الأمر رهين بمن يأتي لزيارتنا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

مساء خريفي جميل وهادئ، تميل الشمس نحو المغيب، تنسحب،  تتوارى خلف السور الحجري العالي، السور الذي يرسم حدود المقبرة ويفصلها عن المدينة وشارعها الرئيسي.

يعبق المكان بماء الطيب ورائحة النباتات الندية ويغرق في صمت مطبق ورهيب، تهب نسمات باردة من جهة البحر، انتعشت روحي، تفاعلت بداخلي مشاعر متناقضة، أفكر، أمضغ هواجسي، وأستعيد بداخلي علاقتي المعقدة بفكرة الموت.

أنا هنا منذ أسبوع أو أسبوعين، أكثر أو أقل قليلا، ولكنني لست متأكدا.

في الأيام الأولى كان الأمر قاسيا، أشعر بالوحدة والغربة بعيدا عن ضجيج الحياة، هذا الضجيج الذي يملأ حياة الناس عادة بالسعادة والفرح.

كان ذلك الصباح حزينا، وكنت أرى المشهد مقلوبا من الجهة الأخرى.

جميعهم  هنا، الأسرة والعائلة، الأصدقاء، بعض رفاق العمل، والكثير من الفضوليين، كانت الجنازة حقيقية، والموكب كبيرا ومهيبا، يليق بمكانتي قيد حياتي، كنت يقظا وفي قمة الصفاء الذهني، أرى الأمور بكثير من الوضوح، وكان المشيعون في حالة روحية من الصمت والهدوء الحزين، لا شك أن ذلك بسبب حضور فكرة الموت، أنظر لوجوههم، أتأملها، وأفكر.

  • الحزن في مثل هذه المواقف، هو حزن على الذات، أكثر من أن يكون حزنا على الفقيد…

كانت المراسيم وجيزة ومختصرة، غادروا خفافا، وكنت أسمع وقع خطواتهم العجلى وهي تبتعد.

لست عديم التجربة، فقد عشت ما يكفي من السنوات لأختبر الموت، رأيته عن قرب في سياقات وظروف مختلفة.

يتعلق الأمر أساسا بموت الآخرين، أتذكر الإختفاء الهادئ لجيل الكبار، كبار السن في العائلة، كانوا جيلا إستثنائيا، أعود من الجامع، من المدرسة، من السينما، من الشاطئ، من عطلة ما، فلا أجدهم، أحيانا يمرضون لشهور أو أسابيع، يتناولون أدويتهم على مضض، فهم عادة يكرهون الأدوية ويرفضون زيارة الطبيب، فقط بعضهم يقبل الأدوية ويتناول وجباته المتقشفة في وقتها، بعضهم يفقد فجأة صبره ويصبح شخصا غريبا، متذمرا، عجولا وكثير الشكوى، ولكنهم عندما يرحلون، يفعلون ذلك بهدوء وطمأنينة صامتة، فيبدو الأمر وكأنه واجب، وكأنه دين مؤجل يسددونه أخيرا.

كنت شابا، وكان والدي يحضني دوما على حضور الجنائز ومراسيم الدفن والعزاء والمناسبات الحزينة، كان يعتقد أن الكتب قد أفسدت علي عقلي وعقيدتي، ويتصور أن  فكرة الموت وحدها كفيلة بكسر أنانيتي، ولجم حالة الاندفاع والتمرد والجموح المزمنة التي اجتاحتني في سن مبكرة، ولكنه لم يكن يعلم آنذاك أن الموت بالنسبة لي، موتي أنا، كان أمرا مؤجلا ولا يعنيني.

أتذكر يوم وفاته.

أنظر إليه أتأمله، أنظر إلى جسده النحيل ممددا، ما تبقى من جسده النحيل بفعل المرض، أنامله الرفيعة، أنظر في عينيه، انطفأ البريق، وغابت الحدة، وحلت محلهما سحابة من هدوء غامض، تعبير يشبه الرضا والاستسلام، تعبير يعني أن الرحلة قد انتهت أخيرا، أو هي على وشك أن تنتهي.

يحدثه أخي الأصغر عن أمور كانت فيما مضى تثير اهتمامه وفضوله، يجيبه بنظرة هادئة وحزينة، يرفع يده اليمنى في حركة رفيقة ويائسة، وكأنه يقول.

  • ما الجدوى؟

مرت سنوات، وفي كل مرة أستحضر فكرة الموت، أسترجع معها تلك الحركة اليائسة المليئة بالمعنى، حركة تعني أنك ها هنا أخيرا أمام الموت، موتك المفترض، موتك المنتظر، وأن الحياة كان لابد أن تنتهي، وها هي قد انتهت ولا معنى للخوف والجزع.

شاهدت الكثيرين يرحلون، بعضهم مؤمن ومتدين بعمق، بعضهم متشكك ويفلسف الأمور بطريقته، بعضهم رافض ومتمرد، والبعض الآخر يعيش حياته فقط، لا يبالي، لا يهتم، ويؤجل مسألة الموت إلى حين.

منذ سنوات سألت صديقا لي، شخص لامع، مثقف، لبيب وأثق في ذكائه.

  • ما قولك في الموت (أسي حميد)؟

لاذ الرجل بالصمت للحظات، وكأنه يختار الكلمات المناسبة.

  • الموت رحلة أبدية تبدأ هناك في المقبرة، ولا أحد يعلم أين تنتهي، ولكنني أجزم أن الكثيرين ستكون خسارتهم مضاعفة، أقصد أولئك الذين لم ينجحوا في أن يكونوا سعداء هنا في الحياة الدنيوية.

في البداية كنت مهموما، شعرت بالحزن، تخيلت أنني لن أكون سعيدا، فالمكان هنا هادئ ومريح، وأنا أحب الحركة والضجيج وصخب الحياة وأكره الرتابة والملل.

خاطبت نفسي.

  • حتما سيقتلني الضجر…

ومع مرور الأيام، بدأت أألف المكان وأكتشف بعض مكامن الجمال فيه، مثلا، أكتشفت أنني لن أكون وحيدا، وأن الحياة بعد الموت ليست رتيبة ولا مملة، فحتى في المقابر هناك أشياء تحدث، تكسر إيقاع العدم الممتد وتخفف من وطأة المقام، هناك النباتات البرية المتوجة بندى الصباحات، خيوط الشمس وهي تبعث الحياة في التفاصيل، الفراشات، صوت الطيور وهي تغدو وتروح، حتى مواكب الموت والجنائز الجديدة التي تحضر بين الحين والآخر كانت بالنسبة لي مصدرا للعزاء…

وطبعا، في الموت كما في الحياة هناك أيضا هذه الأشياء الأخرى التي تشعر الإنسان أن سعادته مجرد لحظات منفلتة وعابرة، أشياء تفسد عليه مزاجه وتشعره بالكآبة والقلق، تملكني هذا الشعور منذ الأيام الأولى، عندما انتبهت إلى وجود شخصين يجلسان غير بعيد من مرقدي، ينظران إلي بإصرار، يتلصصان، يراقبان حركاتي وسكناتي، كنت أغفو قليلا، وفي كل مرة أعود إلى نفسي أجدهما هناك، ينظران جهتي، نظرة اتهام وتوجس، ويرسمان على وجهيهما تعبيرا جامدا وغير مريح، شيء يشبه ابتسامة الألم أو الإمتعاض، أحيانا يختفيان لساعات، أحيانا لأيام، ولكنهما في النهاية يعودان.

كنت أنزعج كثيرا عندما ألاحظ أنهما يتبادلان بينهما كلاما هامسا لا أسمعه، وكنت أنزعج أكثر عندما يستخرجان بين الحين والآخر كنانيش صغيرة يتفحصانها، ويدونان فيها ملاحظات سريعة، في الحقيقة كنت أنزعج لأنني تخيلت أن تلك الكنانيش هي مذكرات للتجسس، وأنني أنا المقصود بتلك الملاحظات.

ثم ذات يوم، قررت أن أكون حكيما، قررت ألا أهتم لأمرهما، قدرت أن وجودهما هناك لا يعنيني، فهما من الأحياء، وأنا هنا في عداد الموتى، وتلك المسافة التي تفصل بيننا هي مسافة آمنة، وأنه لا مبررللخوف والإنزعاج عندما يتعلق الأمر بأشياء لا أستطيع تغييرها.

تاتي الحكمة دوما متأخرة، وعندما يتعلق الأمر بالموت والحياة تتأخر أكثر، ولكنها في النهاية تأتي.

ينساب الزمن في المقبرة دوما بنفس الإيقاع، مع الخيوط الأولى للصباح، يستيقظ الحارس، يهيء قبرا أو قبرين، أحيانا أكثر، يشتغل، ينجز عمله بهدوء وأناة، نفس الحركات، نفس النظام، فيبدو مثل نملة شغالة، يفتح البوابة الخشبية الكبيرة، ينظف المدخل، ثم يحرر صنبور الماء، ويرسم بسخاء مساحات لمطر اصطناعي  منعش، يتطاير الرذاذ، يمتزج عبق النباتات برائحة الأرض، ويبدأ يوم جديد.

أقدر أنه لا يعرف أبدا عدد الجنائز التي ستدخل المقبرة، فالموت يضرب عندما لا نتوقعه ولا يخضع أبدا لحسابات الأحياء، لذلك من المفيد أن تكون القبور دوما جاهزة، واللامتوقع هو عادة جنائز المساء والليل المتأخرة، جنائز تخضع أحيانا لهموم الأحياء، وأحيانا لوصايا الأموات، هموم ووصايا تحدد زمن وشكليات العبور من هناك إلى هنا.   

من مكاني أتأمل المشهد، أراقب الرجل، أفكر فيه وأتساءل.

  • أهو رجل سعيد؟

لا أجيب، فأنا لا أدري.

أفهم بصعوبة سعادة الفقراء، أحيانا يثير الأمر إعجابي وتعجبي، أتخيل أنها قضية توازنات، أولويات، أشياء تعوض أخرى، عقيدة وفلسفة ما، نظرة خاصة للأشياء والحياة، وبالمقابل أعرف الكثير من الأغبياء، فقراء وأغنياء ممن يعتقدون أن المال رفيق السعادة، وأنه وحده يكفي…

بين الليل والنهار يستقبل فضاء المقبرة أصنافا مختلفة من البشر الأحياء، بعضهم سيء، بعضهم أقل سوءا، والبعض الآخر سيء جدا.

أقل الزوار سوءا هم المتسولون وفقهاء القبور، هم عادة أناس غشاشون وكسالى، المتسولون يشكون الفقر ويعرضون عاهاتهم الحقيقية والمزيفة، وفقهاء القبور من جهتهم يقتاون على الدعاء والإستجداء وتلاوة القرآن.

وأكثرهم سوءا اللصوص والمشعوذون، وهم بشر من عجينة خاصة، يتمتعون بالذكاء ومستوى عال من القسوة والوضاعة والخلل النفسي.

يحضر المشردون أولا، يحضرون على شكل جماعات صغيرة، يختارون مكانا مناسبا، ويشرعون في التحضير لسهرتهم الممتدة، خمرة وسجائر رخيصة، طعام رديء، تجديف، شتائم، وكلام بذيء بالجملة.

بعدهم يحضر اللصوص، يتعلق الأمر عادة بمرور عابر، يقتسمون الغنائم، أو يخفون المسروقات إلى حين، أحيانا يتم ذلك بهدوء، بكلام أقل، وأصوات خفيضة تكاد لا تسمع، وأحيانا يحتدم الخلاف حول التفاصيل، فتظهر لغة أخرى، لغة حاسمة يمتزج فيها الغضب والتهديد والعنف، وتصور معين للعدالة والشرف.

أحيانا تخرج الأمور عن السيطرة، تنفلت الغرائز، تنفلت للحظات، ثم أخيرا يتكلم زعيم اللصوص، يحسم الخلاف، وتعود الأمور إلى نصابها.

  • شوفوا، نحن لصوص، نعم، ولكن ينبغي أن يكون المرء منصفا، فالمهنة لها شرفها.

أما المشعوذون فيحضرون دائما فرادى.

المشعوذ يزور المقبرة بانتظام، يحضر الجنائز، يشاهد الموكب والزوار، يسجل في ذهنه التفاصيل المتعلقة بالفقيد، جنسه، سنه، حالته المدنية، يقدر قيمته ومكانته الإجتماعية من خلال المظاهر، ثم يختار الزمن المناسب، يعود في الهزيع الأخير من الليل، يذهب توا إلى القبر المعلوم، يلتفت، يستطلع الموقف، وعندما يطمئن، يبدأ طقوسه الشيطانية، يدور حول القبر، يرقص على طريقة الهنود الحمر، يتفل عن اليمين وعن الشمال، يقرأ طلاسمه، ثم أخيرا يجثو على ركبتيه، ينبش القبر باظافره، يحفر، يقحم يده عميقا، يسرق حفنة من تراب القبر وقطعة من قماش الكفن.

أحيانا يصبح الأمر فظيعا وقاسيا، تتلبسه حالة من الجنون، فيبدو مصمما، ينخرط، يتماهى، يخرج عن طوعه، فيقتطع بعضا من الرفات مما تطاله يده وأظافره، يلف كل ذلك بعناية في كيس من الكتان، ثم يمضي.

أحيانا تتوقف الحركة في المقبرة لأيام، لا جنائز ولا زيارات، يبدو الأمر وكأن الأحياء والموتى يستريح بعضهم من بعض، يمضي الزمن رتيبا، مملا وضاغطا، ولكن ذلك لا يدوم طويلا، فسرعان ما يستأنف الموت عمله وتتجدد العلاقة بين العالمين، تعود الجنائز، تعود الزيارات، يقاوم الأحياء أحزانهم ويشعر الموتى ببعض العزاء…

يوم آخر من أيام الزمن الممتد، تشرق الشمس قوية ودافئة، تغرق المقبرة في حمام من الضوء، على بعد خطوة أو خطوتين تدور طقوس زيارة إستثنائية، سيدة أنيقة تقف بخشوع، بجانبها تمسك ابنتها الجميلة بطرف ثوبها، وباليد الأخرى تمسك باقة الورد.

تسأل.

  • ماما، أين أضع الورود؟

تشير المرأة صامتة إلى حافة القبر، تنحني الفتاة قليلا، تضع الورود في مكانها، تشبك كفيها الصغيرتين، ثم بين الحين والآخر ترفع بصرها، تختلس النظر إلى وجه والدتها وتحاول أن تفهم.

أنظر إليهما، أتأمل المشهد، تفيض عواطفي فجأة، مزيج من الشوق والعجز والفرح الحزين، ثم في لحظة ما، أستعيد هدوئي، أبتسم، أفكر، أخاطب ذاتي.

  • في النهاية الموت ليس قاسيا، الأمر رهين بمن يأتي لزيارتنا.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون