الإعاقة عند شكسبير والتشوه المادي للعالم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 50
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد علام

ورد على لسان “بتروشيو” في مسرحية «ترويض الشرسة» وصفًا لـ “كاثرين”، بأنها عرجاء، ولم يرد هذا الوصف إلا خلال سطر واحد عبر المسرحية كلها، واعتبر معظم من تعاملوا مع نص شكسبير طوال 400 عام أن هذه الإشارة جاءت للمزاح في إطار الكوميديا فقط لا أكثر، لكن يبدو أن المخرج البريطاني بيتر هينتون تعامل مع المسألة بجدية مفرطة، فقدّمَ في 2008 على خشبة المسرح ممثلة مُصابة بالعرج بالفعل، وهكذا وجد الجمهور نفسه يضحك من معاملة بتروشيو الغليظة لامرأة معاقة. ومن حينها فتح “هينتون” بابًا لدراسات الإعاقة لتعيد قراءة نصوص شكسبير، والتساؤل: إذا لم يقصد شكسبير السخرية من كاثرين لأنها عرجاء فعلا، فهل أراد الاستهزاء بها بوصفها بالعرجاء؟ ماذا لو لم تكن مجرد مصادفة؟ إذن هل خلود أعمال شكسبير يقف حائلًا ضدّ تطور النظرة إلى “الإعاقة” بوضعها موضع التحقير، وأنها مجرد أداة لإثارة الفكاهة لا أكثر؟!

تُعد مشكلة العجز أو الإعاقة من المشاكل التي لم يغفلها المسرح الأوروبي منذ سنوات النهضة وحتى الآن، ورغم أن شكسبير لم يقدم نماذج عاجزة كليًا أو ينطبق عليها ما يحمله مصطلح الإعاقة أو العجز بتعريفه الدقيق، إلا أن مفاهيم إرفينغ جوفمان* حول الوصم الاجتماعي قد فتحت بابَ إعادة قراءة شكسبير في ضوء صياغات ألفريد أدلر لعقدة النقص وكيف أن المجتمع بتهميشه لفئة لحساب أخرى، يساهم في زيادة الفجوة بين أفراده وغرس بذور العنصرية والتطرف.

إلى أي مدى كان شكسبير مرآة أمينة لعصره؟
يقول بول دوتان إنه “مورد مسرحيات يسعى إلى الربح”، ذلك أن الأدب في عصر شكسبير لم يعرف حضور الأيدولوجيا الخاصة، ولا ذات الأديب التي ستستيقظ على يد هنريك إبسن مثلا. ولكن هل يمكن اعتبار أن ما آلت إليه نصوص شكسبير يُعد وجهة نظر عصره خالصة؟ فمن الناحية النظرية أن شكسبير لم يحِدْ في أعماله التاريخية التي تناولت شخصيات بعض حكام إنجلترا والممالك الأخرى المُجاورة خلال حِقبٍ زمنية مُختلفة، عن نظرة التاريخ الرسمي، إلا إنه كان شديد الحرص أن تبدو الشخصية الدرامية شديدة الكمال شديدة العجز أيضًا، وأن يحمل الفعل الواحد الخيرَ والشرَّ معًا، وقد نلاحظُ كيف صوّرَ “هاملت” أمير الدانمارك مضطربَ الإرادة، مُشتّت الفِكر، غير قادر على توجيه اختياراته، حتى يُهيَّء له الجنون، فتختلط الأوراق وترتبك المعايير في الحكم، ولا يمكن النظر بأحادية لشخصيات شكسبير عامة، لأنه نفسه لم يُشيد شخصياته بهذه الأحادية، بل جعلها شديدة التناقض في تكوينها، ومعمارها البدني والنفسي والاجتماعي.
وإذا نظرنا إلى حال المُعاقين خلال عصر النهضة وما قبلها، وجدناهم على هامش الحياة، فهم منبوذون من الدولة عن كافة الوظائف، ويعتبرهم المجتمع نتاجًا للشر وأنهم مسكونون بالجن والعفاريت، وكانت الكنيسة تعمق هذه النظرة في أحيانٍ كثيرة، ولقد ساهمت في سجن البعض وتعذيبهم بطرق بشعة. وما كان سائدًا فترة الدراما الإليزابثية أن الملوك والقادة معصومون من هذه الإعاقات المادية، وأنه إذا حاد ملك عن الصواب اتهم بالمرض العقلي، فأن يأتي شكسبير بشخصيات تعاني الاضطراب النفسي والمرض العقلي، والتشوه البدني على المسرح في القرن السابع عشر، فهي جرأة لا يمكن إنكارها، لأنه كان يُنظر إلى ذلك النوع من الأمراض على أنه انتقاص من كمال الحاكم الذي هو بمثابة “إله صغير” لحكومته وشعبه كما أورد شكسبير على لسان “كاسياس” في وصف يوليوس قيصر.

في مبتدأ المسرحية يدور حوار بين “كاسياس” و”بروتوس” حول أن قيصر ليس خير الرجال للحكم، ركيزته نقطة واحدة أنه عندما يُصاب بالحمى (نوبة الصرع) ينهار الجسد الضخم ويرغي ويزبد ويسقط قناع القوة والغطرسة الذي يتظاهر به طوال الوقت، وهنا يسخَر “كاسياس” في ربط واضح بين الضعف الجسدي الذي يصيب قيصر والذي لا يستقيم مع صورته كحاكم عظيم. ويشير “كاسياس” من واقعة سقوط يوليوس في السوق، إلى التشنج الذي أصاب قيصر، وجعله يستغيث بمن حوله، ولعل وصف هذا الأمر بـ “السر” يوحي بمدى فداحة الأمر وعاره، ولذلك يحرص قيصر على كتمانه، لأن معه يظهر الضعف وقلة الحيلة لإله روما كلها.

وهكذا يخدم “الصرع” أجندة المتآمرين، ويتخيل “كاسياس” أن الجسم المريض يؤدي إلى حكم مريض وسياسة مريضة، كما كان سائدًا في تلك الفترة أن التشوه المادي الخارجي، يشيرُ إلى الفساد الأخلاقي الداخلي، وبالتالي صارت “إعاقة” قيصر إدانة له، وتهمة بالانحلال والخلل، والعجز. من المهم الإشارة إلى تعامل المسرحية مع “الصرع” كتشوه مادي، انتقص من كمال القيصر ومن أحقيته في الحُكم، ما قاد البلاد في طريق الانهيار والعبث وانتشار الفوضى.

هل المُعاق عدو المجتمع؟
في مسرحية “ريتشارد الثالث” بث شكسبير في المونولوج الافتتاحي عداءً واضحًا للمجتمع الذي يضطهد المعاق ويشعره بعجزه طوال الوقت، ما يولد لديه شعورًا بالسخط والكراهية. حيث قدم شكسبير الملك ريتشارد، يعاني من تشوه مادي صريح، عبر حدبٍ في ظهره، يحاول إخفاءه طوال الوقت، ويملك ملامح دميمة، تجعل قلبه قاسيًا وجاحدًا وساخطًا على بني البشر.

“دوق جلوستر: أنا الذي خُلق على عَجل ولم يؤت من جمال المحبين ما يخطر به أمام حسناء مختالة لعوب، أنا الذي حُرم اتساق القسمات، وزيفت الطبيعة الخادعة بنيته، أنا المشوه المنقوص، الذي أرسل قبل الأوان إلى هذا العالم النابض بالحياة ولم يكد يتم خلقه، أنا الذي تنبحه الكلاب إذا وقف عليها، لما تراه من بالغ عجزه وغرابة هيئته، أما أنا فلا أجدُ في هذا الوقت، وقت السلم الذي تخفتُ فيه الأصوات وترق شيئا من المتعة أتسلى به، إلا أنْ أخالس النظر إلى ظلي في ضوء الشمس، وأتغنى بخلقتي الشائبة. لأكن إذن شريرًا! ما دمتُ لا أصلحُ للحب”.

تُفسر “عقدة النقص” الشعور بالدونية الذي يتمكن من الشخص العاجز، والذي سرعان ما يُدرك عدم أهليته لمشاركة باقي أفراد المجتمع أنشطتهم وصراعهم الحياتي المشترك. ويُرجّح ألفريد آدلر أن الشعور بالدونية ينمو منذ مرحلة الطفولة، حتى يتحول إلى موقف استعدائي للعالم. وقد يتسم هذا المعاق/ العاجز بالغرور والفخر المبالغ به والرغبة في النيل من الجميع بأي ثمن.

إن الصورة المثالية التي قرأ شكسبير التاريخ من خلالها، ساهمت في توجيه العجز البدني والتشوه المادي لدى يوليوس قيصر أو ريتشارد الثالث، أن يقود في النهاية إلى تشوه قيمي وأخلاقي، فتنتشر أعمال الظلم والقتل، وتسقط البلاد كلها في الفساد والانحلال. وهذا ما يُفسر مبادئ الشكسبيرية في الدراما، حيث إن مصير الإنسان معلقٌ بجذور سحيقة من الماضي، وأن الإنسان مُسير في طريقه بناء على إرادة الماضي، سواء كان ذلك الماضي الدنيوي، أو الماضي الأعلى/ الإرادة الإلهية، وعلى ذلك يتوهج صراع الإرادة لدى الشخصيات ما يجعلهم منجرفين ناحية مصير شبحي الملامح، بلا يقين واحد.

تجدُر الإشارة أيضًا إلى النظرة التشاؤمية التي شمل بها شكسبير المعاقين والعجزة في مسرحياته، أنها كانت مرحلة تجاوزها المُجتمع فيما بعده، ويمكننا من خلال إشارة سريعة لـ أحدب نوتردام وأحدب شكسبير، حيث مثّلَ “ريتشارد الثالث” نموذجا للشر الخالص، ولم يغفل شكسبير في إشارة ذكية أن إصابته بتشوه/ حدب، جعلته ساخطا ناقما مختلّ القرارات والأفعال، وأسهب في نعته بأنه “ضفدعة قبيحة حدباء شائهة المنظر”. عكس الأحدب في رواية فيكتور هوجو، والتي عمدت إلى تناول التشوه أو الحدب دون أن يؤثر على عاطفة “كوازيمودو”، بالعكس، جعلته الإعاقة حاملا لقيم التسامح والحب وقادرًا على تبديد سخطه على المجتمع، وأثارت لديه القيم النبيلة إذا ما مدت الغجرية “إزميرالدا” يدها بالحب والأمان.

……………………….

*نشر في مجلة “الدوحة” الثقافية، نوفمبر 2019.

مقالات من نفس القسم