و أرى إيزيس ، و قد نسيت تعويذة إحياء أوزوريس، و رقدَ جسده دون حراك، أُقلّبُ الملعقةَ في اللبن، فيطول جسده، و يهبُ واقفاً .
وأرى الإسكندر على فرسه يقاتلُ، ثم يهوى، و يبكي بين يديّ المُعلّقة في الفراغ، و الممسكة بالملعقة، و أسمع صوت طقطقة النار، و أنا لازلتُ أحـدقُ في الفراغ، و أرى أحلاماً لا تنتهي .
حلمتُ البارحة بتمرٍ و ماء، و كنتُ عطشى، شربتُ من الماء و لم أرتو ، مددتُ يدي إلى البلح المُكوّم وسط الصينية الموّشاة باللون الأخضر الداكن ، أدفس الحبة في فمي فأستشعرُ مدى مرارتها .
من أين تأتي الأحلام؟ و هل هي حقاً فائض حفظ العقل الباطن للأحداث؟ و لماذا يفكرُ عقلي الباطن في البلح المر أو الماء أو السراديب المظلمة كالمتاهة تحيطُ بي .
يقول إسخيليوس : ” إن أجدادنا ما قبل الإنسان ، عاشوا و هم في اليقظة ، حالة تشبه حالة الأحلام عندنا ، و أن أهم مميزات تطور الذكاء الإنساني ، القدرة على تفهم طبيعة الأحلام و أهميتها ” .
و يزعم فيروم أننا نحقق في حالة الحلم أفكاراً فاتتنا في اليقظة ، أما محمد المخزنجي فيقول : ” نحسُ في أحلامنا أحياناً بأن جزءاً منا يشاهدنا ، و كأنه يوجد في ركنٍ ما من الحلم ، مُرَاقِب من نوعٍ ما ، و في أغلب الأحيان يكون المُرَاقِب صامتاً تماماً ” .
فلماذا في أحلامي لا يراقبني أحد، بل دائماً أراقبُ الآخرين، هل لأنني لستُ البطلة على كل حال؟!
و أراني أرى قابيل يصرخُ في البرية : لِمَ كنتُ أخاف عينيه إلى هذه الدرجة ؟!
و يحدثني كارل ساجان قائلاً : ” إن في المنطقة الطرفية بالمخ عضو على شكل اللوزة يُسمى (الأميجدالا )، هو المسئول عن عمليات الخوف و العنف ” .
إذاً فالخوف والعنف يخرجان من منبع واحد ، فلماذا نقول إن أول غريزة ولدت في الإنسان هي الطمع أو الشهوة أو الامتلاك أو القتل و العنف، لماذا لا نقول إن أول غريزةٍ ولدت في الإنسان هي الخوف .
أحلامي تتآمر عليّ ، و تدفعني كي أعيد النظر في كل ما فات ، و أراني في مكانٍ بعيد باردٍ ، ينزلُ الثلجُ فيه من كل اتجاه ، و أجري أبحثُ عن طريقٍ آمنٍ ، فيخرجُ لي شيخ مُسن يُحذرني : لا يوجد طريق ، الطريقُ تصنعه الأقدام الآتية .
فأصنعُ طريقي و أسير ، أهمسُ لنفسي : باختياراتنا نصنعُ هزائمنا أو انتصاراتنا .
الطريق طويل يوصلني إلى نفقٍ معتم خالٍ من الهواء ، موحش ، كلما أمر على قومٍ يلقون لي أمانة كي أودعها بين يدي مولاي عند المثول ، و قُذفَ بي ، فإذا النور يغشي الأبصار ، فأغمضتُ عيني و انتظرت .
و حين قُدر لي أن أفتح عيني و أنظر، كنتُ وحدي في حجرة مظلمة ، دققتُ على الباب ، و صرختُ أعرضُ حجتي ، عَلّهم يفتحونه :
– خُلِقتُ من أديم الأرض ، و ترابه و طينه ، روثه و حنطته ، بياضه و سواده ، خبثه و طيبه ، أُعطيتُ عقلاً ، و قدرة على التجريد و استعمال المنطق ، و توقع المستقبل ، بُسِطت من تحت قدمي الأرض ، و قَطّرَ الله لي من علمه ، و أغدق عليّ بالعطايا ، ركبتُ الدابة و المركبة الفضائية ، حفرتُ حتى باطن الأرض، و صعدتُ إلى القمر ، أنا التي بحثتُ في كل شيء ، و لم أصل بعد لسر شيء ، مربوطة بحبال الأمل، أتأرجحُ بين خوفٍ و خوف ، و أشعرُ دائماً أن بيني و بين الموت نَفَس لا حياة .
و فُتح الباب ، فدخلتُ رافعةً يدي بالدعاء ، حينها صرخت أمي:
– اللبن .
كان اللبن فائراً حول عين البوتاجاز ، و العين مُطفأة ، و رائحة الغاز منتشرة في المطبخ ، و يدي مرفوعة ، و أصابعي تحيط بالملعقة.
ـــــــــــ
اللوحة للفنان: عصمت داوستاشى
ــــــــــ
خاص الكتابة