ألم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

المكان زاكورة، جنوب المغرب.

الزمن ذات أربعاء، 1980.

مشى لساعات على ضفة الوادي، اخترق واحة النخيل الممتدة إلى حدود الأفق، انحرف يمينا، يسارا، ثم يمينا، مر بمحاذاة الحي الإداري حيث البنايات ذات الطابع الاستعماري، ترك المدينة وراءه، صعد إلى أعلى نقطة، ثم أخيرا توقف هناك في مكانه المعهود.

جلس على السور الحجري، خلع نظارته الشمسية وراح ينظر للأفق.

لسنوات كان مساره اليومي المنتظم ينتهي دائما هنا، هنا ملجأه كلما أحس بالكآبة والألم.

مالت الشمس نحو المغيب، فقدت حرارتها وراحت خيوطها ترسم لوحة فنية بألوان حزينة، لوحة غاية في التناغم والهدوء والرومانسية.

جلس وحيدا، يدخن، يفكر، يمضغ هواجسه ويسترجع الصور.

الناس هنا لا يهتمون لجمالية الغروب أو الشروق، الطبيعة هنا مجرد فضاء للحياة بالمعنى البيولوجي الصرف، الناس هنا بسطاء ولا وقت لديهم للتأمل، الناس هنا ملتصقون بالأرض ومنخرطون في الحياة والعمل إلى درجة أنهم لا ينتبهون لوجوه الحياة الأخرى.

الحياة هنا تعاش فقط.

هيمن منظر الغروب على جوارحه بشكل كلي، انخرط في لحظة بياض قوية، أفقدته الاحساس بالزمان والمكان، شيء يشبه الحلول والذوبان، ثم عندما عاد إلى ذاته، انتبه، سمع وقع خطوات خفيفة، التفت، رأى سيدة تقترب منه، سيدة في حدود الأربعين، اقتربت في خطوات مترددة، سيدة جميلة، أنيقة، جسم مرسوم يميل إلى النحافة، بيضاء، شقراء، وفارعة الطول.

  • بونجور !!

ابتسم لها مرحبا.

  • بونجور سيدتي !!

كانت تحمل بيدها اليسرى كتابا، كتاب انتبه فيما بعد أنه نسخة من الإنجيل، تتدلى منه أهداب سبحة من الفيروز الأزرق، في حين تتكأ يدها اليمنى على عكازة رفيعة من الخيزران.

استدرجته في الكلام، وانخرطا في حديث عن الصحراء والغروب وجمالية المكان، فهم مباشرة أنها إنسانة مثقفة، وذات خلفية فكرية رفيعة.

سألته.

  • أأنت من المدينة؟

– أنا مغترب، أنا من الجنوب، أقصى الجنوب.

  • ماذا تعمل في الحياة؟
  • أنا مهندس زراعي، أشتغل في مشروع تنموي ترعاه الأمم المتحدة، بهدف توطين البدو الرحل !

رفعت حاجبيها في حركة تعجب.

ثم قالت.

  • أنا إسمي (فيدورا)…(سيلفيا فيدورا)، وضعي معقد قليلا، أنا نصف فرنسية ونصف روسية، أنا هنا لأسباب صحية…فأنا أعاني من روماتيزم مزمن، ونصحني الأطباء والأصدقاء بحمامات الرمال، وأجواء الصحراء الدافئة !!

انخرطا في حديث عفوي، تحدثا عن خصوصيات المنطقة، الشمس، الشروق، الغروب، الرمال، حركية الضوء والألوان، الجبال، الوادي، واحات النخيل، وطيبوبة الأهالي…

انجذب هو القادم من أعماق الصحراء إلى جمالها وشعرها الأشقر المنسدل، ووقفت هي تتأمل تقاسيم وجهه الجنوبي.

تبادلا بعض المجاملات، ثم ودعته بأدب.

  • هل نلتقي ؟
  • أكيد…لم لا ؟
  • كيف أدعوك إذن ؟
  • أنا عبد الرحمان أمين الباهي… أصدقائي ينادونني عبدو !!

ابتسم، فكر في ولع الجنوبيين الفقراء ببريستيج الأسماء المشرقة والمركبة، في الليسي كان زميلا لجمال عبدالناصر، وأنور السادات، وجعفر النميري، وعبدالرحمان سوار الذهب، ومعمر محمد ربيع الأنصاري…أسماء تترجم نظرة الإنسان الصحراوي لذاته، نظرة هي مزيج من البساطة والنخوة والكبرياء…

  • أوكي سيد عبدو، عمت مساء!!

نطقت حرف العين بصعوبة !!

  • عمت مساء سيدتي !!

راقبها وهي تعود أدراجها في اتجاه الحي الاداري.

في المساء، عندما عاد إلى البيت، صعد توا إلى المكتبة، فتح كتابا في التاريخ الروسي ومعجما للأعلام، فيدو…فيدورا…تعني هبة إلهية…

ابتسم.

  • فعلا، إنها هدية !!

التقيا بعد ذلك مرة أو مرتين، ربما أكثر، مرة تشتري الورود والفاكهة، ومرة في المكتبة الوحيدة بالمدينة، تبعث رسائل تهنئة بمناسبة رأس السنة الميلادية، رسائل بالعشرات، كانت تستنسخ رسالة بنص واحد، تغير فقط الأسماء والعناوين وتضعها في أغلفة ملونة، ثم تلقي بها في صندوق البريد.

عندما دعته لزيارتها للمرة الأولى، حرص أن يكون في الموعد.

بيت من الطين الأحمر على الطراز البلدي، بهو واسع ومفتوح، إلى اليمين ورشة رسم، أوراق وأثواب بيضاء، علب للصباغة، عدة وأدوات للرسم من مختلف الأشكال والأحجام، لوحات في كل مكان، تيمات مختلفة، تجريد، تجريب، انطباعية، عجائبية، واقعية…

لوحات بعضها مكتمل، وأخرى عبارة عن كروكي وتخطيط أولي لموضوعات غامضة، بعضها مكشوف، وأخرى مسجاة بثوب من الكتان الأبيض…

أشارت بيدها مرحبة ثم اختفت، بدا مترددا ومحرجا، شعور يجتاحه في كل مرة يتعلق الأمر بأشخاص غرباء وفضاءات جديدة، جلس، استعاد هدوءه تدريجيا، أخذته تفاصيل المكان، لوحتان معلقتان، إحداهما تمثل أطفالا رضعا بأجنحة ملونة مثل فراشات ربيعية، وأخرى تجسد السيد المسيح، وسيما بملامح أنثوية، يترجل من الصليب، وكأنه يهم بمغادرة اللوحة !!

فكر في صمت.

  • كما تخيلتها، إنها فعلا سيدة مثقفة بخلفية مترفة !!

مرت لحظات، عادت تحمل كأسي عصير مثلج، ناولته واحدة.

قالت.

  • نخبك…نخب الصحراء والصدفة !!

ابتسم شاكرا، همس بداخله.

  • نعم…نخب الصحراء والصدفة والجمال !!

رفع الكأس إلى شفتيه، نظر جهة اللوحة، لوحة المسيح، خاطبه في صمت.

  • نخبك أنت أيضا…لا تقلق، لن أشرب من دمك !!

جلست تنظر إليه، تتأمله، راسمة بداية ابتسامة مشرقة.

سألته.

  • كنت أود أن أسألك عن المعنى في اسمك الخاص؟!

نظر إليها، تأملها للحظات، ثم قال كلاما غامضا عن الرحمة والخضوع والعبودية والإيمان، كان يشرح، ولكنها لم تكن تسمع، غابت في لحظة تأمل، ثم عندما عادت أخيرا.

قالت.

  • اتعرف، أنت وأنا…رغم اختلاف العقائد…لدينا إلاه واحد!!

ابتسم، انخرط في حوار داخلي صامت.

  • أعرف هذا جيدا…أنا أيضا تخيفني هذه الآلهة التي تطل من كتب العقائد وتنخرط في حروب البشر تماما كما في الحكايات، آلهة تمتطي خيولا جامحة، وتمتشق أسلحة غريبة تماما كما كان يفعل المغول والتتر ومحاربو الفايكينغ…

مرت الأيام، توطدت علاقتهما، تحولت إلى ارتباط حقيقي، قصة عاطفية قوية وجارفة يمتزج فيها الحب والأمل بالألم.

تزوجا، أنجنا طفلين رائعين.

كانت ملامح (ابراهيم) خليطا من صقيع القوقاز وسرابات إفريقيا الحارة، أما الصغيرة (نادية) فورثت أسرار الجمال من جدتها الفرنسية.

ثم بعد سنوات ولسبب ما يجهله، يجهله ولكنه يفهمه.

انتهى ذلك الحب، مات، تلاشى تدريجيا، انقطع الخيط الحريري، وانفرطت حبات السبحة.

تحول الحب إلى غضب، ثم إلى مزيج من المشاعر السلبية، خليط من الأنانية والنفور والخوف والكراهية والرغبة في الانتقام.

وكما يحدث عادة في قصص الحب التي تنتهي بالفشل، عندما تنهار أسوار الحب، تحول الأبناء إلى موضوعات للتملك والصراع والانتقام.

ثم عندما رحلت أخيرا، أخذت كل شيء، أخذت معها (ابرهيم) و(نادية) البهيين.

امتص نفسا أخيرا من سيجارته، أرسل الدخان بعيدا، حرره على شكل أعمدة قوية ومتتالية، سحق سيجارته، ما تبقى منها، دفنها في التراب في حركة هادئة ومصممة، أحس بالألم يعتصره، يمزق قلبه، تمالك نفسه، قاوم دموعه بصعوبة، وأوقف شريط الصور بداخله.

اختفت الخطوط الأخيرة لأشعة الشمس، هبت نسمات رطبة وخفيفة من الجنوب، انتبه، عاد إلى نفسه، قام مكسورا، لملم جراحه، ومشى في اتجاه المدينة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون