفاس، لنجمع الموقف، بالملاحظة، والحس، والتأويل.
لقد نجم عن توقفنا:
بحثٌ، يشتمل على شروط البحث العلمي، لكنه لم يمتد أكثر من بضعة سطور.

وأنا بحثت عنك من زمان.
كُتِبَ بحثي عنك، في صحيفة قدري، قبل أن يكتب تيسير السبول، “أحزان صحراوية”.
“‏من زمان
من تجاويف كهوف أزلية
‏كان ينساب على مد الصحارى العربية
لينًا كالحلم، سحريًا شجيا”

وقبل أن أبكي في السعودية، على مقطوعة مايك بات، إذ أنا طفلة في الصف الثاني. حنينًا إلى دفء الأردن. وقبل أن أعرف، أني أحب شكل قريبي، الذي يشبهك. وقبل أن أحب فريقي الرياضي، بإيمان وإخلاص ووفاء

هاجر، وحيدة مع رضيعها. عديمة الأسباب. في سجن القيظ، بين جبلي أبي قبيس وقعيقعان، تلتمس الماء. مشت، وركضت، وحين اجتهدت في شق طريق المعنى، نبعت إجابة الارتواء

عندما قتل السلطان سليمان القانوني، وزيره الأعظم اليوناني إبراهيم باشا البارغلي، أخفى مكان دفنه، ونشر الشائعات:
دفنوه في الجزائر، أبعد ولاية عثمانية.
بل دفنوه في حديقة بيته، في ما يعرف اليوم، بساحة الخيل، في علم دار، سلطان أحمد.
لا بل دفنوه في مانيسا، أول مكان، التقى فيه رفيقه وخليله، من ثم قاتله؛ السلطان.
بل هو في بارغا، بلدة الصيد اليونانية، مسقط رأسه

فارت دماء زوجته.
إنها تحترق جنونًا، لتعرف أين قبر زوجها.
جلبت عرافة، وسألتها: لا أنام. أريد أن أعلم؛ أين قبر الباشا؟
قالت العرافة: خذي هذا الحجاب، وضعيه أسفل وسادتك، وستعلمين مثواه، الليلة.
وما أن سحبها تيار الكرى؛ طارت روح الزوجة، فقطعت مضيق القرن الذهبي، إلى ضفة بيوغلو، ثم مشت أعلى التلة، وهبطت نزولًا، بين غابات الكستناء، السامقة الملتفة، حتى وصلت إلى حافتها، المطلة على البوسفور، وتوقفت بأمر صوت، قال لها: ها أنذا يا حبيبتي الطيبة، في كاباتاش.
واستيقظتْ في الليل، وذهب معها، موكب من الخدم والمرافقين، وبحثوا، وسرعان ما وجدوا القبر، الذي تتعمد تركيا إهماله، إلى اليوم.
لكنني وجدته، وقرأت الفاتحة على ساكنه.

كبرت، في طريقي إلى سن النبوة، فصارت مناماتي كشفًا.
في حلم، كنت أتحرك، بين البنايات، وأنا على يقين، أن بيتك في إحداها.
بنايات متلاصقة، أليفة، في حي هادئ، يذكرني بعمان الطفولة. كلها قريبة علي مكانيًا.
بيتك قريب، أنا متأكدة. لكن ثمة حاجز طيفي، يحول بيني، وبين معرفة أين بيتك، بالتحديد. جدار مجبول بالعتمة، والاستغلاق، والصمت.

أغوص في الغياب، وأجدف.
عقلي أطراف، وقلبي دماء نارية.
حتى تشفق علي المنامات، وتقول: سأبحث معك

لم تنحنِ سبل العودة، الشاقة الطويلة، لأوديسيوس، إلا جزاء، للصبر الجليل لبينلوبي
بينلوبي كانت أصبر مني، في البحث عن أوديسيوس، وأكثر إيمانا مني.
يا للعار. أنت اختبار إيماني.
وكما يراهنون على مباريات الكرة، وسباقات الخيل، يجب أن ألقي كل ثروتي، وأقول: أراهن على كلمة الله.
حينها يكون البحث، قد أوصلني إلى المعنى.

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم