يعمل علاّم طبيبا فى كندا منذ سنوات، من الطبيعى أن يكتب عن مدينة كندية مثل مونتريال، ولكنه لم يكتب عن المهاجرين العرب فى كندا، اختار شخصيات غير عربية مثل نينا جانيون، وفرانسوا ليكو، وناتالى سان بير، وإيزابيلا التى تضع الحفاضة، وشانتال رائحة الخنزيرة، والرجل الجابونى، نماذج تذكرك على الفور بأبطال الحكايات المصورة (الكوميكس)، لولا أنها تعانى هموما مرتبطة بشكل ما بواقع الحياة الصعبة التى تحكمها المادة، أو بآثام ارتكبتها فى الماضى، معظم الشخصيات أيضا ينتمى أسلافهم الى المهاجرين فى العالم الجديد، هم إذن عينات لدائرة أوسع وأضخم، ما انتهوا إليه يبدو محزنا، ومغامرتهم تبدو عبثية تماما، فرانسوا ليكو فقط أقرب ما يكون الى الطفل الكبير. رغم تورطه فى تجميل الموتى كعمل يرتزق منه، إلا أنه يصنع من مهنته فنا، يحقق للجثة حلما لم تحققه فى واقعها الصعب، ثم يستكمل فرانسوا طفولته بالتحول الى مهرج يضحك الأطفال فى مهرجان عنوانه “من أجل الضحك فقط”، تبدأ الرواية بالإعلان عن اختفاء فرانسوا وسط مولد المهرجان، فينفتح باب السرد أمام الجميع تقريبا لكى يحكوا بما فى ذلك أحلام المهاجرين المنبوذة فى مونتريال ، يقول فرانسوا العجيب: ” الأحلام المونتريالية كائنات دقيقة وهشة ولكنها مسلية للغاية، أحيانا أسمعها تتصايح بلغات غريبة لا أفهمها، فأبتسم متذكرا أن حكومة ولايتنا “كيبيك” تشترط أن يلم المهاجرون إليها بقدر ما من اللغة الفرنسية، دون الإهتمام أبدا بأحلامهم، مما أدى الى فقدان التواصل بيننا نحن سكان مونتريال الإصليين وبين تلك الأحلام البائسة، التى يجب أن تختار بمرور الوقت بين الموت جوعا، أو البقاء فى الشوارع الخلفية تقتات من صناديق القمامة، أحيانا يصادفنا الحظ السىء ونصدم أحدهم ونحن عائدون ثملين قليلا ليلا، ومستبقين كل تركيزنا فى ألا تلاحظنا الشرطة، ففى مونتريال ليس هناك أسوأ من ان تضبط ثملا وأنت تقود السيارة”.
اختفاء فرانسوا سيعرفنا على عالم غرائبى متكامل: ثلاثة عجائز متهمات باختطافه، إحداهن تعشق اقتناء الأحذية، وحذاء فرانسوا غريب وفريد، لدينا أيضا العرافة ناتلى سان بير التى وقع فرانسوا فى هواها، تتوالد القصص من بعضها بلا توقف، من عالم غريب الى آخر أكثر غرابة، من متوفاة تحرسها فراشات ملونة، الى حسناء تبعثها قبلة للحياة من جديد، نقرأ قصصا لا تنتهى عن الخوف والموت والأمل، تظهر الأحلام المهجورة وهى تواسى بعضها إثر انتحار أحد الأحلام، العجائز الثلاثة حاولن فعلا اختطاف فرانسوا، أعددن المكان الذى يحتجزونه فيه، والعربة والحصان اللذان سيحملان فرانسوا بعد تخديره، ولكن أحدا يسبقهن الى تنفيذ الخطة، غريبة المحاولة وغريبة الشخصيات وحكاياتها، لكن ليس هناك ما هو أغرب مما فى داخل النفوس البشرية، اعترافات الجميع بارتكابهم آثام فى الماضى أمام المرآة تقود اللعبة فى النهاية من الملهاة الى المأساة، التى تكتمل بإصرار الجميع على قتل فرانسوا/ الطفل الكبير، وكانهم يقتلون آخر فرصة لكى يستعيدوا إنسانيتهم، المدينة الثرية تصبح أقرب الى حجيم أرضى غرائبى هجرته الأحلام، فأضحى كل شىء ممكنا وجائزا وقابلا للتصديق فيه، المهاجرون تنازلوا عن أثمن ما يمتلكون، عن أحلامهم، آباؤهم لم يكونوا مثلهم فى كثير من الحالات، أحد هؤلاء نقل معه منزله من فرنسا الى أمريكا، ارتبط عنده المنزل بلحظة تفجر الحب واكتشافه فى وطنه الأصلى، تتنتهى الملهاة الى تراجيديا، فى بلد تنتحر فيها الأحلام البرتقالية الصغيرة لابد أن يحدث ما حدث.
تتعدد الأصوات مع حرية كاملة فى السرد، تتداخل القصص وتتقاطع أحيانا، ولكن الخيال يجذبك حتى النهاية، هذا المقطع مثلا على لسان ملك الأحلام، إنه يحكى لنا عن جاك الجميل، ذلك الحلم الذى كان ملازما لرجل جاء من شعب بلا وطن، يتخلى الرجل عن حلمه / جاك، فينتحر الأخير: “مات جاك الجميل. هكذا أخبرنى حلم الرجل البرازيلى المصاب بالقلب المتضخم، والذى كان يتمنى أن يصبح لاعبا لكرة قدم، متلعثما وباكيا، كان علىّ أن أخرج من خلوتى لتقييم الموقف، ذهبت معه الى حيث اصطحبنى، وهناك وجدت الأحلام متحلقة فى دائرة حول الجثة، وأجسادهم الصغيرة برتقالية من الخوف والغضب، كانت نظرة واحدة منى كافية لكى أعرف أنه مات منتحرا، كانت خبرتى الطويلة كملك للأحلام وأطولها عمرا كافية لأن أعرف ذلك، فالجثة زرقاء يفوح منها هواء البحر، كان ذلك مخيفا جدا للأحلام التى كثيرا ما ترى جثث أصدقائها، خضراء متحوّلة للوردى الجميل كلما قاربت على التلاشى، تفوح منها رائحة الأرض بعد هطول المطر، كان ذلك مخيفا وكارثيا أيضا لى، فكيف استطاع جاك الرومانسى الجميل أن يفعل بنفسه وبنا ذلك؟ فجثة الحلم المنتحر لا تتحلل، مما سيكلفنا وجوب البقاء الى جوارها الى الأبد، لنحميها من أن تنقرها العصافير التى لا مأوى لها، ستتحجر جثته حتى تصبح كالخبز الجاف الذى لايتفتت إلا تحت مناقير العصافير، فتسمنا جميعا بالعار والخجل من أنفسنا كمجتمع غير قادر على حماية أفراده، تماما كالبشر”.
يوصف الغريب والخيالى على مدى صفحات الرواية بمنتهى الجدية، وباستخدام أقصى درجات وألوان التفاصيل، يتكرر ذلك حتى نتعود على قانون اللعبة، على خيالها السريالى أحيانا، ولكننا لا نفقد فى نفس الوقت خيوط الحبكة، ننتظر فى شغف حل لغز اختفاء فرانسوا، وهو ما سيتحقق فى النهاية، تندمج ثلاثية الخوف والموت والأمل، وثنائية نبذ الأحلام والسقوط فى المادة، ولعبة الرجل البرىء الذى يختطفه أشخاص نكتشف أنهم مذنبون، تحتفظ الرواية بتماسكها الى حد كبير رغم التفريعات والقصص الجانبية، ورغم أن الخط الرئيس يضع قدما فى الفانتازيا، وقدما أخرى فى الواقع، هناك شرطة ووسائل إعلام وطبيب للأمراض العقلية، ولكن هناك أيضا جثثا تتحرك، وتنتقل بسهولة من مكان الى آخر، وهناك حذاء موروث من معجزة، ونساء عجائز تكتشفن أنفسهن أثناء ممارسة لعبة لشغل وقت الفراغ الممل، كوميكس مرسوم بالكلمات يكشف عن روائى موهوب، يمتلك ناصية السرد وناصية الخيال، ويوظف الغرابة والأحداث الخارقة لخدمة فكرته، وينتصر دائما للبراءة وللصدق وللحلم، “الإختفاء العجيب لرجل مدهش” رواية مختلفة جدا، تكسر المألوف والعادى، تنقلنا الى عالم مواز بكل تفاصيله وشخوصه وأحداثه، لتقول أشياء هامة عن إنسانيتنا التى تضيع فى الغربة، وعن أحلامنا التى نتركها، فلا تتركنا أبدا، ولكنها تعود إلينا لتنتقم، فى صورة كوابيس سوداء.