د. نعيمة عبد الجواد
كثيرًا ما يفتُّ العضد وجود شخص يهجو ويكيل الاتهامات لمن هم أفضل منه، بل والأدهى من ذلك يحيك لهم المكائد حتى ينزل بهم ألوانًا من الأذى والسوء. وكثيرًا ما نسمع أنه لا يجب الالتفات لأمثالهم؛ والسبب أن من يشعر بالنقائص يحاول أن يجعل حياة الأفضل منه جحيمًا.
وفي العصر الأموي، اتَّخذ الهجاء منحى شخصيًا وفي نفس الوقت سياسيًا. فبسبب الحروب والقلاقل السياسية التي نجمت عن استيلاء بني أمية على الخلافة، كان لابد من إحداث تغييرات جوهرية في شكل الحياة الاجتماعية. ولهذا السبب، عمد الأمويون إلى نقل عاصمة الخلافة إلى دمشق، بسبب أن جميع سكانها يدينون لمعاوية بالولاء التَّام.
وفي نفس الوقت، كان لابد من تغيير شكل الحياة الاجتماعية في الحجاز والتي يعتقد أهلها أنهم الأولى بالحكم لأنهم من المسلمين الأوائل، ولم يكن للأمويين أي فضل عليهم. ولهذا، كان ينازع بنو أمية في الحكم بنو هاشم وآل الزبير. وعلى هذا، أصبحت أفضل وسيلة لبني أمية هي استخدام العطايا وسيلة لقمع الإرهاب والقضاء على المعارضين ووسيلة لتقريب المطيع الخانع إلى الحاكم. لكنهم أيضًا منعوا العطايا عن البعض، وأسرفوا في إغداقها على آخرين لضمان صمتهم وشراء ضمائرهم.
وعلى هذا الأساس، أصبح الحجاز في زمن بني أمية يختلف عنه في الإسلام والجاهلية. فبسبب السياسة الأموية، حدثت تغيرات جوهرية. فأصبحت الحجاز منطقة لهو، يقصدونها الناس للمغنيين والمغنيات، بما في ذلك الفقهاء والنسَّاك، وحتى النساء أصبحن يتخذن الأسباب لعقد مجالس الطرب في تجمعاتهن.
وفي تلك البيئة ترعرع العديد من الشعراء، ومنهم “الأحوص الأنصاري”. وعبدالله بن محمد بن عبدالله بن عاصم بن ثابت الأنصاري (660-724 م) الذي قيل أنه سمي بالأحوص لضيق في مؤخِّر العين كأنها خبطت. ويعد الأحوص أحد أساطين اللهو والعبث وحياة البذخ، والانصراف للغزل في بلدة أصبحت مسرحًا للمغنيين والجواري، ومرتعًا لأهل اللهو والعبث، فتفشى أيضًا بها المجون. أضف إلى تأثير ما يحدث في وادي العقيق ومخنثو وادي العقيق، والذي كان الأخوص زعيمًا لهم. والفرق بين مجون الأحوص ومجون عمر بن أبي ربيعة، أن الأحوص كان لا يتغزل إلا في الجواري، في حين أن عمر ما كان يختلط أو يتغزل إلا في الحرائر من النبيلات القرشيَّات. ولهذا، أصبحت أشعار الأحوص تعبيرًا صادقًا ونقلًا واقعيًا لتاريخ الحجاز في العصر الأموي.
ونظرًا لأن الأحوص كان فقيرًا، مقارنة بمعاصريه، تقرَّب من الحكَّام، وكان يطلب منهم العطايا والإمارة من خلال أشعار المدح التي كان يغدقهم بها. ويمكن تقسيم حياة الأحوص لثلاثة أطوار مختلفة: الأولى هي مرحلة الشباب الذي كان فيها أمله للإمارة والسلطان شديدًا وتمتد هذه الفترة من وفاة معاوية بن أبي سفيان إلى أوائل عهد الوليد بن عبد الملك. ومرحلة أصابه فيها الإحباط واليأس من بني أمية، وتمتد من أواسط عهد الوليد بن عبد الملك إلى نهاية عهد سليمان ابن عبد الملك، ثم مرحلة تمتد من عهد عمر بن عبد العزيز إلى وفاة الأحوص الأنصاري، وقد كان أولها وبالاً عليه . وكل فترة من هذه الفترات كانت نتاجاً طبيعياً للمرحلة السابقة لها، وكل هذه المراحل مجتمعة هي التي شكلت شاعرية الأحوص الأنصاري وشخصيته.
و كان الأحوص أموي الهوى، يميل إليهم ميلًا شديدًا بعاطفة صادقة ولم يمدح أحداً سواهم مهما علا شأنه ومكانته. ومن القصائد التي تدل على صدق عاطفته، تلك التي رثى فيها “معاوية بن أبي سفيان”، والتي كانت جميع حروفها نابعة من نفس بعيدة عن الجشع والأطماع، فيقول:
أن أمرأً أمن الزمان وقد رأى غير الزمان وريبة لجهول
أين ابن هند وهو فيه عبرة أفما اقتديت بمن له معقول
وهو في ذلك يرثي شخصية فجعه أن يغدر بها الزمان وتكسر قلوب محبيها. ولقد أنشد الأحوص قصيدته ولم يعبأ بامتداح الخليفة الجديد يزيد بن معاوية؛ لأنه كان يبكي بصدق ولم يرد طلب رضا أحدهم.
وبعدها لم يتناول الأحوص سلطانًا بمدح أو ذم، إلى أن جاءت ولاية “عبد العزيز بن مروان” ونمت بينهما علاقة رائعة يمكن تشبيهها بعلاقة المتنبي بسيف الدولة. فلقد كان يقدِّره وقرَّب الأحوص من مجلسه في زمن كان يعج فيه بلاط “عبد العزيز بن مروان” بأعظم الشعراء وأكبرهم مكانة مثل الأخطل والفرزدق. وبالرغم من أن الأحوص كان شديد الفخر بنفسه، تغاضى “عبد الملك” عن ذلك إلى أن ألح الأحوص في طلب السلطان لأنه من أسرة بالرغم من فقرها، جاهدت في سبيل الله جهادًا عظيمًا؛ فجده حمى الديار، وخاله غسيل الملائكة. فكان لابد من رفع قدره؛ لأن لن يُرقِّع برقع فقره سوى الإمارة والسلطان. فما كان من إلحاحه سوى احتقار “عبد الملك” له ثم نفيه إلى دهلك، بعد أن استضافه يومًا في قصره وأنزله به بعد أن أجزل له العطاء. لكن “الأحوص” راود الخبَّازين عن نفسهم وأراد أن يفعلوا به الفاحشة، فما كان من “عبد الملك” إلا أن أخرجه من القصر عاريًا وطيف به في الشوارع. بدلًا من أن ينتابه شعورًا بالذل والعار، أخذ الأحوص ينشد عاريًا فخورًا بنفسه مؤكِّدًا أن هذا من كيد أعداءه الذين أعياهم نجاحه.
وبعد النفي، انقطع عشم الأحوص في السلطان في عهد بني أميَّة برمتهم، فأصيب بيأس شديد وظهر إحباطه ويأسه في حياته الاجتماعية وأشعاره؛ فبات يهجو الجميع؛ فخاطره الكسير جعل شوقه يتوق في كل ما يراه إلى السلطان والسيادة. فكان هجاءه رثاء لحاله لشعوره بالنقص، أكثر منه لوجود نقيصة في الآخرين. ومن الوقائع الدالة أن الحقد أخذ منه مبلغه حينما أخذ يهجو “معن بن حميد الأنصاري” سيد قومه، فقال:
عليك بأدنى الخطب إن أنت نلته وأقصـر فلا يذهب بك التيـه مذهبًا
وعندما هب بنوه ومواليه لعقاب الأحوص، أمرهم سيدهم قائلًا: ” دعوا الكلب، خلوا عنه، لا يمسه أحد منكم”. فلما انصرف والحقد يملأه، وجد ابن أبي جرير أحد سادة بني عجلان فهجاه أيضًا، بسبب أن مكانته لم يظفر هو بها، فقال:
وإن بقوم سودوك لحاجةً إلى سيد لو يظفرون بسيد
وهذه القصة التي يهجو فيها الأحوص الأول على ثروته وكثرة أبنائه ومواليه، والثاني الذي كان سيدًا وزعيمًا لقبيلته أبلغ مثال على أن المسيء لا يسعى إلَّا إلى تهدئة نفسه الحاقدة؛ فهو مريض يحاول أن يهدئ من روعه.