مكتبة الصُّحف الناطقة

حسام المقدم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسام المقدم

  بعد قفزة واثنتين، ثم ثالثة كبرى بطُول قَوس قزح؛ رأيتُ كأنني في يوم البَعث. صدّقتُ عينيّ، لأنني قبل أن أخطو استأذنتُ الأستاذ “عبد الفتاح كِيليطو” في الرّفقة. وهو كعادته، في وصلات خياله الخلّاق، لا يردّ سائلا أو طالبا للصُّحبة.

  أخذَني من يدي وأشار إلى المدى المنظور، حيث الناس شِبه عُراة يمشون ويُهرولون، لا فرصة ولا ثانية واحدة لينظر أحدهم إلى الآخر، فقدوا الذاكرة بعد الرّقاد الطويل تحت الأرض، “لكنّهم يعلمون أنهم سيستردُّونها بفضل صحيفة” تحتوي كلّ كلمة وفِعل. الوقت طويل جدا، وأمام الشّخص فُرصة ممتدة كي يقرأ  صحيفته، يتملَّى ويتأمّل وتبرُق عيناه. لكن، ماذا عن الذين يُحبّون القراءة، “أولئك الذين، في الدنيا، ما كانوا يعيشون إلا ليقرءوا”. لن يصبروا على قراءة كتاب واحد، “يتوقون بلهفة، ضَجِرين من مراجعة صحيفتهم، مُشمئزين من ذواتهم، إلى قراءة أشياء جديدة”. وفي لحظة ينبثق رأي جريء: “أن تُوضع الصحائف تحت تصرُّف الجميع”. اقتراح خارق وكاسر للمألوف، لكن بالتأمّل تبدو الفكرة غير مُحتملَة، “أن يُقرَأ الشخص وُيسلِّم صحيفته.. كل واحد يُحسّ أنه سيكون معروضا مثل فريسة لشراهَة الآخرين ومُستَلَبا من أسراره”. لابد إذن من فكرة أخرى، تُفسح أملًا لعاشقي القراءة. وفعلا يأتي الرأي الحكيم بأن تُوزَّع الصحائف من جديد بعد محو أسماء أصحابها، وفي المقابل “يحتفظ كل واحد بالورقة الأولى حيث اسمه مُسجّل”. هكذا تَكوَّنت مكتبة هائلة، “وصار بمقدور الجميع حينئذ الاستغراق لانهائيا في القراءة”.      

  بعد تأسيس المكتبة الفريدة، يمضي بي الأستاذ “كيليطو” إلى استشراف جديد يُخيّب أمَلي مُؤقّتا: “لكن في يوم أو آخر.. تتولّد الرغبة في أن يُعيد الشخص قراءة صحيفته”. أبدأُ في التفكير والاحتراق بالحيرة: كيف يجد الشخص كتابه وسط كُتلة الكُتب معدومة الأسماء؟ أرى نفسي في هذا الموقف: محمومًا أبحث عن صحيفتي، أُقلّب في صفحات وصفحات لعلّني أقرأ أقوالي أو حوادث أيامي. لا أستطيع نفي أو تأكيد أنني قلتُ هذا الكلام أو فعلتُ هذا الفعل، التشابه لا يعني التطابق، هل هذا كتابي؟ أراني معهم يائسا، بعد مرور زمن طويل في البحث بلا جدوى، وبافتراض وصل أحدنا في النهاية إلى العثور على صفحاته، ألا يكون بعد تلك البلبلة قد نَسي كل شيء، فقدَ ذاكرته مرة أخرى وعجزَ عن التّعرُّف على نفسه؟

**

  رغم ارتباكي وتَشتُّتِي في فهم وتحليل المزيد؛ أعترفُ للأستاذ أنني دخلتُ في رهان مع نفسي: أن أكتب خمسة آلاف كلمة، أُدوِّن من خلالها مُحاورَتي مع عارف كبير مثله. أومأَ وجهه الطيب مبتسما. تكلمتُ عن افتتاني بِنَصِّه القصير “صحيفة الغُفران”، الصحيفة التي تجمع كل شاردة وواردة فَكَّر فيها أو نفَّذَها الشخص؛ تتحوّل في فُسحة خيال إلى كتاب أدبي عابر للأنواع، مطبوع منه مليارات النُّسَخ المختلفة. لكل واحد الحقّ في ممارسة التّلصص على أي كتاب مجهول المؤلف، في أكبر مكتبة يُمكن تَخيُّلها. في الإمكان عُبور نوافذ الآخرين لقراءة وشَمّ وتذوُّق حيواتهم. أسترسل في تصوُّر كيف هي صحيفة “المُتنبّي” مثلا، يا ترى لو تعرفتُ عليها وقلّبتُ فيها، ما أول سطر ستقع عليه عيني؟ أجدُني واقفا تحت هرم عظيم من الصحائف المرصوصة. لا أُصدّق وأنا أفرُّ في كتاب أتعرّف من خلال سطوره ومواقفه على حياة “ابن رُشد”، أتحوّل إلى صفحات طويلة تُذهلني بتفاصيل أيام “هارون الرّشيد”.. يتدخل الأستاذ: “خُذ هذا الكتاب”. أمدُّ يدي مُلتقطا صحيفة “الجاحظ”، أتحمّل ثِقلها وأخطو.

  نمشي في خلاء يتشكل بالأخضر اللانهائي. نُقابل بشرا هائمين لا تطرف عيونهم. نرى آخرين جالسين مع كُتبهم يتصفّحون بمزيج من الأسى والفرح. أقبض على “الجاحظ”، أتمعّن في الصفحات وأقرأ سطورا أعرف بعضها من كُتبه. يضحك الأستاذ:

  “صدِّق أو لا تُصدّق أنني بعد أن نشرتُ كتابي (الكتابة والتناسُخ) أرسلَ إليّ أستاذ جامعي فرنسي يسألني إن كان الجاحظ موجودا حقا أم أنني اخترعته! بيني وبينك ابتسمتُ لحظتها بفخر حين تخيّلتُني مُخترع الجاحظ”.

  قلتُ: “ربما التبسَ الأمر على الفرنسي بسبب حديثك عن التزوير والانتحال في تأليف الكتب، وظنَّ أنكَ قمتَ باختراع الاسم من الأساس”.

  “هذا وارد جدا، لكني، ورغم حيادي البحثي، أشفقتُ على الجاحظ. هذا الرجل الذي قال عنه أبو حيان التوحيدي، مُرسّخا مَنزلته، نافِيًا أي قُدرة على تقليده: (ألا يعلم… أنّ مَذهب الجاحظ مُدَبَّر بأشياء لا تلتقي عند كلّ إنسان ولا تجتمع في صدر كلّ أحد: بالطَّبْعِ والمَنشَأ والعِلم والأُصُول والعادَة والعُمر والفَراغ والعِشق والمُنافَسَة والبُلوغ، وهذه مَفاتِحُ قَلَّما يملِكُها واحد..). رجل امتلكَ مَفاتيح العبقرية التي نادرا ما تجتمع في عقل إنسان، ها هو في حياته بعد أن يُؤلّف كتابا، وبدلا من أن يفرح ويجني ثمرة عمله المتفرّد؛ يتكالب عليه الحُسّاد، تأكل النار قلوبهم، فإما أن يَعيبوا الكتاب ويطعنوا ما فيه، أو يسرقوا معانية ويُزَوِّروا كتابًا آخر. في هذه الحرب يلجأ إلى إنكار كُتبه باختياره، حفاظًا عليها من الطّعن والسّرقة. تَصوَّر.. بعد البحث والتّفكُّر والتدوين يقوم بِنسبتها إلى مُؤلِّف قديم مهيب لا يقدر أولئك الحُسّاد على المساس به. مَن يحتمل هذا الأمر؟ مَن لديه الشجاعة على هذه المُقايضة المُؤسفة؟ اسمعه وهو يقول: (وربما ألّفتُ الكتاب الذي هو دُونَه في معانيه وألفاظه، فأُتَرجمه باسم غيري، وأُحِيلُه على مَنْ تقدَّمَني عَصرُه مثل ابن المُقفّع والخَليل، و..)”.       

  “هذا أمر محزن جدا يا أستاذ وباعث على الأسى.. أن يلجأ إلى ذلك رجلٌ أَلَّفَ كُتبًا مثل “الحيوان” و”البيان والتّبيين” و”البخلاء”.. والرسائل الكثيرة. الرجل الذي قالوا عنه (إنّ الناسَ عِيالٌ عليه في البلاغة والفصاحة..)! إننا حتى اليوم ننظر إليه كأسطورة أدبية، عاشت في العصر العباسي الأول، ذُروة الحضارة والانفتاح على مختلف الاتجاهات الثقافية والفكرية. كيف احتملَ الجاحظ أن يفعل ذلك بنفسه؟ كيف رضي أن تظهر بعض آيات أفكاره باسم غيره؟”

  “لا تظنّ أنه فعل ذلك دون أن يسلَم من عذاب نفسه، لقد غاص الرجل في بلبلة كُبرى انتهت به إلى حلٍّ بديل لا يقلّ مرارة، وهو أن يُؤلّف بعض الكتب دون أن يضع اسمه أو اسم غيره عليها، لسبب جديد هذه المرّة هو إيمانه بجودة كتابه، وبالتالي شُعوره بالحسَد تجاه ذلك الكاتب القديم الذي سيضمن له المجد”.  

  “لا أتصوّر أن يؤلف إنسان كتابا ثم يتركه نهبا للألسنة والعقول، هذا أسوأ من وضع اسم آخر عليه، هكذا يكون الكتاب لقيطًا، ومُغريا لأولاد الطريق والحُثالة. سيتجرأ كثيرون على مُبادرة التَّبَنِّي”.  

  “العجيب أنه يذكر ذلك بمنتهى الهدوء والحياد كأنّ الأمر لا يعنيه. ربما يسخر كعادته أو يتأسّى أو يُمعِن في تعذيب نفسه. اسمعه وهو يصف حال كتابه مجهول النّسب، والأثَر الذي أحدثَه عند ظهوره: (فينهالون عليه انهيالَ الرّمْل، ويستبقون إلى قراءته سِباق الخَيْل يوم الحَلْبَة إلى غايتها). أرأيتَ؟ يصف انتشار كتابه يتيم الأب، وتكاثُر الناس على قراءته ودرسه. عليه أن يحتمل ما لا يحتمله إنسان، أن يقف على جَنب، ليرى ويراقب حال أبنائه اللُّقَطاء، إلى أن يحين الوقت المناسب”.

  “الوقت المناسب لأي شيء؟”

  “لكي يعود إلى تبَنِّي أبنائه مرة أخرى، إلى الاعتراف بأُبوّته العزيزة. بالفعل سيعود الجاحظ إلى مُطالبته بتصحيح المسار، إعادة النّسب ووضع اسمه على بعض الكتب التي تنازلَ عنها بإرادته اتّقاءً لمكائد الحُسّاد. المُذهل أنه سيخوض من جديد تجربة لا تقل بُؤسًا عن الأولى: عليه إثبات أنه صاحب الكُتب المقصودة، أو إثبات أنه مُزوِّر نَسبَ كُتبًا تخصُّه إلى غيره، وأن يأتي بشهود على ذلك!”.

“شُهود؟ والله يا أستاذ لا أعرف هل أضحك أم أبكي..”.

  “مع الأسف هذا صحيح، لكن لا تنسَ: في مرقَد العظماء يُمكن للجاحظ أن يجد بعض التّبرير..”.

**

  جِبال من الكتب الضخمة، يُقلّب صفحاتها بشر ساهمون. لم أقابل واحدا من الذين تصفّحتُ كتبهم، بالتأكيد هم في مكان ما وسط هذا الخلاء الشاسع. أعرف أنهم مشغولون بقراءة صُحف الآخرين، لا يمكن لإنسان أن يقرأ صحيفته أكثر من مرة، لن يُعيد مشاهدة فيلمه الذاتي، تكفيه نظرة على سطور عاره ولحظات مجده المعدودة، وكلمات ومواقف وعلاقات مسجّلة كلها. مجرد التفكير في اجترار اللحظات وتعذيب النفس بها هو عبث كبير، من الطبيعي أن يهربوا إلى سطور الآخرين، باحثين عن التَّعزّي والتعويض.

  أنظرُ إلى الأستاذ، أراه مهموما أكثر. أستفسر عن السبب. تمنحني عيناه الشاردتان إشارة. أتفهَّمُ وأمسك لساني، فالحال حال تمَعُّن وتدَبُّر. أُوجّه نظري إلى مشهد غريب لم أقرأه في “صحيفة الغفران”، أرى البعض، من الرجال والنساء، ينزعون الصفحات بلا اهتمام ويصنعون منها ما يستر أجسادهم العارية، ذلك العُري المَكسُو بالشَّعر، وغير المُحرّض على الإثارة. أُفكر في الصفحات المنزوعة: الصُّدفة وحدها ستجعل أوراق فلان على جسد فلان آخر، لو انحنيتُ لأقرأ ورقة على بطن أحدهم فربما أرى سطورا تخص أحد العظماء الذين أعشقهم. أكاد أُجنُّ من هذا المَسلَك، أستنجد بالأستاذ..

   ينظر إليّ بحُنُو: “أعتقد أن هؤلاء هم الذين لم يُحبّوا الكتب أو القراءة في حياتهم الأولى. لا فرق عندهم بين تغطية الجسد بالورق أو الجِلد وورق الشجر، يشبهون إلى حد كبير سُكّان الغابات في أزمنة سحيقة. هؤلاء في كل مكان وزمان”.

“حتّى هنا يا أستاذ؟”

“حتّى هنا. لا يغبْ عنك أن الزّمن عندهم طويل جدا، وبالتالي توجد فُرَص غير محدودة للتّنعُّم بالوقت، كالتّسَلّي بتغطية الجسد والتّفنُّن في ذلك، أو التفكير في محاولة إحياء الذاكرة، قد تجد واحدا أو أكثر يمارسون ألعابا لاسترجاع ما عاشوه ذات يوم، إما بالقراءة الجماعية مثلا، أو سَماع ما يقوله أحدهم عن مواقف تستدعي أخرى بالتوالي. لا تتعجب في مكان تنمَحي فيه كل أسباب العجَب”.

  أقتنعُ بما سمعتُ ولا أزيد.

  نُغادر إلى ظل شجرة وارفة، أوراقها بنفسجية زاهية. أتطلّعُ بانبهار إلى الشُّموخ الملوّن العالي. خُيِّل إليّ أن أوراقها تُؤكَل، لو مضغتُها فسيكون مذاقها عِطريًا مُتبَّلًا.

  نستريح على الأرض. أُركِّزُ عينيّ على ملامح الأستاذ.. شارب خفيف يدور حول ذقن صغيرة، عينان طيّبتان تختزنان أسَى عتيقا، شفتان مزمومتان تحتشدان لإخراج سؤال ضاغط على الصّدر والرّوح: “بأية لُغة سيكون عليّ أن أموت؟”.. لا أعرف بمَ أردّ. أتذكّر قراءتي لفصل يحمل هذا العنوان في أحد كُتب الأستاذ، هذا السؤال بقدر إيحاءاته الذهنية والميتافيزيقية؛ بقدر ما يُعجِز أي محاولة لطرح إجابة مُتسرّعة. أتأمّل هؤلاء الماشين: بأية لغة يتكلّمون؟ هل بنفس اللغات التي كانت لهم في حياتهم الأولى؟ وبِكَم لغة كُتبت هذه الصحائف المهولة؟ من المنطقي أن كثيرًا منها مكتوب بِلُغات أخرى غير العربيّة.

  تعود شفتا الأستاذ إلى سؤالهما المُقلِق: “بأية لُغة سيكون عليّ أن أموت؟.. لا أعرف هل هي التي وُلدتَ بها وتكلّمتُها في المهد، أو لُغتي البديلة التي تعلّمتُها وأتقنتُها.. ومن الجائز أن تكون لغتي التي ختمتُ بها حياتي، كما حدث مع الكاتب بورخيس. مات في السابعة والثمانين، بعد شهور فقط من بداية تعَلُّم اللغة العربيّة كي يقرأ كتابه الأثير (ألف ليلة وليلة) في لُغته الأصلية. خاتمة حياته متاهة أخرى تُضاف إلى متاهاته الذهنية، خاتمة تُعيد التذكير بخرافة قِيلت في أزمنة بعيدة عن أن مَن يقرأ كتاب الليالي من أوّله إلى آخره لابد أن يموت! شغلَني هذا الأمر في كتاب (العَين والإِبرة)، ولمَعَ أمام عيني في بعض كُتبي الأخرى. لم تقُل لنا الخرافة شيئا عن سبب الموت: هل هي الفتنة والانبهار بالحكايات الفريدة؟ أم لعنة ستُطارد قارئ الكتاب المنحوس؟ وهل لابد لنفاذ سهم الموت أن تكون القراءة باللغة العربيّة، لغة الكتاب الأُولى؟ إذا كان الأمر كذلك فلكَ أن تقول عن بورخيس إنه بحث عن لُغته الناقصة، التي ستُتمُّ دورة وجوده، وسَيَختم بها قراءة كتاب حياته. في النهاية وجدها في آخر شهوره على الأرض. وضع يده، وهو العاجز تقريبا عن الإبصار، على أول مفاتيح حروفها وأصواتها ومعانيها وبدأ عزفه الذاتي، ثم أسبلَ عينيه ومات”. 

  أعود إلى الشجرة الفاتنة التي نجلس في ظلها، أمدُّ يدي إلى غصن قريب وأقطفُ ورقتين يانعتين. يأخذني جمال اللون والملمس الناعم، ما هذه الشجرة خارقة الجمال؟ يسمع الأستاذ سؤالي الهامس، يبتسم ويُومئ برأسه:

  “هذه الشجرة بالذّات أنصحك بعدم الاقتراب منها، أو الاستسلام لسحرها وجمالها الذي يبدو أنه فَتَنكَ. اترك هذه الأوراق فورا، أعرفُ أنها تُغري بتذوُّقها، لكن لا تفعل. بالطبع تذكُر الشجرة التي أكل منها آدم، شجرة المعرفة التي وهَبته تمييز الخير والشر، لكنها ليست نهاية المطاف، هناك أخرى قائمة في وسط الجنة، اسمها شجرة الحياة، وهي مذكورة أيضا في “سِفر التكوين”، إذا تجرَّأَ وأكلَ منها يصبح خالدا ولا يموت، وبالتالي لابد أن يخرج من الجنة قبل أن تمتد يده إليها. انظر فوقك الآن، أنت تجلس تحت شجرة تُشبه شجرة الحياة! وهذه الأوراق الملونة الفاتنة التي في يدك إذا مضغتَها كما تشتهي ستجعلكَ تحيا إلى الأبد ولا يقترب منك الموت. دَعْ خيالك يمضي مع الخُلود، وتَصوَّر أنكَ بمرور السنوات والقُرون لا تزال حيًّا، تنظر حولك وتكتشف يوما بعد يوم أنّ أَحِبّاءكَ يموتون، وعمّا قريب لن يتبقّى أحد. ستحيا في أزمنة غريبة عنكَ، حتى يأتي عليكَ وقتٌ تطلب الموت فيه ولا تطوله، ستتمناه والباب مُغلق دائما في وجهك، الخلود حِمل ثقيل”.

  أَرمي الأوراق فورا، أُحسّ بجسدي يرتجف. لم أكن أظنّ أنّ فكرة الخلود بهذا الرعب. في صباي حلمتُ كثيرا أن أكون مثل “الخِضر” الذي شرب من “عين الحياة” وأصبح خالدا، وقادرا على تحقيق المعجزات. الآن أتصوّر الخلود شبحا عجوزا يتحسس طريقه في صحراء قاحلة. أرفع صوتي: “لا”.

  “اهدأ، طالما أنتَ تعرف فَسَتنجُو، الكارثة في الجهل، الجاهلون سيأكلون من أية شجرة وسيمضغون أي سُم يُقدَّم لهم. وبالمناسبة لا تنس مرة أخرى أن تتذكّر بورخيس في نَصٍّ فارق عنوانه (الخالد). هناك يحيا البطل حياة أبديّة بعد أن شرِب من عين الحياة، لكنّه عندما يريد التّخلّص من عِبء الخلود لا يعرف ماذا يفعل. يقودُه تفكيره إلى افتراض عبقري بوجود عين أخرى تُقابل عين الحياة، لابد وأن الشّارب منها يُمنَح الموت. في النهاية يتمكّن من الوصول إلى عين الموت ويشرب منها. أرأيتَ؟ رحلة عكسية في طلب الموت ليست أقل مشَقَّة من البحث عن عَين الحياة الخالدة”.

**

  أُطلِق خُطواتي بعيدا عن الشجرة المُغوية، بينما يلحق الأستاذ بي في تأنٍ. يُريح ذراعه في ذراعي، أبتسم لمُبادرتة الحميمة. تتراسَل عيوننا بخصوص ما نرى. ليس كل شيء قابلا للترجمة، يوجد الكثير مما يستعصي.

  لا أرفع عيني عن رجل يحمل صحيفة هي الأضخم بين الكتب كلّها. يُردّد بلا تَوقُّف بيتًا من الشّعر: “أَرَى لِي وَجْهًا شَوَّهَ اللهُ خَلْقَهُ/ فَقُبِّحَ مِن وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُه”. أُدقّق في قُبحه الذي يُعيده وينشده. أطالع تقاسيم وجهه المُتضخّمة، وأفكّر أنه ليس الأقبح كما يزعم. يبدو كأنه درويش يتغنّى بكلمات الوصل والفناء، لكن مَنْ يَترنَّم بقُبحه على هذا النحو؟

  أتوجّه إلى الأستاذ، أراه مثلي في حال غير الحال. أسكُتُ ولا أجرح تأمُّلَه السّارح، في انتظار لحظة البوح. هذه المرّة خرجت كلماته مشحونة بشجن لم أُحسّه منذ بدأنا الرّحلة: “هذا الهائم الذي تراه هو الحُطَيْئَة العَبْسي، الشّاعر الذي آذَى الناس بِخُبث هِجائه. سلَّطَ لسانه على الجميع، حتى نفسه. وهذا الشِّعر الذي يُعيده قاله صادقا في وصف قُبح وجهه وقُبح صِفاته كلها. أما الكتاب الكبير الذي يحمله ويقرأ منه فهو صحيفة أبي العلاء المَعرّي! لا تتعجّب، لم يكن الحُطيئة يتخيّل أن هذا البيت الشعري، من بين كل ما قاله في الهجاء والتّطاول، سيكون شفيعا له في دخول الفِردوس. قاله في لحظة صدق نادرة، اعترفَ بنقائصه كأنّه يندم أو يُقدّم بيانا على سُوء خُلُقه. يُردد البيت ممسوسا كمجذوب، حاملا صحيفة أبي العلاء. بالتأكيد تذكّرتَ الآن أنّ الحُطيئة واحد من المذكورين في (رسالة الغُفران). رآه أبوالعلاء، على لسان ابن القارح، مُقيمًا (بِبَيْتٍ في أقصَى الجَنّة)، وهذه مَنزِلة، رغم رفاهَتها العظمى، فهي أقلّ بكثير من شاعر مثل زُهير بن أبي سلمى الذي يسكن في قَصْر فِردَوسيّ، وكذلك عُبيد بن الأبرَص. بيت واحد من الشِّعر حَوَّلَ مصير الرجل إلى النّعيم، ألا تتوقّع منه أن يظلّ ينشده إلى الأبد؟        

  أُبادر بسؤال يقف على لساني: “وما مصير أبي العلاء نفسه؟ لقد كتب وقال في مصير شعراء شفعَتْ لهم كلماتهم، وآخرين راحوا إلى الجحيم. ألم يكتب أحد في مصيره هو؟ ألم يقل شيئا عن ذلك؟”.   

  “ستتأسَّى كثيرا حين تعرف أنه سمع ذلك بأُذنيه، حكموا عليه وهو حي، تَكلّموا في إيمانه بضمير بارد. انظر معي إلى موقف يرويه أحد مُعاصريه: (اجتمعتُ بأبي العلاء.. بِمَعَرّة النُّعمان، وقلتُ له: ما هذا الذي يُروَى عنكَ ويُحكَى؟ فقال: حَسَدني قومٌ، فكذبوا عليّ، وأساءوا إليّ. فقلتُ: على ماذا حسَدوكَ وقد تركتَ لهم الدنيا والآخِرة؟ فقال: والآخِرة أيها الشيخ! قلتُ: إي والله). قيل له ذلك في وجهه، ولكَ أن تتخيل حجم ما قيل من وراء ظهره، والأدهي.. بعد موته. كثيرة هي المنامات التي رأى أصحابها أبا العلاء. يتحدثون عن رؤيتهم له في أحوال عصيبة: (ولمّا مات المعري رأى بعض الناس في مَنامه أن أَفعَييْن على عاتِقَي رجُل ضرير… وهو يستغيث. فقال: مَن هذا؟ فقيل: المَعرّي المُلحد!). لا تجزَع هكذا، المَنامات كانت معروفة وروايتها شائعة في زمنه، فَسَّرتُ ذلك في كتابي (متاهات القَول)، ومن الطبيعي أن يبرز السؤال عن مصير إنسانٍ ما بعد الموت، أحد معارف الميت أو أصحابه يراه في المَنام ويسأله هل غُفِر له أم لا؟ المفارقة العجيبة أن حال الميت قد يتغيّر تماما في رُؤَى أخرى، كما في حالة حكيم المَعرّة، فبدَلًا من الثُّعبانَيْن اللذين ينهشان في لحمه وهو يستغيث؛ نجده في  منام آخر على لسان راوٍ مُتعاطف: (..ثمّ قال في أثناء كلامه مُخاطِبًا لي: ما الذي يحملُكَ على الوقيعة في دِيني؟ وما يُدريكَ، لعلَّ الله غَفرَ لي؟ فخجلتُ من قَوله، وسألتُ عنه مَن إلى جانبي، فقال لي أحدُهم: هذا أبو العلاء المَعرّي. فابتسمتُ متعجبًا للرُّؤيا، واستغفرتُ الله لي ولَه، ولم أَعد إلى الكلام في حَقّه إلا بخير)”.

  “لا أكاد أُصدّق ما أسمع، في المنام الأول يكون مصير الرجل في الجحيم تنهشه الأفاعي، وفي الثاني يُدافع عن نفسه ومصيره، يمدُّ إصبعه في عيون المُجتَرئين: (وما يُدريكَ، لعلَّ الله غَفر لي؟)، فيتراجَع صاحب الرؤيا ويُلزم نفسه بعدم الخَوض في حق الرجل إلا بالخير، كأنّه يبعث رسالة لكل الذين يخوضون في دين المَعرّي وسيرته. أتصوّر أنه رغم مرور القُرون الطويلة؛ فإن مسافة كبيرة لا تزال قائمة بين المَنامَيْن المُتعاكسَيْن، المُتقاتلَيْن على مصير الرجل”.

  “زِد على هذه الكارثة العابرة للأزمان، وللمفارقة الساخرة، أن الجميع رأوا المعري في حياته على أَتمِّ صور الزّهد والتّخلّي وأَخْذِ النَّفس بالشّدة.. بانزوائه في بيته لسنوات طويلة، وبالاكتفاء من الزّاد بالأطعمة النباتيّة، وفي الشِّعر، بعد أن راجَعَ ديوانه البِكر (سَقْط الزِّنْد) وعَدَّلَ الكثير من ألفاظه ولامَ نفسه على افتخاره بذاته؛ تحَوَّلَ تماما في ديوان (لُزوم ما لا يلزم)، ابتعدَ مُتعمّدًا عن الأغراض التقليدية المطروقة والمُحبَّبة مثل الغزَل والمديح ووصف الخَيل والخمر، والأشَقّ أنه التزمَ بقافية مُزدوجة من حرفين. لكَ أن تُضيف قلق نفسه وشَكّه في الدنيا وعبث الوجود فيها، هناك أيضا تعَهُّده بهجران الكذب وطلب الصدق في كل فنون القَول، طالما امتلكَ لسانًا: (فَمَا لِي لا أَقولُ وَلِي لِسانٌ/ وقَد نَطَقَ الزَّمانُ بِلا لِسانِ). إذا كانوا عرفوه وسمعوا به وبحياته الماثلة لهم، والمضادة لحيواتهم المُتهافتة؛ فمن العجيب أنهم اختلفوا في اعتقاده وجوهره، وظلوا طوال قرون يلوكون خبايا سريرته، هو الذي ظل يُردد في شِعره أنّ لديه من الأسرار ما لا يستطيع إخراجه، مثل هذا السِّر العجيب الظاهر جدا كالنهار، ورغم ذلك لا يراه أَقدَر المُبصرين: (وَلَدَيَّ سِرٌّ ليسَ يُمكنُ ذِكْرُهُ/ يَخفَى علَى البُصَراءِ وَهو نَهارُ)”. 

  “آه يا أستاذ، (يَخفَى علَى البُصَراءِ وَهو نَهارُ)، كل هذا الوجع لا ينفع معه إلا الاستشهاد بِشِعره، اسمح لي أن أُكمِل معكَ، أن أضحك وأبكي على الحال:

(ضَحِكنا وكانَ الضّحكُ مِنّا سَفاهَةً

وَحُقَّ لِسُكَّانِ البَسِيَطَةِ أنْ يَبكُوا

يُحَطِّمُنا رَيْبُ الزَّمانِ كأنّنا

زُجَاجٌ ولَكِنْ لا يُعادُ لَهُ سَبْكُ)”.

**

  طوال سَيري مع الأستاذ “عبد الفتّاح كِيليطو” احترمتُ صمته الشّجي. لم أكن أبدأ كلامي إلا حين يميل رأسه ناحيتي، حينها أعرف أنه انتهى من تقليب جُملة أو فِكرة، وشرع في إعدادها وإطلاقها فوق حصان خياله العابر.

  لمّا طالَ سُكوته عرفتُ أنها إشارة بانتهاء الرّفقَة.

  منذ البداية وأمَلي أن أمضي في المُحاورة لأطول وقت ممكن، أن أُصارح بما التَبسَ وما ظَهَر، أبوح بما استعصَى. صحيح أنني سألتُ عن كثير، لكن لا أزال أشتعِل بأسئلة أخرى. أُفكّر أنني أتعبته في نِقاشي. أتردد في النداء عليه، وهو المستغرق في تأمُّل ما حولنا: بشَر عُراة مُشعِرون لا حصر لهم، وأنهار كبيرة وصغيرة، ومساحات خضراء لانهائية، وأطنان من الكُتب الكبيرة ماثِلة في تشكيلات هَرَميّة.

  تأَكَّدَ حَدْسِي أنّني في أوان الافتراق:

  “أعتذر عن طول مُحاورتي يا أستاذ. حوالي ثلاثة آلاف كلمة، كان حُلمي أن تصل إلى خمسة آلاف”.

  “لا تتعجَّل الوصول، كلّ محطّة هي وُصول. وإذا كانت حقيبتك بها مائة كلمة فلأَنّها لا تَسَع إلا مائة كلمة”. 

  “نفسي تطلبُ الزّيادة”.

  “كُن على عِلم: لا زيادة بعد إحساسك بالانتهاء”.

  “علمتُ يا أستاذ، علمتُ وفهِمتُ”.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون