مختارات من “جولة ليلية”

مختارات من "جولة ليلية"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ياسر عبد اللطيف

 

نهاية المراهقة

خرجنا ذات ليلة من بيت إحدى المخبولات

ثلاثة مخمورين يذرعون الظلام

انتحلنا صفة ضباط شرطة

وافتعلنا كميناً على طريق سريع

استوقفنا الشاحنات وفحصنا رُخص سائقيها         

وينما يغادرون بسلامة أوراقهم

انفجرت ضحكاتنا خلف عجلاتهم الكبيرة

 

وعلى رصيف بوسط المدينة

عثُرنا بكنز من لمبات النيون التالفة

ملقاة، العشرات منها هشمناها في نشوة احتفالية

على قرميد الأرصفة، بأحذيتنا، وعلى الإسفلت الخاوي

لفجر القاهرة

لم نبق حتى على الشظايا

تركناها كغبار السكر فوق عتمة الإسفلت والقرميد

وبعدما خفتت حمأة التحطيم

تبخر شيء منا في الهواء إلى الأبد.

 

أسبوع واحد بعدها

وباع ثالثنا نفسه إلى الشيطان

وبقيت أنا والآخر

هو لا يرى، وأنا لا أتكلم  

وكقدر المجرمين حوّمنا في ليلة تالية

 حول الحطام

كان دليل إدانتنا القاطع

أذني صديقنا الثالث

بين غبار الزجاج..

التذكر علم… النسيان جهل

 

تحت ضوءٍ خافت

كنت أنبش كتاباً بخنجر

بحثاً عن شيء ما لست أذكره

لم أجده بالطبع

لكن ملمس المقبض

والتماع النصل صعوداً وهبوطاً

ومزق الورق التي تناثرت هباءً

شكلوا لحظة معرفة

تبرق الآن بعد انقضاء السنين

عبر ضباب الماضي

 

وذات مساء شتوي

خرجنا سوياً من الجامعة

وسرنا حتى ميدان الجيزة

بحذاء سور حديقة الحيوان

وهمهمات ألف وحش نائم بداخلها

تأتينا عبر الظلام

تناولنا طعاماً رديئاً

في مطعم صاحبه سباح قديم

صافح عبد الناصر والسادات على التوالي

في صورتين فوتوغرافيتين على الجدار

لا أذكر أي حديث تبادلناه ليلتها

لكن المشهد بأكمله يأتيني

كتآلف بين نقيضين

في منهج جدلي للذكريات.

 

كانت نائمة على سرير مقابل لسريري

على جانبها ورداء نومها ينحسر

عن باطن ساقيها

 وقدميها اللتين لملاك أسمر

صارت المسافة بين السريرين

 كمسافة بين مدينتين يفصلهما نهر

الماء يصل لركبتيّ

وعرض النهر متران

وليسهل القدر إمكانات سخرياته مني

جفف ماء النهر

وفرش أرضه ببساط صغير

وبالرغم من ذلك لم أستطع العبور

الآن أرى هيكل الجمال نائماً

وبيننا المسافة

بين الواقعة وذكراها…

جـولة ليـلية

 

قبل أن يألفَ الطريق إلى المدرسة

يألفُ الطفل السقيم

الطريق إلى مكان الطبيب

الصيدلية أسفل العيادة

بخزاناتها البنية

وبائعة شابة بأزياء تعود لعقدين مضيا

تلف الزجاجات بورق مطبوع عليه الشعار

تسحبه من بكرة كبيرة بمحور معدني

وتدون مواعيد الجرعات بخط واضح

في نهارات بعيدة

كنت وأمك تنزلان إليها لشراء الدواء

فلماذا في الليل

 تزحزحت الصيدلية عن مكانها

لأربع بنايات على الأقل…

 

ثمة مطعم بزاوية شارع

واجهاته الزجاجية التي غبَّشها البخار

تعرض طعاما شهيا رخيص الثمن

يبدو قريبا..هناك عند المنحنى..

ستؤجل تناول عشائك به ليلة بعد الأخرى

لتنساق خلف ضرورات السهر والتعب

ويوم تقرر..

تكون يد شيطانية قد رفعت المكان كله

بضربة

من خارطة الوجود..

 

وفي المنطقة المظلمة من معرفتك بالمدينة

فيما وراء الشارع الذي خلت صغيراً أن العالم ينتهي بعده

إشارة مرور قديمة وشبح شرطي مسن على مفرق تجتازه

لأضواء ناعسة في ليل ندي

هناك… مسرح منوعات منسي

حيث الفقرات تُعرَض على خشبة ضيقة

اصطف المتفرجون في مدرجين على جانبيها

أنت متفرج وناشط بالكواليس

تراوح وجهة نظرك بين المكانين

من إشارات لحيوات صاخبة

ووعود بملذات مستدامة

إلى حيث السلامة

أهون من الندم

 الذي هو في خفة رغاوي البيرة.

 

لحن جديد

 

الأستاذ العجوز محنيٌ على عوده

مجرد عازف خلفها

عازف لموسيقى غيره من أبناء درسه

تجاوزه الزمن، يعرف

ولا يهتم كثيرا

فقط يترك نفسه لينساب فوق هذه الموسيقى

وليديه أن تعزف من خلالهما

الريشة شوكة من ندم

تنخر أوتاراً موصولا ماضيها بمستقبلها

في حلقة مفرغة

..أملاك أم شيطان ابن قرية الراقصات

يقف بباب الفردوس

ليرى قطوف العسل دانيةً

فتنفتح تحت قدميه هوة من جحيم

 

“المنسي” نفسه هجر الكمان

 إلى التشيللو التي لا يجيدها تماماً

لهذه الوصلة فقط

حتى تكون حساسية الخشب الإيطالي قريبة من قلبه

إذ لا تكفي الأذن وحدها

 لالتقاط ما هو جهير بهذا اللحن.

 

منذ سنوات والحرب قد وضعت أوزارها

ليعود الأفيون شحيحاً بأسواقه

وحشيشة الفقراء غُلِفت سجائر

لبرجوازيي الباروك المصري

لحظة تنحبس فيها أنفاس قطر بأكمله

لتهدر القادرة:..

                 جددت حبك ليه..

مشهد

 

صديقنا المناضل الطبقي

على طريق الأممية الرابعة

هتك عرض خطيبته مذيعة الفضائيات

بتليفونها المحمول

الذي تربطها به ـ كما زعم ـ علاقة صنمية

و بينما كانت تهتز من لذة جماعها مع “السلعة”

كان ذهنه يرتعش من لذة تطابق المشهد

مع الفكرة النظرية.

 

روك آند رول

 

“خلِّ عينيك على الطريق ويديك على عجلة القيادة..”

هذا لحن بلوز عنيف مناسب للطرق السريعة

يصلح أيضاً لغرفتي بكتبها الكئيبة وغبارها

لتختفي تحت إيقاعاته  الوحشية

 صرخات شبقها

ضغطة على مفتاح التشغيل

فتنطلق الموسيقى

في ضجيج قطار يتقدم من نفق نحو الهاوية

الهاوية غير منظورة

 لكنها آتية لا محالة

…من لوس انجيليس- كاليفورنيا .. “ذا دورز”

كنت احبها

 وتحب صديقي

اعرض عنها

 فجاءت لي

نحتاج إلى نصف لتر من خمر الصبار

نجرعه من الزجاجة دون ملح أو ليمون

نحتاج إلى فئران لتأكل أطرافنا

نحتاج إلى أن نختفي

وهي فوقي كتركة من الديون

أخذتها

 سريعا

في دفقة حب خاطفة

تركتها تمسح اخفاقنا الرائع

في جورب مهمل على الفراش

باب الغرفة لا يوصد بإحكام

لم أعد أحبها

وجهاز الستريو وإن صنع في الصين

يفي بالغرض

“خلِّ عينيك على الطريق ويديك على عجلة القيادة…”

كان موريسون شريكا كاملا في الجريمة

وثمة أطباق اصطبغت ببقايا حساء الطماطم

طار الجورب حتى نهاية الغرفة

بينما أبي في الخارج

يتناول غداءه هادئا

في تلك الظهيرة الحارة

 من صيف 1997…

 

شارع الموت المؤجل

 

اجتزت قبوين

بقرميدهما وأحجارهما..

