هندسة الأرواح وتشميع الأقنعة

صلاح عبد اللطيف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صلاح عبداللطيف             

                                     1

  بقيت في أشياء كثيرة لوحدي، وحدة لم أخترها وإن رضيت بها في ما بعد. بقيت وحيدا لأنني كنت هادئا بين حانقين منفعلين حتى الغليان أحيانا، لأنهم كانوا بصدد التخطيط لترك آثار من الصراخ المدوي، فيما انتهيت منذ زمن إلى أن على الكاتب أن يترك إشارات أو علامات تدل عليه، لا طريقا يؤدي إليه. ولأن مثل هذه الأمور غير مألوفة في عالمنا المتصحر الفظ، نحن أهل الثقافة من العرب ومن جاورهم، فقد سألت مرارا لم أنا مهموم أو حزين! مثل هذه الطريقة الشاقة في النظر إلى الكون، يصعب عليك الدفاع عنها في حضرة محاربين لا صبر لهم في أوقات السلم، لذلك لم أتصد كثيرا أمام أولئك للدفاع عن أفكاري واختياراتي، لأني لم أكن من طينة المحاربين. الحل كان في مغادرة مثل تلك المجالس قبل انفضاضها، سواء كان مجلسا للمهاجرين، أو لمن اضطر وبقى في مكانه الأول.

  ولذلك، ربما، حاولت أن أكتمل بسبب تلك التجمعات في مكان آخر لا يصله الكتاب من ذوي القلوب الضيقة، أولئك الذين يصمتون عندما ينتهي الحديث عن الثقافة، فلا يقدموا لك رفقة حقيقة حينما تبدأ بالحديث عن الحياة بجمالها ومشكلاتها، بسلاستها أو عنادها، حينما تدافع اليوم عن فكرة وغدا عن نقيضها. لذلك سعى بعض المثقفين أو الكتاب لبناء عش عزلته وسط نوع من البشر يصل معهم غير منهك إلى وقائع بسيطة بلا مكابرة أو حذلقة، بعيدا عن مزاعم تبدولاهوتية أحيانا عن حريق الكتابة ورمادها، عن تغيير العالم بالشعر أو إطعام الجائعين بأقراص مقوية أو مهدئة بعد نزهة سردية، أو بلوحة بول كلي ملاك التاريخ التي ستحول الأبالسة إلى ملائكة. لا ليس كذلك  دائما، فالحرارة الكتابية تظل تدفئ الورق فحسب، وقد تنتقل إلى عقول البعض ممن يحاول أن يلقى تلك الكلمات مثل شرارة في حقل تبن. لكن المشكلة أن أصحاب الكلمات أنفسهم يمكن شراؤهم بزجاجة ويسكي كما قال لي أحد أصدقائي من الكتاب، فيجد جمهوره نفسه بعد ذلك وحيدا مخذولا، مكتشفا أنه استلقى لسنوات في سرير الخديعة، فيقرر الهرب إلى حياته الخاصة ليديرها بقوة المال أو الوعي خارج تلك المحافل التي ملئت حياته بقنابل تصريحاتها الثورية الفارغة.

  ليس كل من عاش داخل خيمة المعارضات الأدبية أو السياسية مبرأ من العيوب البشرية، مثل الظلم والهيمنة والإستحواذ، بل أن بعض من مر بالمرحلة الثورية كترانزيت إلى السطوة، تحول إلى ضبع ينهش لحم رفاق الماضي في حلبات الأعلام الرسمي أو المعارض، فهو أصلا لم ينازع المهيمن على الحرية بل على نتفة من غنيمته.

  وعلى عكس تلك الرمال المتحركة، التي وضع الكتاب العقائديون جمهورهم فوقها، تجد أن الكتاب الذين رفضوا التمدد فوق أسرة إيديولوجية، بمختلف ألوانها، امتنعوا أن يصبحوا بهائم للإستبداد، بل أن بعضهم غادر المشهد الأدبي رافضا أن يلطخ سمعته أو عقله بالوحول السائدة. والتاريخ يسعفنا بأمثلة لا حصر لها من الماضي منذ آلاف السنين. فقد قيل أن أحدهم سأل أبا نؤاس عن أيهما أفضل شرعا، أن يسير أمام الجنازة أم خلفها، فأجابه المجدد الكبير: لا تكن داخل النعش، وسر حيث طاب لك السير.

                                       2

  أنا مقتنع منذ زمن بأن النص يتبع غنى أو فقر صاحبه، بصرف النظر عن ألوانه الزاهية أو المعتمة في المضمون. فما أعنيه بالغنى أن لا تكون روح الكاتب سوداء وهو يكتب على ورق أبيض، وأنه من الصعب أن يكتب شعرا مؤثرا وقلبه يضج بالكراهية، أو أن يكون صغيرا متهافتا بينما يسمى بالكاتب الكبير، أو أن يتحدث عن الروح وهو فاقد للروح أصلا، الكاتب اللائق هو مثل قطعة ذهبية وجهها وقفاها واحد ولي في هذا المجال أمثلة عديدة.

  ففي إحدى الندوات التي أقيمت حول علاقة الكاتب بوطنه، هاتفني كاتب عراقي وطلب مني أن نلتقي قبل الندوة بساعتين، للتداول في موضوع الندوة. وافقت، فسألني ماذا ستقول في الموضوع، فأجبته دون تردد أن أوطاننا مثل امرأة تطاردها لشهور لتثبت لها حبك، فتصد عنك لترميك مثل كلب مستوحد في يوم شتائي عاصف خارج دارها، وعندما تتلقفك امرأة غيرها تكون اليد الذي يداوى الجرح، سرعان ما تصرخ الأولى: أرايتم كيف خانني. ستتحول تلك المرأة دون شك إلى ذكرى في صندوق الروح والعقل، بكل أطياف تلك الذكرى من أفراح وأحزان. وقد تنفع هنا جملة امرئ القيس بعد أن وصله خبر قتل أبيه [ ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا ]. فالأوطان التي تستهجن أصوات مواطنيها الوفية، وتعتبرها مثل نعيق غربان، لابد أن تتوقع انخفاضا في حرارة عواطفهم نحو تلك الأوطان كمفاهيم تجريدية أو جغرافية لا غير.

  وافقني على رأي بحماسة مبالغ فيها. ذهبنا بعد ذلك إلى الندوة معا، فلما جاء دوره تحدث وكأنه يقرأ منشورا سياسيا تراكم على أهدابه تراب الشيخوخة. ولما حان دوري تحدثت بنفس ما تحدثت به معه،  مضيفا بأن العراق يسكن في قلبي مثل شظية زجاجية تؤلمه يوميا، لكني لا أريد أن أزيلها، لأن في تلك الشظية الصغيرة كل ذاكرتي وذكرياتي الأولى، أفيعقل أن أمحو أزقة شارع الكفاح، ودروب الباب الشرقي، وجسور نهر دجلة، وسينمات شارع الرشيد، وعفيفة اسكندر ووحيدة خليل وزهور حسين وعباس جميل وطالب القرغولي، والسمك المسكوف وسوق الهرج، وشارع أبي نؤاس بمقاهيه وحاناته يومذاك، وأشياء كثيرة غيرها. شعرت بأن الجمهور قد تعاطف معي أكثر، لأني أخرجت العراق من سريره العقائدي الضيق، الذي وضعه فيه ضواري السياسة من جميع الأصناف، ليفترسوا جسده الطري بأنيابهم الفتاكة، مثلما تتربص التماسيح بغزالة بريئة تقترب من مجرى مائي حينما تريد أن تروي عطشها.   

                                    3

  في الكتابة لا تستطيع العبارات أن تنوب عن الأشواق أو المخاوف أو خدوش القلب، ولذلك تصاب الكلمات بفشل واضح أحيانا. فالرموز والمراجع التي تقع خارج النص تبقى صامتة لا تدافع عن كاتبها، ما يهم القارئ هو النص وحده، الذي لايرضيه في بعض الأحيان، حتى لو كان يعرف جدية الكاتب وتشدده مع نصه وأناه. وهذا الأمر يعتبر من أصعب الأسئلة في التجربة الكتابية، أو بعبارة أخرى، هل تستطيع اللغة أن تلتزم بحذافير التجربة؟ أن النص يبقى يدور أحيانا حول نفسه بشكل أعمى شكليا، رغم بصيرته المجازية. لذلك فإن النص يستغلق إذا لم ننظر إليه باعتباره نسيجا   [ الوجه والقفا، السدى واللحمة، خطوط الطول والعرض، وأطياف الكلمات ] علما أن كلمة النص اللاتينية Text]] تعني النسيج، فالكاتب هو نساج بمعنى آخر. لذلك فإن كل قراءة دقيقة لنص معطى ستصل إلى حل لمشكلاتها، ولا أعتقد أنها ستصل على نحو نهائي إلى مشكلات النص نفسه. وهكذا يتم الحديث دائما وبصورة خاطئة عن ضبط النص، والحال أن الأمر يتعلق بضرورة ضبط القراءة تحديدا.

  يحاول الكاتب في النثر أن يهرب من نفسه مترا فيسقط في بئرها مترين، أولا لأنه ينسى بأنه يكاتب نفسه قبل كل شيء، وثانيا لأن الذاكرة من العناد بحيث لا نستطيع رشوتها كي تبتعد قليلا. إن الذاكرة تصرخ دوما في إذني الكاتب، مترصدة ذلك العماء العميم، والشروخ الحياتية المعتمة التي حولت الأمال إلى كومة من رماد. ولم تكن مصادفة أن يطلب الأمل شفاعة الألم بالإنقضاض على نفس حروفه الثلاثة في كتابات لافتة كثيرة لم تفهم للأسف في غالب الأحيان. بعض شخصيات تلك الكتابات نزلت إلى قاع الألم حافية القدمين مدماة القلب، لتتصل بأمل وهمي قلق مثل سراج يذوي نوره وسط كهف مظلم.

                                    4

  القارئ شريك فاعل في أي نص أو قصيدة أو رواية، ومن يزعم غير ذلك فأنه يعمل دون أن يعلم لوضع كتاباته في تابوت، تمهيدا لتجنيزها ودفنها إلى الأبد.

  هناك بطبيعة الحال أصناف من القراء، صنف أناني خامل لايفكر إلا من خلال الجدران الأربعة لغرفته المعرفية الضيقة التي وضع نفسه فيها، أي أنه يستقبل العمل الأدبي بشروطه هو، دون صبر أو مجهود معرفي إضافي للاقتراب من أفق المؤلف وجهده. فلا فرق عنده إن اجتمعت الفضائل والرذائل في سرير واحد. أما الصنف الثاني، فيأتي إلى الكتاب بأحساسيس متوازنة، جارا خلفه مكتبة فيها من الكتب والأفلام والموسيقى وربما المسرح، مما ينتمي لنفس سلالة المؤلف الجديد. الصنف الأول يطلب أكثر مما يعطي، ينتظر من الكاتب أن يكون نهرا ضحلا يستطيع أي جاهل السباحة فيه، دون أي مران أو دربة لخوض تجربة جديدة. أنه صنف متعب وغير نافع للطرفين. أما الصنف الثاني، فيأتي للقراءة ساعيا لاكتشاف ما يعيد هيكلة ذائقته القرائية، ونقله من مراهقة القراءة إلى نضجها التدريجي. ولست بغافل عن مشاق اكتشاف رؤية جديدة أو الاصطدام بها، فقبول أية فكرة جديدة يحتاج إلى وقت للنزاع معها داخليا وقبولها ربما لاحقا، لأن بعض القراء هم مثل زجاجات تم تعبئتها لسنوات طويلة بمعارف ومسلمات قديمة، لم تعد صالحة ليومنا هذا. لذا فأن القراءة المحايدة تقتضي التخلي أحيانا عن بعض المسلمات القديمة، التي يحاول المؤلف الجديد اثبات بطلانها وأفولها، رغم كل مدخرات العقل القديم لإيقافها على قدميها. مثل هذا القارئ سيصبح صديقا للكاتب، بصرف النظر عن عمره وتكوينه التعليمي، بل أن الكاتب سينتفع من ملاحظاته، لأنها ستكون مجسته للتحقق من كميات الجرعات النافعة لعمله القادم.

  فالقراءة هي ما يصلب المفاهيم النقدية كما أظن، هي التي تتيح بتراكمها التمييز بين العمران الإبداعي الراسخ وبين التسلي بصفع المجتمع والحياة. فالحديث الساذج عن طفرات وراثية دون الإلمام بما تتضمنه بعض النصوص القديمة من حداثة راسخة، أو الزعم مثلا بأن الشعراء أو الكتاب بالعربية هم بلا أباء، هو الوجه الآخر أو قفا لما يطلقه باعة الفتاوي الدينية بضروة العودة بمشية عسكرية إلى الماضي.

                                      5

  لا يمكن تصورالقصيدة أو السرد دون صور، أعني بالصور هنا ما يمكن أن يتحول إلى مشاهد سينمائية، فالسينما من وجهة نظري هي واحدة من أعظم منجزات العصر الحديث. ودون رواية تقترب من روح السينما أو أن تسعى لنسج السيناريو الأولي، فإنها ستكون مثل حركة مركب رامبو السكران في بحر اللغة. وفي عالمنا اليومي مئات الصور المفرحة والفاجعة: هشاشة الكائن اليوم، حيرة الناس اليومية، أسئلة المستقبل الجارحة، تفسخ قيم الأخوة والمساواة، انعدام أفق الرحمة المتزايد في العالم وفي بلداننا خصوصا. كل هذه الأشياء يمكن حفرها وتصويرها بمسحة روحية مشعة، ولا فرق هنا إن خرج المؤلف باستنتاجات متفائلة أو متشائمة، فلكل نهر إبداعي مجراه الخاص.

  الكاتب يضع رؤاه وتصوراته في كتاب، كمن يضع رسالة في قارورة ويرمي بها في البحر، منتظرا أن يلتقطها قارئ قرب ساحل لا يعرفه، كي تغمر قلب ذلك القارئ بالنور أو الحزن الفاعل. فليس بالضرورة أن تجذر الكتابة التي تصبح في زمن آخر ترياقا روحيا قدميها في أرض عصرها، بل أنها قد تحتاج إلى مئات السنين لتأخذ طريقها إلى خزائن بعض العقول كسبائك ذهبية، حسبها أبناء زمنها فضلات برونزية بلا قيمة. ألم يكن الأمر كذلك في تاريخنا مع التوحيدي الذي حرق كتبه بنفسه، ومع إبن المقفع الذي قتل، وغيرهما كثيرون ممن نسجوا ابداعهم من الحياة التي عرفوها، وليس من تلفيقات التاريخ.

                                    6

اختفى النقد المنهجي الذي ربانا أساتذتنا عليه، كنا نفكر عشرات المرات قبل أن نعرض عليهم ما كتبناه يومذاك. اليوم تسير الأمور بخفة غريبة، فأنت تقرأ عرضا لكتاب يصلح لأي كتاب آخر لو غيرت الأسم أو العنوان. كان الناقد المختص يومذاك يستخدم كل صنارات معارفه للقبض على سمكة النص، التي تراوغه بل تفلت من بين أصابعه الخبيرة. ولطالما قرأنا نقدا يتفوق على النص الأصلي بحفرياته العميقة. لم يبق عندنا إلا مراجعات صحفية ركيكة في الغالب. صارت هناك فتاوى وحدود لمن وضع عمامة النقد فوق رأسه، مشايخ لم يقرأ بعضهم ثلث العمل، ليقرر فساده أو ادخاله في جنان مملكته المباركة. لكن كل ذلك لا يمنع من وجود نقاد على قلتهم من طينة أخرى، يقطرون الحكم الجاد ولا يوزعوه إلا بالمثاقيل.    

                                     7

  ألاحظ في السنوات الأخيرة، وهذا رأي شخصي، أن بعض الشعراء والروائيين أحيانا، ممن لم يتسامحوا من قبل مع العبارات الشكلية، التي تضلل الكاتب قبل القارئ، صاروا يعتمدون مفارقات ملتبسة تقهر الجوهر الروحي للكتابة. بمعنى أنهم يحاولون أن يوقفوا كتاباتهم لا على قدمين راسختين بل على احتدام لغوي سرعان ما يطفئ وهج الحيرة الروحية في القصيدة خصوصا. ويبدو لي أن عجيج السوق الأدبي والمؤثرات الخارجية وتضعضع الرزانة في صحف كثيرة يهيمن علي صفحاتها الثقافية حداثيون فرضوا منظورهم الطائش بل الجاهل للحداثة الفعلية. لذلك أزعم بأن شوقي أو الجواهري أو السياب لن يستطيعوا اليوم نشر قصائدهم ذات البعد الوجودي، لو أرسلوها إلى تلك الصحف بأسماء أخرى، باعتبارها من قصائد العمود أو التفعيلة.

  لذلك أشعر أحيانا بأن العبث اللفظي صار شرطا للإنتماء إلى عالم القصيدة الجديدة، ولن تسعف شاعر العمود أو التفعيلة أو حتى شاعر قصيدة النثر المهموم بالإضطراب الكوني أو الداخلي، وكيانه أعجز ما يكون عن مواجهة غير عادلة بين خارج يملك كل وسائل التهديم وكائن أعزل لم يعد يملك إلا الذهول من حاضر لاينتسب إليه.

  جوهر الشعرواحد في آخر الأمر بصرف النظرعن الشكل التعبيري، إنه في نهاية المطاف الحيرة الروحية والرؤيا، والتأني، والغور في العمق، والتكثيف، والثقل الرمزي للكلمة، بعيدا عن الرتوش والتهافت والتبعثر وتوسل المصطلح بدل الرمز. فالرموز غزيرة لكنها عسيرة على من لم يدرك مقاصدها الكامنة، إنها سدى ولحمة الغموض الفني المطلوب في القصيدة وحتى في السرد.

مقالات من نفس القسم