حارس الموت

أسامة كمال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أسامة كمال

من باب حديدي صغير مهجور دلفت إلى مقبرة الكاثوليك، وجدت نفسي في منتصف المقبرة تقريباً دون أن أرى أحدا.. على البعد لاحظت بيت الحارس منعزلا ووحيدا وسط الأحراش.. أثناء سيرى اليه صادفت عيني أطلال مقابر تنم عن مجد غابر وتشي بزمن بعيد لم يعد أي من أبنائه بيننا، فالطائفة الكاثوليكية اندثرت من مدينة البحر ومعظم أبنائها غابوا تحت التراب أو غادروا المدينة دون عودة أو حتى املا فى الرجوع.. حارس المقبرة مسلم تتشابه ملامحه مع ملامح الأوربيين في بياض البشرة ولون العينين، ويجلس وحيداً مع كلبه الذي لم يكف عن الصخب حولنا.. عند الحديث معه طلب مني بإصرار عدم ذكر اسمه لأسباب عائلية برغم أنه يُمثل الجيل الرابع لأسرته في حراسة المقبرة والتى تقيم في نفس المكان منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أثقالها وأحزانها المؤلمة عام ١٩٤٥.. بدأ حارس الموت مهمته عام 1984 بعد وفاة والده مباشرة وبعد ما يقرب من ثمانية وعشرين عاما من مغادرة معظم أبناء البحر من الأوربيين الى بلادهم خاصة الكاثوليك منهم الذى تناقص عددهم في المدينة عاماً بعد عام، وكان آخرهم “مسيو فرانسوا” الذي توفى منذ شهر واحد فقط، وهو آخر المالطيين الذين ارتبطوا بالمدينة القديمة ورفضوا مغادرتها مع من غادروها..

لسنوات طويلة يجلس حارس الموت وحيداً دون ترقب أو انتظار أحد، بلا أمل أو عمل، فالكل رحل في سماء الغياب أو ترك شواطئ المدينة الى شواطئ أخرى، ولم يبق منهم الا أطلال من ذكرى غابرة أو رفات متهرئة تسكن تحت أحراش المقبرة المهجورة…

لم يعد أحد من الأحياء يزور المقبرة، ولم يعد أحد يتذكر أو حتى يتخيل أن بداخلها شخصيات مضيئة لامعة أثرت في تاريخ المدينة مثل الحالم والمغامر الإيطالى “مسيو سيمونينى” أول من أضاء ليل المدينة القديمة بفندق وكازينو “دى بالس ” اللذان جعلا من ليل المدينة نهار دائم ومتجدد، وتحولت بسببهما الصحراء الى بقعة باهرة تطفو على صفحة البحر..

وملوك البحر الأبيض المتوسط “مسيو دى كاسترو” و”دام جران”  أثرى أثرياء المدينة في النصف الأول من القرن العشرين وصاحبا الشركات الملاحية العملاقة حين كانت مدينة البحر بوصلة ضوء وحياة للبحار السبعة والمحيطات الخمسة وكل التماعات البحور الخمسين على كوكب الأرض..

غادرت المقبرة دون أن تغادرني مقبرة “مسيو سيمونينى” بمهابتها وجلالها وبياضها الحاني الذي تتصدره تمثال لعذراء حزينة على رحيله الموجع، كذلك التماثيل البديعة للملائكة والقديسين المسيحيين التي تحاصر عينيك في كل شق بالمقبرة، والصور الفوتوغرافية المُغبشة برائحة السنين خاصة صورة الطفلة المبتسمة التي رحلت منذ ما يقرب من مئة عام، وما زالت ابتسامتها قادرة على عبور الزمن إلينا بنفس بهائها الأول.. وحارس الموت القابع وحيدا مع كلبه الذى لم يكف لحظة واحدة عن النباح وسط كل هذا الصمت والموت

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون