إِبريقُ شاي وعلبةُ سجائر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي

التسَكُّعُ ليلاً يَتَحَرَّشُ بي، وأنا لا أستطيعُ صَدَّ تحرُّشه..

تشتعلُ رغبةٌ داخلي تدعوني لعدم مغادرة فراشي فأُقْبِرُها. برجلي أزيح عني اللحاف، أرتدي ثيابي، أنتعل حذائي وأخرج. نصائح أمي لي بعدم الخروج ليلاً تقف عند أذنيَّ سعياً لطرقهما، أستعين بأُنْمُلَيْ سَبَّابَتي وأصُدُّها. ألتفتُ حيث تقف أمي، فَمُها ينفتح وينغلق في حركات سريعة ومتتالية، مصحوبة بإشارات بيديها الاثنتين، لا يصلني صدى صوتها. من حركاتها أعرف أنها حَنِقَة.

اعتدتُ أن أخرج في مثل هذا الوقت كل ليلة رغم محاولات أمي ثَنْيِي عن ذلك، قررتُ ذلك، اليومَ أيضاً، هذا القرار حقيقة لا يمكنني التراجع عنه ولا يستطيع أحد أن يُثْنِيَني عنه.

قرب مصطبة الباب الخارجي للمنزل قعد جدي يَهُشُّ الذباب، ويقضم أظافر الزمن ويعُدُّ السنين التي جرفته إلى ما يعتبره المحطة الأخيرة للحياة.

جدي لا ينام خلال الليل، عندما يتَلَوَّن الأفقُ بلون الغروب يتأبط فروة خروف ومخدة، يفرشهما قرب المصطبة، تحمل له أمي إبريق شاي وعلبة سجائر، تضعهما أمامه دون أن تحدثه وتعود إلى الداخل.

دعاني جدي، اقتربتُ منه وقعدتُ إلى جانبه. لَفَّنا الصمتُ للحظة حسبتها دهراً..

يحكي جدي بعفوية ودون ترتيب الأحداث، ينتقل من حديث لآخر حتى وإن لم يكن رابط يجمع بينهما.. حكى كيف أنَّ الحياة كالمرأة في بهائها.. ابتسم، صمتَ للحظة، رشف من كأس الشاي، استدعى تنهداً من أعماق صدره، وتابع وهو ينفث دخان سيجارته التي تموت بين أصبعيه:

 ” .. ابتسامتها تزيد وجهها الصبوح وجسدها الفارع بهاءً.. وأنا أتلاشى عند عتبة البهاء..”.

وضعتُ يدي بيده، شَدَدْتُ بقوة عليها، شعرتُ بأنامله الدقيقة كأنها ستنكسر، وللتخفيف مما يحس به من فراغ قلتُ:

رحم الله جدَّتي، كانت تُعِزُّكَ وتقدِّرك..

رحمها الله.. لكني لا أقصد جدتك..

قالها وسرح بأحلامه محلقاً في سماء تظللها سحبُ الأمل، وباحثاً عن فيء يُرَطِّبُ من لظى فراغ يشوي قلبه..

ظللنا للحظة صامتين، نَزَتْ دُموعٌ من مقلتيه، نضحها بظهر كفه، مَدَّ يدهُ نحو الإبريق، سحبها، أشار إلى الأفق وقال هامساً كأنه يحدث نفسه:

” ها هي ذي تستدير.. تبتعدُ.. وتقترب من جديد.. وتتركُ جمرة لاهبة تشتعل في صدري..”.

نظرتُ إلى حيثُ أشار، التَفَتُّ إلى اليمين ثم إلى اليسار، لم أرَ أحداً يستدير أو حتى يوجد. نظرتُ إلى جدِّي.. غالبني الضحك، أجْهَدْتُ نفسي حتى لا يراني ويغضب غضبته النكراء، رَفَعْتُ يَدَيَّ كأني سأمسحُ وجهي وأخفيتُ ابتسامة كادت أن تفضحني.

أتذكَّرُ حديث أمي لجارتنا قالت إنَّ جدي بدأ يهذي.. يحكي كل لحظة وحين أنَّ امرأة ترتدي ثوباً ناصع البياض تدعوه للحاق بها..

وَلَّعَ جدي سيجارة ثانية، عَبَّ منها نَفَساً عميقاً، استدار يمنة ويسرة كأنه يبحث عن شيء فقده وهمس لي:

” ذاتي ممزقة بين السفر والمكوث هنا..”

لم أُعِر همسه كبير اهتمام. قلت لنفسي:” إنَّ جدي لم يعدْ يعني ما يقوله.. إنه رجلٌ خَرِفٌ..”

تابع دون أن تحيد عيناه عن الأفق:

” الحياة جميلة.. لكن إطلالة المرأة ودعوتها لي للحاق بها تنثر عليَّ قليلاً من وُدٍّ.. أحنُّ إلى الرَّحم الذي انسللْتُ منه..”.

أعود إلى غرفتي، أتمدد فوق سريري..

التسَكُّعُ ليلاً يَتَحَرَّشُ بي، وأنا أصَدَّ تحرُّشه..

زارني جدي في منامي، اقترب مني، قعد إلى جانبي وضع أمامه إبريق شاي وعلبة سجائر، وطلب مني أن لا أخبر أمي أنه ذاهب للبحث عن المرأة التي تلاحقه من حين لآخر..

باكراً في الصباح، استيقظتُ على صياح وبكاء، ظننتني أحلمُ، في الغرفة السفلى، أمي وبعض الجارات متحلقات حول جسد جدي المُسجى،  يبكين، صوتٌ داخلي يحثني على البكاء، أغادر المنزل.. أحاول أن أُنَفِّسُ عن ضيقي بالنظر إلى الأفق.. أُهَرِّبُ مشاعري السلبية وأُلْقي بها هناك بعيداً.. أسكب حزني في صرخات متتالية..

………….

تطوان/ المغرب

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال