محمد فايز جاد
في كل المرات التي احتضر فيها من قبل ظن أنه يموت، وفي كل مرة أيضا – كما لو أنها المرة الأولى- تتملكه دهشة طفولية من أن الموت أدار له ظهره بعد أن أحس أنفاسه الباردة تلفح وجهه، غير أنه هذا الصباح، وبينما كان يعايش واحدا من احتضاراته التي كف عن عدها، كان يعلم تماما أنه لن يموت.
كل ما في الأمر أنه استعجل انتهاء احتضاره، ذلك أن خبرته الطويلة علمته أن كل مرة تطول عن سابقتها، حتى أن خاطرة سوداء مرت برأسه حين كان يعاين معركة روحه المتشبثة باستماتة فوق كرسيه الخشبي الهزاز، حيث تخيل أن الأمر سيطول تدريجيا، مرة بعد أخرى، حتى ينتهي باحتضار أبدي لا يفضي إلى موت، ولا يعود به إلى الحياة.
نفض رأسه بكل ما تسمح به عضلاته المتيبسة من قوة، كأنما أراد ليسقط الخاطرة الشيطانية مع غبار سيجارته في المنفضة الصدئة الراقدة على الطاولة أمامه.
بدا له هذا المصير السيزيفي الساخر مرعبا لدرجة أثارت فيه فزعا لم يعايشه منذ سنوات لا يذكر عددها، حين صحا ذات يوم رآه شديد العادية في البداية ليكتشف أنه- وبينما كان يهم بحلاقة ذقنه أمام المرآة المغبشة في حمامه المشبع بالرطوبة- بدأ يتحول إلى ملح. ثم عاش ذلك الفزع بالدرجة نفسها ثانية بعدها بشهور، حين احتضر للمرة الأولى.
حاول أن يستمد بعض الهدوء من الجو الصباحي الناعس في البار، وراح يرقب من موقعه الرواد القليلين المتناثرين هنا وهناك في البار العتيق، الذين راحوا يلوكون المزة في نشاط الصباح وخدره الناعس اللذيذ، ويعبون من خمر بردتها قسرا برودة يناير، والذين لطالما شعر تجاههم برابطة أخوية، على عكس النفور المقيت، والمثير للغثيان حتى القيء، الذي يحسه تجاه الرواد الليليين.
راح يسلي نفسه – وربما ليتطهر من آثار الفكرة التنبؤية المشئومة- بالمقارنة بين هذين الشعورين المتناقضين تجاه رواد المكان نفسه.
وتساءل لم يحب رواد البار في الصباح، من متعطلين فقراء يشربون الجعة المحلية، وأثرياء متعطلين بالوراثة يفضلون الويسكي الاسكتلندي المستورد، ومومسات من نوع خاص، يجيئون في ملاحقة هذه النوعية المتميزة والنادرة من الزبائن، ومتقاعدين عجائز يجلسون في هدوء كفرقة تعزف سيمفونية بيتهوفن الرابعة في سفينة تتخذ طريقها نحو قاع المحيط، ينتظرون الموت.
غير أنه – فكر- من المحتمل جدا أنهم لا ينتظرون الموت، وأنهم يهربون من الموت هنا في هذا البار العتيق المنسي بالذات، دون أي مكان آخر، ورأى أنها فكرة رائعة – قال بدهشة مراهق يكتشف الجنس الآخر لأول مرة- أن تهرب من الموت في حانة، ذلك أنه من غير اللائق بملاك، مهما بلغت سلطته الملائكية كملك الموت، أن يدخل إلى حانة تعبق برائحة الخمر، ويخالط السكارى والمومسات والمتقاعدين البائسين.
وتخيل أنه يستبدل هذه النهاية بالنهاية التي حملتها إليه الخاطرة المخيفة التي دهمته قبل دقائق، حيث يقضي حياته في البار، لا يخرج منه أبدا، مراوغا ملك الموت ومتحديا إياه، بدلا من قضاء أبدية احتضار ثقيل لا ينتهي. ولكنه عاد فرأى ذلك لا معنى له، لأنه، وفي هذا الصباح بالذات، بعد أن انتهى احتضاره الطويل والمتعب، وبينما كان يعد فطوره، عرف أنه لن يموت أبدا.
ابتسم رغم ذلك من فكرته الشيطانية، ورغم أنه خاف من أن تلك الأفكار ستغضب الله، الذي صار شديد الإيمان به بعد الاحتضار الأول، فقد ضحك.
