مي التلمساني
في الطائرة المتجهة من زيوريخ إلى مونتريال، جلست بجوار رجل طويل القامة بدا للوهلة الأولى مستاءً من وجودي. كان طوله لا يسمح له بتحمل سبع ساعات في هذا المكان الضيق، وكان وجودي يحد بالضرورة من حركته. تبين لي في ما بعد أنه يتحرك كثيرًا ويحتل بذراعيه أكبر مساحة ممكنة كأنه يفتح لجسده مساحة للتنفس في كل الاتجاهات. بدت حركة يديه غريبة. كان يحركهما في ما يشبه التمارين الرياضية ويضغط أحيانا بيد على أصابع اليد الأخرى كأنه في حلبة ملاكمة. لم أرَ وجهه جيدًا، كان شعره طويلاً يصل إلى كتفيه، وكان عمره لا يزيد عن خمسة وأربعين عامًا.
بعد الإقلاع بقليل، أراد جاري الفرجة على التلفزيون. الشاشة الملصقة بظهر المقعد أمامه يمكن تحريكها قليلاً، وهو قد تعود على تحريك كل ما يمكن تحريكه، أخذ يحركها إلى الأمام والخلف ويضغط عليها لعلها تضيء، لكنها ظلت معتمة. راح ينقرها بأصابعه في مواضع مختلفة، لا شيء. سألته بالإنجليزية إن كان يريد المساعدة. رفع كتفيه إلى أعلى وهمهم شيئًا فهمت منه أنه يريد مشاهدة فيلم. الريموت كونترول مثبت في ذراع المقعد من الناحية اليسرى، انحنيت قليلاً لأخرجه من مكانه وأعطيته لجاري الذي أخذ يقلبه بين يديه وهو يشير به في اتجاه الشاشة. ظهرت قائمة المعلومات فجأة لكنه لم يعرف كيف يختار من بينها قناة الأفلام. فكرت: هذا الرجل لا يتكلم أي لغة أتكلمها، وهو فوق ذلك غريب الأطوار ومزعج. يجب التخلص منه على الفور. هكذا بدا لي أن التلفزيون هو الحل الوحيد لتهدئته. لكني أيضًا أحسست بالشفقة عليه، ربما كان ملاكمًا، وهو ما يفسر حركة يديه وثقل لسانه ونباهته المحدودة. كانت صورة سيلفستر ستالوني في فيلم «روكي» هي ما استقر في ذهني عن جاري الغريب وأطار النوم من عيني.
بعد نقاش طويل بلغة لا يتكلمها أي منا هي خليط من كلمات إنجليزية وفرنسية وألمانية ومن لغات أخرى غامضة، استقر جاري في النهاية على فيلم. اختار بالإشارة فيلم «قراصنة الكاريبي». فكرت أن جاري سيشاهد الفيلم ويتركني أنام، لكني لاحظت أنه لا يضع السماعات. يشاهد الصور فقط ويهز رأسه من حين إلى آخر. أخرجت له السماعات من كيس أمامه لكنه شكرني مبتسمًا ولم يضعها. أخذ يقلبها بين يديه ويتحسسها، كأنه يريد التعرف عليها وكشف سرها. مجرد سماعات عادية لكنها تكتسب بين يديه أهمية غريبة. ترك السماعات بعد قليل وأغلق التلفزيون وراح يضغط على أصابع يديه.
جاءت المضيفة بالوجبة الأولى. وجبة مكونة من طبق أرز بالسمك وسلاطة خضراء وقطعة جاتوه باردة وأشياء أخرى لا يأكلها أحد. مدت نحونا طبقًا كبيرًا مليئًا بالخبز، أخذ جاري لنفسه قطعتين ورفعهما لأنفه وراح يشمهما بعمق قبل أن يضعهما على الصينية أمامه. قال لي «بون ابيتي» وأجبته بالهناء والشفاء، واستقرت بيننا علاقة استلطاف مفاجئة سببها غرابة أطواره وفضولي لمعرفة الناس غريبي الأطوار.
لاحظت يده اليمنى وهو يأكل، يد كبيرة بشكل مخيف، بالإضافة لأن إحدى أصابعها شبه مكسورة. سألته فجأة عن الإصبع، وكأني ذكرته بتمارين الماساج فعاد لتحريك يده والضغط على أصابعه. قال جملة طويلة لم أفهم منها سوى كلمة «تزحلق» ثم بعد عدة محاولات باللغات الثلاث التي يبدو أنه لا يتقن أيا منها، فهمت أنه كسر إصبعه وهو يتزحلق على الجليد في سويسرا.
بدأت علاقتنا تتوطد منذ تلك اللحظة، بعد حكاية كسر الإصبع. زادت أحاسيس الشفقة من ناحيتي واكتشف هو أني شخص لطيف وشكرني على اهتمامي بكلمة واحدة: ميرسي، نطقها دون راء. سألته عن اسمه وأجاب: إيجور. قلت بسعادة لم أفهم مصدرها: روسي؟ أجاب نعم. قلت مبتسمة: دوستويفسكي! ضحك ضحكة عالية يشبه صداها صدى الريح على جبال الأورال. شجعتني ضحكته على ترديد حصيلة الكلمات الروسية التي أعرفها والتي لا تتعدى أسماء الأدباء والفنانين الذين تربيت على محبتهم: تشيكوف، تشايكوفسكي، سولينتسين، نابوكوف، تاركوفسكي… قال: آه، تاركوفسكي، وهز رأسه معجبًا. قلت: نوستالجيا، أندريه روبليف، سولاريس… وأجاب في عشر جمل مختلفة ما معناه أن تاركوفسكي أعظم مخرج تشكيلي في تاريخ السينما الروسية. اتفقنا إذن على محبة تاركوفسكي. قلت: كان مؤمنًا أرثوذوكسيًّا. وقال إيجور: نعم، نعم. وكأنه يقول ليست هذه تهمة!
لم نكفّ عن الكلام حتى نهاية الرحلة، بلغة وسيطة لا أعرف كيف ولا متى توصلنا إليها، فيها كثير من الإشارات والهمهمات والكلمات الروسية التي لا أفهم معناها، وفيها أيضًا خطوط كثيرة خططناها في كراس اليوميات، ورسوم تشرح ما تعجز اللغة عن توصيله، وضحكات كثيرة من القلب كلما تأكد عجز اللغة، وكلما أراد إيجور التعرف على شيء بتحسسه طويلاً بين يديه أو بشمه! عرفت أنه فنان تشكيلي، وأنه في طريقه لافتتاح معرض في أمريكا. رسم لي سكتش اللوحة الرئيسية في المعرض: «أشباح الميدان الأحمر» ورسم ماكيت كائنات بلا ملامح سوف توضع في قاعة العرض كأنها أشباح خرجت من اللوحة. ضحك وهو يشير إلى أحدها قائلاً: بوتين.
في المطار، أعطاني كتابًا عليه اسمه: إيجور نوفيكوف. كتاب يضم لوحات معرضه الأخير في سويسرا، لوحاته تشبه أعمال كاندنسكي وميرو في براءتها وفي مساحات اللون الداكنة الصريحة التي تغطي سطح اللوحة وفي مفردات التشكيل البسيطة الطائرة في فضائها الفسيح بلا رابط سوى رابط الإيقاع. قبل أن نفترق تبادلنا قبلة وداع وابتسامات تشجيع لا نعرف من أين جاءت ولماذا حملناها كل هذه الثقة، ووعد بأن نتكاتب، لن نفلح غالبًا في الحفاظ عليه.
…………
*يوميات للجنة سور، دار شرقيات، 2009