قدمي تتلمس في الظلام كل بلاطة تتعرفها

كي لا تزل، فأسقط في هاوية الأوحال..

 

وفي الصحو كما في الحلم

السابعة صباحاً بشارع السيارات المُكفنة

أغطية كالحة من الدمّور والدَبَلان

تقي السيارات البردَ، وغبار الأيام..

الموظفون المستورون لا يستيقظون قبل الثامنة.

اشترى ” اللادا” ذات الصاج الروسي المتين

ليضعها في وجه الحياة.

لا تأمل العين في ذلك الشارع أكثر من ” الثمانية والعشرين”

وذات “الفيورا” وما تيسر من “الآر” و “الرمسيس”

تفضحها هياكلها تحت الأغطية الرثة..

هنالك فولكس خنفساء فاقع لونها

تقبع عارية تحت الندى..

وفي الصحو كما في الحلم

احتلت السيارات الهوامش الجافة للطريق

السيارات تحت أكفانها

وليعبر الأهالي وضعوا أحجاراً

بعرض الشارع تبرز من المياه

 

السابعة صباحاً

ومديرو العموم يغطون لا زالوا في نومهم

كنت أرفع أرجل بنطلوني بينما أعبر بحذر.

ابتل نصف حذائي الذي أجهدته تلميعاً

على الرصيف الآخر طفلة صغيرة

في مريلة “تيل نادية”

مجرد طفلة صغيرة، لا أقول جميلة ولا فقيرة

ابتسمت لذهولي بحذري عمّا سواه

وكان السقوط رهيباً.

العجَّان

 

بينما يهجع المخبز الإفرنجي بين ورديتين،

وتنام النار في بيتها قليلاً،

دَفَقَ بوله أصفر ساخناً،

في جوال الدقيق المنخول…

الجوع

 

لماذا لا أجرب أن آكل شيئاً جديداً

كخارطة السودان مثلاً

أو آكل دلتا مصر في قطاع طولي

من افتراق الفرعين حتى المصب

بالطمي المتراكم عبر ملايين الأجيال

 أو آكل مكتبة هائلة

 تغص بالكتب الضخمة عن الروح

أو قاموساً للغة الفرنسية

حتى تطفر الدموع أحرفاً من عيني

لماذا لا آكل امرأة رائعة الجمال

نيئة إلا من أنوثتها 

لماذا لا آكل مخزنا كاملا

 لصواميل الصلب الخاصة بالمحركات الثقيلة

لماذا لا آكل حزباً شيوعياً

أو مدينة بأكملها ولتكن دمشق  الشام

لماذا لا آكل شيئاً كقاعة سيد درويش

التي بأكاديمية الفنون

لماذا لا آكل شيئا نسيته بأحد الأحلام

وبحثت عنه سدى

في حلمي التالي

قرصني الجوع ولا زلت أسافر

وأنا زاهد فيما تأكلون..

 

رومانس

 

تماثيل منمنمة

في حجم راحة اليد

من بلّور ورخام ناصع

تهوي من شرفة عالية

 على بلاط الحديقة.

 

الملكة تسير وحدها في الحديقة

حافية القدمين على العشب الندي

بردائها الأبيض حد ركبتيها

والقمر يحيل ليل الحديقة نهاراً فضياً

 

قطة سوداء تموء كصفارة إنذار

محصورة في منور برج شاهق

جدرانه ملساء كمصير محتوم

فهل يصلح المواء أداةً

لنقب ثغرة في جدار اليأس

أحلم بالقطة بينما أحاول نقب ثغرة

في جدار نومي

أعبر منها إلى الجهة الأخرى …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2009

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني