يماني ساكن الغرف والأماكن

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

الطريق إلى قصائد يماني يمر عبر يماني شخصياً، عبر يماني و هو يضحك، يقهقه و يقول ولللاكن المقبلة من العربية على موسيقى اسبانية، و عندما  يمشي في شوارع مدريد و يصل اليها في آن فهو يمشي معك و صوله هناك. لأن الشوارع و الأماكن هم حيث يوجد و يكون. يماني هو شاعر المسالك و الفضاءات و الغرف الضيقة أو الواسعة، الحدائق و السحب، الصباح الذي تأخذه القدم اليه ليلا. يماني هو شاعر المدن المجردة الذي يريدها مصغرة كغرفة وبلاد الآخرين التي يريدها حمراء مكورة طرية كحبة الطماطم، بلاد الآخرين التي يصل عليها على دراجة كانت قبل أن يريد يماني طائرة مملة لا حضور لها إلا حين تقتل.

 والقتل يجوب شوارع الأبيض و الأسود و يسكن الأماكن الخاطئة.

و القتلة كما يقول نيتشة ضروريون للإبقاء على النوع البشري. إذن في البداية كان هناك القتل، المتعمد ـ الخطأ-من ضرب افدى إلى موت إلى ضربة الشمس التي تعرف هي ايضا أن تضرب، (أماكن خاطئة ص 101)  فكومته “امه على الرصيف و مضت تكمل تسوقها”، (ص101) ما الذي يحول دون ارادة يماني في تصغير كل شيء؟ ما الذي يمنع قدمه النامية من أن ترتدي حذاء يحميه من الغرس في الطمي؟( ص102) ليس هناك بمانع كالحوائط حتى و ان تعددت، بل لعل لا هناك مانع على الاطلاق. هناك زمن انقضى و ينقضي في اللحظة التي يعبر فيها جسر ما أو قصيدة ما. هناك عنف قاتل، اسمه الذكريات التي “تتركني بملابس ممزقة ملقى على الرصيف”(ص66).

يماني لا يحتمي بشيء و ليس هناك من شيء يحميه.

هو شارد حتما. ليس بشارد في الانتباه فيماني أرهف من يستمع لك و ينصت.

بل أنه شارد بين الطرق و الشوارع و البيوت، شارد بين تلال الأحذية الملقاة اسفل النوافذ يتفادى الألم الذي يأتي به التذكر الذي لا بد و أن يأتي و يضع كلتا قدميه على أرض القصيدة.

اول ما لفت نظري في قصائد يماني التي عاودت قراءتها في هذا التسرع الذي يمليه عليّ اتصال الموقع بي في آخر لحظة للكتابة عنه، و كما يمليه ايضا تسارعي في  تلبية الدعوة رغم ان هناك 48 ساعة انذار فقط. لفت نظري العابر، اكتمال قصائد يماني، تبدأ و تنتهي ثم تقف امامك مكتملة كبيت او كشرفة و كنافذة، مكتملة كغرفة او كحديقة إذ انها أماكن تسكنها القصائد كبيوت. بيوت او منازل “قد تذوب كشمعة”، (شوارع البيض و الأسود ص 44)،  بيت يأخذ معه عند احتراقه عدد من الشواهد على الذكريات التي ستظل حبيسة، اسفل سقفا يغطي علي هوائها، هنا ينتهي زمن المنزل ليبدأ زمن البيوت. في شساعة ليس فيها أي فائدة للساعة و الزمن القابل للتجزؤ و الإحصاء حيث يكون يماني فهو لا يعرف الساعات بل يراها عندما  ينظر إلى نفسه. (شوارع الأبيض و الأسود ص46)

و عندما انظر إلي وجهه الضاحك دائما ارى أن المدن اصبحت قراً صغيرة يدعوني لأن أجوبها معه لساعات بعد وفاة أخي و لساعات بعد أن كنت في مصر و مرضت بغاز محمد محمود.

يماني لم ير مصر في الثورة كان على الضفة الأخرى في المكان الآخر يراقب و يعيش عن بعد ما لا يمكن الابتعاد عنه، يسكن غرفته و يطبب الفارين من غدر هذه الثورة عبر التسكع في الحارات و البارات، يطببهم بالأطباق الصغيرة المختفية في بار يملكه مصور يصنع طعامه بنفسه و يتشارك به مع العابرين.

هل اكتمل المعنى؟ كما تكتمل معاني قصيدة يماني بما لا يدعو للشك  انها اكتمال للشك نفسه.

يقول : و في هذه الشساعة

لن تكون للساعة أي فائدة

حيث سأعرف الوقت عندما أنظر إلى نفسي،( شوارع الأبيض و الأسود ص46)

……………………………….

 و يقول : …و لأنك لم تؤمن

بالصراع إلا كطريق أخير، و لأنك تريد فعلا

أن تتجاوز ثنائية الخير و الشر

فلم تر شيئا مهينا أن يمنعك أحدهم من المرور..(.شوارع الأبيض و الأسود ص72)

اكتمال الشك لا يدع مجالا للشك بل يحيد الصدق و الكذب، الحقيقة و الزور، الخير و الشر في فضاء أولي لعالم على خريطة يعرفها وحده لأنه يسكن في فضاء من نوع آخر ذاهب في أفق اللانهائي يبدأه طريق و لا يصل اليه.

كيف له ان يستدل عليه؟ هل يستدل على هذا الطريق الغريب لأنه “يحمل رغيفاً و يمضي، في كل خطوة يرمي قطعة منه كي تدله على الطريق. لا يعرف اين يذهب، لكن قطع الخبز تقوده. الرغيف انتهى و ما وصل”. (أماكن خاطئة 88)

“جف الدم، لكن الألم بقى بقدر ذكرى قديمة لا تتوانى في العودة كلما عنّ لها”، (أماكن خاطئة ص 89). أهو فضاء تنقطع فيه الذكريات  لتكون الذاكرة هي من يحمي الذكريات من الموت و يحميها ايضا من الحياة، من أن تموت مع احياءها.

يماني حنون يعترف به بين الكلمات ، يهرب منه قبل ان يمسك عليه و لكنه حنان يسكنه،  فيبدو منه ، من قلب مكانه و يذهب احيانا بعد ان نراه وأن يراه، ” نفس الحنان الذي غادرني سريعا”، (شوارع الأبيض و الأسود ص42)

إذ أنه حنان يهرب منه بين العبارة و مقاطع الكلمات. يماني يقول حنان ما، رقة ما ، حنو ما  بين السطور في قصيدة الحب الأول في مجموعة أماكن خاطئة ثم يترك هذه المعاني و يطلقها لتجتاز سبعة من الجبال و سبعة من البحور و الأنهار ثم تصل هناك في نهاية مجموعة أماكن خاطئة كي يسكنوا هذه القصيدة التي تحمل اسم الحب و كأنهم اشباح قادمين من مكان مجهول. أصبحوا اشباحاً لأن الحب مرعب، كالرعب من القتل، و الرعب من كل ما يجمع الأضداد و الأشياء المتنافرة، فالحب في هذه القصيدة : ضربة/دلوا/جارحا/تقيؤا/الغرفة/حذاء/خادمة/اللحظة/هي/قفزة/الجسد النحيف/الدولاب/السيجارة/اللص/السيدة/الرعب/الطعام/ الفأس/اليد (ص93-96). كل هذه الكلمات صفات للحب يرد بها يماني على عبارة “كان الحب”. هي صفات نعم للحب و هي موصوفة بدورها بالهلع.

أحمد يماني، الشاعر، ساكن الغرف و البيوت و الاماكن المفارقة و الأماكن الخاطئة، العارف بالمدن المصغرة و الغرف المضيئة في مدن  شبه خضراء شبه سوداء،  هو أيضاً العابر الذي يأكل بلد الآخرين كحبة طماطم على مرتين.

من هو هذا الشاعر الجميل الغريب الي يسكن القصائد و تسكنه الغرف و البلاد دون أن يحزن؟  

باريس 2 ديسمبر 2013

 

عودة إلى الملف

       

مقالات من نفس القسم