سيرة أخشاب تتهيأ للملكوت

Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

صراحةً، يعلن الشاعر محمد عبد الحميد توفيق في ديوانه “سيرة أخشاب تتهيأ للملكوت” عن ثورة، لكنها ثورة خشبية، إذ احتشدت الأشجار لتدافع عن الشاعر، وتمنت شجرة السنط أن تتحول إلى مشنقة تُودي بحياة الطاغية، فيما تحولت الصفصافة إلى بندقية في يد الثائر، بينما أطلقت شجرة التفاح عصافيرها لتغني القصيدة. هنا يحتفي توفيق بالأخشاب مستخدمًا مفردات من حقلها عبر صفحات الديوان، مكررًا إياها في إشارة منه لجعلها بطل نصوصه الأوحد: أخشاب، خشبة، هراوة، جذع، ثمار، جميزة، سدرة، أغصان، باب، نخلة، سرير، محراث خشبي، رجل خشبي وغيرها.
” لا يكفي أن تغرسوا الأشجار
لتزينوا بها الشوارع والطرقات
فالأهم أن تتخلقوا بأخلاقها
الشجرة مثلي الأعلى في اخضرار الفؤاد
ومنح الخير للكائنات “.
إلى جانب ذلك يحتفي توفيق في نصوصه تلك بجماليات النص الشعري والتي تضفي عليه بُعدًا دلاليًّا يسمح لمتلقيه بأن يتعاطاه على أكثر من جانب قرائيّ وتأويلي.إنه هنا يدوّن طقوسه الحياتية في مرحلتيْ طفولته ومراهقته وما مر به فيهما، من خلال علاقته بالشجرة التي رأته كالًّا في الحقل، وراقبت في صمت علاقته بمحبوبته أسفل منها، وهي نفسها التي لم تفضحه وهو يمارس نزقه البشري على مقربة منها دون حياء.وحين نتأمل هذه النصوص نجد الذات الشاعرة مغرمة، إلى حد كبير، بتقنية المفارقة التي تمنح النص حياة وحركة دائمتين.
” لمستني يدها فلم أتكهرب
وغادرتني أغصانها فلم أبكِ
فهل تحولتُ إلى رجل خشبيّ؟”
نلمح كذلك ذكاءً شعريًّا واضحًا في هذه النصوص، يتمثل في تركيب الصورة الشعرية، في كيفية التقاط المشهد العادي وتحويله إلى مشهد شعري يشع إبداعًا وروعة.توفيق يلتقط المشهد ليعبر من خلاله عما يجول في ذاته من خلال صورة شعرية يحاول أن تكون دالة ومعبرة، من خلال سرد شعري سلس وبسيط لا يصيب متلقيه بالملل، بل يجود عليه بقدْر من المتعة اللا تنتهي.
” في الحصة الأولى
سألت معلمي:
هل للسماوات سبعة أبواب من الخشب؟
فارتسمت خشبته في يدي
وقال ائتني بأبيك
فقلت:
أبي صعد على خشبة للسماء “.
ورغم سيطرة الحس التراجيدي على معظم قصائد هذا الديوان إلا أننا نجد حضورًا كذلك للحس الساخر:
” كان الله في عون حمالة صدرك
إذا كان الغصن ناء برمانة أقل جاذبية “
إذن نحن نقرأ هنا سيرة ذاتية للأخشاب التي ينظر إليها بعضنا كما لو كانت مجرد أداة لفعل شيء ما، غير أن الشاعر يراها بشكل مختلف، يراها صورة للسمو، للضوء، للدفء، والتفاني والاحتراق من أجل الآخرين:
” خشبة مضيئة ودافئة
لكنكم لا تشعرون بقلبها وهو يحترق “.
هذه الأخشاب / الأشجار التي تحملت شقاوة الشاعر وهو صغير، وضحكت حين أبصرته يمرح حول جذعها وأطعمته ثمارها الشهية، وقامت بتدفئته من برد الشتاء، ثم هي نفسها التي ستنوح عليه وهي تحمله إلى مثواه الأخير.بل يصل الأمر بالذات الشاعرة إلى أن تتساءل لمَ لمْ يخلقها الله شجرة، شجرة تتصف بالتسامح حتى مع أولئك الذين يقذفونها بالطوب وبالحجارة:
” روحي شجرة طالعة
آتت أكلها
وتسامحت
حتى مع الذين قذفوها بالحجارة “.
ولا يمل الشاعر طوال نصوص ديوانه هذا من ذكر مميزات الأشجار وصفاتها النبيلة، في إشارة منه إلى فقدان بني الإنسان اللذين لاقى منهم ما لاقى لهذه الصفات:
” من المؤكد أن البشر تعلموا العناق
من الأغصان الملتفة
الفرق:
أن الشجرة لا تطعن شجرة من وراء ظهرها “.
بل إن شرور الإنسان قد وصلت لإيذاء الأشجار نفسها، إما بقطعها وإما بإحراقها:
” سلمحيني يا شجرة موسى
لقد أحرقتك
بطريقة جهنمية
لا يجيدها سوى شيطان مثلي “.
حتى يصل الحال بالذات الشاعرة أن تعلن صراحة عن درجة وطادة علاقتها بالأشجار التي أضحت هي عالمها وأنيسها وبديلها الأمثل عن بني جنسها:
” من منكم يعرف الأشجار مثلي؟
أنا الذي بزغت روحي في الحقول
وغرست مواويلي في خطوط محراثي الخشبي

أولى قصائدي ولدتها تحت صفصافة
أول سيجارة مزجتها بدمع نخلة
أول نهد صادفته بين سدرة وخوخة “.
ونهاية، ينبغي أن أثبت هنا أن هذا الديوان ربما يكون، وحسب معرفتي الضيقة، الأول من نوعه في جعله الأشجار البطل الأوحد لكل نصوصه، مبرزًا علاقة الذات الشاعرة بها، دون أن ننسى الجماليات الإبداعية التي لم تخلُ منها قصائد الديوان، مؤكدةً على ثراء تجربة الشاعر وعلى قيمته الشعرية التي ستحجز له، مع مزيد من المجهود والتعب الشعري في كتابة النص، مكانًا خاصًّا به في ديوان الشعر العربي.

مقالات من نفس القسم