حتى عندما انعكست أمام عينيه من الطاولة المواجهة له، التي يفصل بينها وبين طاولته العمود مقشر الطلاء المزين بالمرايا الملوثة ببخار الماء والكحول، انعكست ابتسامة المرأة التي اكتشف وجودها لأول مرة، والتي اكتشف كذلك أنها الأنثى الوحيدة في المكان هذا الصباح، والتي ظنته يبتسم لها، لم يتوقف عن الابتسام، رغم أنه كف عن مطاردة النساء منذ الحادثة الأخيرة.
أثارت فيه ذكرى الحادثة الأخيرة، في المرة الأخيرة التي لمس فيها امرأة، والتي عرف أنها ستكون الأخيرة للأبد، أثارت فيه رعبا وألما اقشعر له جسده الملحي. ورغم أن الابتسامة قد زالت، ولم تبق إلا أثارها الباهتة على الوجه الذي صار كلما خطا خطوة في اتجاه التحول الملحي يفقد القدرة على العودة بسهولة من أثر تجاعيد الضحك أو الخوف، حتى إنه قضى أياما يفكر في الانتحار، وعلى شفتيه ما زالت ابتسامة عاشت منذ أسبوع كامل، رغم ذلك، كانت المرأة تخطو نحو طاولته في مشية قططية واثقة.
قطعت الخطوات المعدودة نحو طاولته في هدوء وثقة، وبطء أيضا، سمح له باستعراض الجسد الناطق في الفستان الأزرق، كانت جميلة لدرجة أنه كان متأكدا من أنها لو جاءت في وقت آخر، فقط قبل شهور قليلة، لتمنى أن يضاجعها. بيد أنه لا يملك الآن سوى أن يطلب زجاجتين من البيرة، ويقدم لها سيجارة، ليرى انطباع أحمر الشفاه الساخن على عقبها.
من النظرة الأولى عرف أنها ليست عاهرة، لأن – من جهة- أنفه الحساس جدا يستطيع أن يلتقط – من بين روائح العطر ومساحيق التجميل والكحول ورائحة قماش الملابس- رائحة عرق الرجال تفوح من أجسادهن، إلى الحد الذي جعله قادرا ككلب بوليسي مدرب على اكتشاف الميزة المتفردة لرائحة كل رجل، حتى إنه لو امتلك بعض الوقت لاستطاع عد كل الرجال الذين نامت معهم إحداهن. ومن جهة أخرى، كان يزعم أنه يعرف كل بائعات الهوى – وإن لم يضاجعهن- في المدينة الساحلية التي هرب إليها منذ سنوات لا يتذكر عددها.
فغر الطبيب فاه حين رأى أصابع قدمه المتحجرة والخشنة، فحصها من كل الجهات، كحتها بمبرد، اختبرها بمادة كيميائية، شمها بأنفه القصير كأنف بولدوج، تذوقها، وأخيرا أجرى له أشعة سينية، كشفت عن أن قدميه تتحولان إلى ملح.
“مدهش”، هتف الطبيب، وهو انزوى في ركن من نفسه المذعورة من المرض الذي لم يصب به مخلوق من قبل، فيما قام الطبيب الذي فاحت منه رائحة حفاري القبور جريا إلى الغرفة المجاورة، وعرف فورا أنه سيجلب كاميرا ليصور قدمي الإنسان التمثال، وبينما كان يركض هاربا من العيادة، راح ينفض رأسه كقط يهش من فروه الطفيليات اللاصقة، لكيلا يرى مستقبله بين يدي طبيب يعرضه متباهيا أمام الكاميرات – كمن يتباهى بقرد يستطيع لف ربطة العنق بنفسه- باكتشافه المدهش للرجل الذي يتحول إلى تمثال.
الجدار الزجاجي للبار يكشف عن سماء صافية على غير المتوقع أضاءت الشارع المواجه للبحر الهادئ. تخلى البحر عن اهتياجه ليكتفي بزفرات من بخار لزج غبشت المرايا وأعطت للملح على وجهه ملمسا دبقا، وأعطت لوجهها بمساحيقه القليلة الهادئة لمعة مرمرية.
قالت إن الجو خانق كأن أحدهم شفط الهواء كله، وهو رد بأنه لا يحتاج إلى هواء كي يتنفس، ضحكت. ظنته يغازلها. قالت إنها من العاصمة البعيدة، وإنها جاءت ليوم واحد ربما إلى المدينة التي يحتضنها البحر لأنها شعرت بالملل، هربت من الزحام والدخان والضوضاء. “شعرت أن البحر يناديني”، قالت، ثم ضحكت كاشفة عن أسنان طفولية منضدة.
هو أيضا جاء إلى المدينة البحرية، لكن ليس هربا من الملل أو الدخان. كان مرضه العجيب – حتى ذلك الوقت فكر فيه كمرض شديد الندرة- يستفحل يوما بعد يوم، صلابة أصابعه الحجرية تتزايد، والملح يزحف على ساقيه، حتى أن زوجته، وبينما كانت تغسل جواربه المتسخة، تعجبت حين رأت بلورات الملح أبيض في مسام القماش الأسود.
غير أنه سرعان ما اكتشف أن ذلك ليس مرضا، حين فوجئ في إحدى الليالي الباردة بأنه يحتضر، أحس بأنفاس الموت التي وجد – لدهشته- أنها ليست كريهة، وأن لها رائحة كرائحة القرنفل، كانت قريبة جدا، تسارعت دقات قلبه، وراحت أنفاسه تتلاحق متباطئة شيئا فشيئا، وكان العرق ينساب من مسامات وجهه التي ستتحول بعد سنوات إلى بلورات ملحية، ولكنه لم يمت. انتهى الأمر الذي بدا عسيرا كالولادة، ثواني قصيرة مرت كالدهر، وجد نفسه بعدها حيا رغم شعوره بأن شيئا فيه قد مات.
في تلك اللحظة بالذات تأكد من أن الله موجود، كانت دهشة عذراء كدهشة ذلك الرجل الذي اكتشف النار لأول مرة، أو كدهشة آدم حين رأى عورته.
“هل تعتقدين أن الله موجود؟”، سأل فجأة حتى أنه استغرب السؤال كأنه خرج من فم غير فمه، هي أيضا استغربت، واتسعت عيناها اللتان لاحظ لأول مرة أنهما جميلتان، وأن أسودهما يعكس بريقا ساحرا، ولكنها أجابت. “بالتأكيد، لو لم يكن الله موجودا لأنهيت حياتي فورا”. وابتسمت.
هو أيضا عرف منذ احتضاره الأول أن الله موجود، غير أنه قرر رغم ذلك أن ينهي حياته، وفي كل مرة حاول فيها الانتحار تأكد من وجوده، بدءا من المرة الأولى، حين مزق شرايينه، ليكتشف أن جسده خلا من الدم، وأن النتيجة لم تكن سوى تفتت بعض بلورات معصمه فوق بنطلونه الأسود، وحتى المرة الأخيرة منذ أسابيع، عندما شنق نفسه، وبعدما ظل معلقا لساعة كاملة يتأرجح تحت السقف كبندول ساعة، فاكتشف أنه لن يموت، لأنه لم يعد يتنفس، وهاله أنه لم يلاحظ أنه في الأسابيع السابقة لذلك كانت رئتاه قد تملحتا فكفتا عن الحركة.
عندها عرف أن الله قد يكون منحه الخلود، ورغم أنه كان وقتها قد آمن بوجوده فقد أدهشه الأمر، ذلك إنه ظن أنه حتى مع كون الله موجودا، فقد كف عن إرسال المعجزات واللعنات منذ قرون.
سألته ماذا سيفعل في المساء، قال إنه لن يفعل شيئا، سيقرأ قليلا أو يمر على أحد الجاليريهات ليشاهد لوحة قد تعيد له بعض الدهشة. عرضت أن يتناولا العشاء سويا بعد أن يقضيا اليوم قرب البحر، وقالت إن وجهه يعكس بريقا عجيبا، وأن الضوء على مسام وجهه – فلم تكن تعرف إنه بلورات لا مسام- يتكسر إلى ألوان قوس قزح.
وافق، وراح يتأمل عينيها الكافيتين لجلب بعض الطمأنينة، وأحس بأنه محظوظ، وأنها لو جاءت في زمن آخر لربما أحس بالفرح، ذلك أنه قد يكون قد حصل على الخلود، ولكن لأن لا شيء كاملا، فقد اكتشف أنه من بين الأشياء التي قتلها الملح الزاحف على جسده، كان الفرح قد مات.
فكر وقتها بشكل مأساوي، وتبدت له الدنيا ظلاما دامسا، نفقا معتما لا نهاية له، ولا بارقة ضوء تلمع في نهايته حتى ولو كانت قطارا، ولأنه لم يحتمل أن يعايش الحزن وجها لوجه في خلود أبدي، فقد قرر الانتحار.
كان الله قد منحه مع خلوده الملحي أشياء كثيرة، وسلبه أخرى، فمع موت الفرح كان قد سلبه الجوع، ورغم أنه شعر في ذلك الصباح الذي مات فيه الجوع بحرية عجيبة، وبنشوة صوفية خالدة، فقد اكتشف أيضا أنه حمل مع خلوده الأبدي عطشا أبديا، ذلك أن في الماء هلاكه، وتر أخيل الذي نسيه الماء المقدس.
وعندما مات الفرح، ورأى الحزن وجها لوجه، قرر أن ينهي حياته، ليهرب من تلك الرفقة المؤبدة، فابتلع زجاجة خمر كاملة. إلا أنه اكتشف أن الخمر ليس كالماء، وأن الكحول لم يذبه، بل راح يتسرب في ذرات شفافة من بين بلورات جسده، فعرف أن الخمر التي لا تروي أحدا ستكون رفيقه في أبديته، وفي نشوة الخمر سكنته بعض الطمأنينة، لأنه في خبرته مع الموت، عرف أنه كما مات الفرح، فإن الحزن قد يموت يوما ما.
لم يكن قد لاحظ الظلال الرمادية للغيوم على المقهى الزجاجي للبار بعد، وتساءل متى اختفت الشمس، ولما سمع دوي الرعد في الخارج ورأت عيناه التماعات البرق على الزجاج الشفاف، انكمش في نفسه مذعورا، وحاول جاهدا أن يخفي عنها ارتعاشة مرت من أصابع قدمه المتحجرة حتى رأسه الذي لم يكتمل تحجره بعد. على صفحة الزجاج رأى الماء ينهمر في خطوط طويلة متشابكة حجبت الطريق خلف الزجاج، غير أن أذنيه التقطتا بسهولة صوت البحر الهائج كشيطان على الجهة الأخرى، واقتحمت أنفه رائحة الملح واليود.
ابتسمت، ولمع في عينيها بريق طفولي. قالت إنها تريد أن تمشي تحت المطر، تريد أن تبتل وأن يغسل المطر شعرها المموج كما يغسل الشوارع والسيارات والأبنية العتيقة.
أعجبته الصورة الشعرية، ولكنه استبقاها في رجاء طفولي، تمنى أن يبقيا هنا للأبد، أو حتى يكف المطر عن الهطول ويأتي الربيع. زمت شفتيها في عناد – طفولي أيضا- ورأى في عينيها تصميما قاتلا. لا يستطيع أن يخرج، الخروج قاتل، ووجودها نشوة خالصة، وتمنى لو جاءت قبل سنوات، لربما لم يكن ليتحول إلى ملح، وربما أيضا قبلها تحت المطر، إلا أنه لا يستطيع ذلك الآن، لأنه يخاف أن تتذوق في قبلته طعم الملح.
لربما أيضا كان قد تزوجها، لتكون زواجه الأول، رغم الزوجة الأولى التي هجرها هربا نحو المدينة الساحلية، بعد احتضاره الأول، وبعدما رأى الملح يزحف في جسده، وعرف أنه يوما ما سينتهي به الأمر تمثالا من الملح، قد يكون فرجة لزائرين يقضون وقتهم في التسلية برؤية معجزة جديدة من معجزات الله التي توقفت منذ قرون.
لكنه لا يستطيع، قال لنفسه، وتذكر الحادثة الأخيرة، حين كان في أحضان إحداهن، يشم رائحة عرق الرجال تفوح من مسامها الواسعة، يراقب صورهم وحيواتهم كإله أوليمبي، وكانت هي تصرخ مما ظنته فحولته، غير عالمة بأن الملح الذي زحف على جسده قد تسرب إلى ذكوريته أيضا، فبدلا من الدم تسرب الملح، فاكتسب صلابة تمثال إغريقي.
وعندما كان يرتعش كعصفورمن النشوة، وبينما كان من المفترض أن يلفظ جسده سوائله، لم يحدث شيء، اختلطت اللذة بالألم حتى احتالت ألما جهنميا خالصا. ركض إلى الحمام، وراح مقرفصا مباعدا بين فخذيه ومستندا بكفيه إلى الأرض كعاهرة تلد طفلا غير مقصود، راح يدفع للتخلص من العذاب المكتوم، وبينما كان يسمع طقطقة إصبع إحدى كفيه تحت الضغط الثقيل الذي خلف شرخا في بلورات الملح، تذكر أن جسمه خلا من سوائله، كان يحتضر، أحس بأنفاس الموت، تسرب العرق بلورات ناعمة على وجهه، ولفظ ذكره بلورات ملحية ثقيلة.
نهضت، جمعت أشياءها في حقيبتها الجلدية، وحملت مظلتها الزرقاء. قالت إنها ستخرج.
هو قال إنه يريد أن يبقى. قال أيضا إنه لا يريد أن يفعل شيئا. أراد أن يقول إنه يخاف المطر، وأنه قضى ليالي العاصفة الأخيرة مقرفصا كجنين يبكي – بلا دموع- والمطر يضرب الزجاج بعنف حتى ظنه سيتكسر تحت وطأته، وفي تلك الليالي أيضا تأكد ثانية أنه لن يموت، لأن دموعه لم تخرج، فقط ذرف قطيرات من بلورات الملح، وتأكد له خلوده الملعون، لأنه يعرف أن أولئك الذين لا يستطيعون البكاء بدموع لا يتمكنون من الموت. أراد أن يقول أيضا إنه يصحو مفزوعا من أحلام عن أناس يطاردونه بمسدسات مائية ويضحكون، وأن أسنانهم صفراء مخيفة. غير أنه لم يقل، ورآها تخطر بمشيتها الواثقة نحو باب البار.
رأى صورتها المشوشة خلف الزجاج المبتل، كان جسدها ينعكس في تموجات حلمية، وبينما كانت تبتعد في طريقها، عرف لأول مرة أنه وإن مات الفرح والجوع والسوائل، فإن الحزن لن يموت أبدا.
فكر في أن العاصفة قد تستمر لأيام، وأنه سيبقى إذن مسمرا في كرسيه لا يقوى على الخروج. أصمت أذنيه صفعات الماء الفائر للشاطئ المنحور، وأشعره هدير الموج بأن الموج سيحمل نفسه إلىى هنا، سيكسر الزجاج ويجرف الطاولات، سيذيبه ويبتلعه داخل ملوحته، وسينحسر، وستهدأ العاصفة، وسيتراجع الموج كأن شيئا لم يكن، يتراجع إلى عمقه الهادئ المستكين، بعدما أضاف لبطنه الجائع دائما، ذرات من الملح جديدة وطازجة.
للمرة الأولى تساءل إن كان الله حين منحه خلوده قد أنعم عليه أم لعنه كامرأة لوط، التي نظرت خلفها فانقلبت إلى تمثال من الملح، وعاوده ذلك الرعب الكامن في نفسه، الذي تخلق أول مرة في الليلة التي هجر فيها زوجته وبيته، فكما خلد كاتب للرقاق صورة المرأة التي تحولت إلى تمثال من ملح، لتصدح الصلوات في كل مكان بحكاية التمثال البشري، فإن أولئك الملاعين الذين يحيطون به سيخلدونه، ليس بالكلمات فقط، بل بالصور، ولربما وضعوه في صندوق زجاجي في أحد المتاحف أو الميادين، ليسلي روادا من المتثاقفين والمتشككين في وجود الله الباحثين عن المعجزات.
هروبه للمدينة التي يحيطها البحر بذراعيه لم يكن صدفة -فكر- وهو يلقي بالنقود على الطاولة. للبحر نداء خفي ومثير كنداء السيرينات، نداء الملح للملح. يسمع الآن بوضوح ذلك النداء، يحس بأنفاسه، رقيقة لكن قوية، لها رائحة القرنفل، تثير فيه حنينا قديما للحظة لا يذكرها لكن يعرفها جيدا.
قام، واتجه نحو باب البار، لم يعبأ بأن حذاءه خفيف، وأنه لم يرتد البوت الجلدي الطويل، ولم يعبأ بأن ملابسه من القماش لا الجلد، وأنه نسي أن يجلب مظلته الجلدية.
فتح الباب، واستقبل زخات المطر الهائج. خطا نحو الخارج شاعرا بالبرودة، كان البحر هائجا، والموج يصفق الشاطئ بعنف، تتعالى الموجات عابرة الطريق، والعابرون يركضون محتمين بالبلكونات من المطر، حاملين مظلاتهم الكئيبة، وهو خطا في ثقة وهدوء إلهيين، وعلى الجانب الآخر عند البحر الفائر رآها، كانت تخطر في معطفها الذي لم يستطع تحديد لونه بعد، تجر مظلتها وراءها، المطر يغسل شعرها، وموجات البحر تغسل رجليها.
لم يعبأ بأنها ابتعدت، سار في طريقه لا يلوي على شيء، حتى عندما شعر بإحدى قدميه تتناقص، وبأن ذراعه اليمنى راحت تذوب، ولم يعد يشعر بأنفه أو يراه. تحامل على قدمه التي لم تبدأ في الذوبان بعد، أراد أن يعبر الطريق، اكتشف أن رئتيه تتحركان، وأنه يبتلع الهواء البارد المشبع بالملح واليود. وبينما كانت قدمه اليمنى تغوص تحته متحللة في الموج الذي عبر الطريق، وكانت قامته تتضاءل، أحس بالفرح.