إليف شافاق: لا أملك ترف الابتعاد عن السياسة

إليف شافاق: لا أملك ترف الابتعاد عن السياسة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
ترجمة: ضي رحمي من الممتع قراءة أحدث روايات الكاتبة إليف شافاق، الفتى المتيم والمعلم، فهي رسالة حب لمدينة إسطنبول وماضيها العثماني، أو ربما نوع من أنواع الاعتذار للمدينة التي غادرتها قبل أربع سنوات عندما انتقلت إلى لندن مع طفليها. والرواية، التي كتبتها شفق بالإنجليزية قبل أن تترجم إلى التركية، تتناول الفترة التاريخية الممتدة بين عاميّ 1546 وعام 1632، وتحكي قصة معماري السلطان ميمار سنان، من خلال عيون الصبي المتدرب وحارس الفيل، جنان، الذي فرّ من مدينة غوا الهندية وهو لم يتجاوز الثانية عشر من عمره، هربًا من زوج أمه الشرير. تستدعي الرواية مجد ووحشية السلطنة العثمانية في أوج تألقها، تحت حكم السلطان سليمان القانوني وخلفائه. لكن، اعتبارها مجرد عمل بسيط تحاول به شفق الاحتفاء بالمدينة التي عاشت فيها معظم سنوات عمرها، سوف يُعد خطأ فادح.  

تقول شافاق: “موضوع الرواية دقيق وحرج للغاية”. “فالسرد التاريخي في تركيا غير معني بحكايات البشر، وحتى الأفراد القليلين الذين ذُكروا كانوا جميعهم من السلاطين. لكن، كيف إذن كانت حياة من يسمون بالنساء والرجال العاديين خلال تلك القرون حين كانت تمر تركيا بهذه التغيرات؟ أنا مهتمة بالأقليات الجنسية والعرقية، كما أني مهتمة بالمسكوت عنه. كذلك لم تُذكر الحيوانات، ونادرًا ما جاء ذكر النساء. لدي دائمًا رغبة في استعادة القصص والمواضيع المنسية أو التي دُفع بها عن عمد إلى الظل.”

تشير شافاق في الرواية لمقدمات الكثير من الفظائع، وتوضح الصلة الوثيقة بين ازدهار الهندسة المعمارية والفتوحات العثمانية – حيث بُنيت أكثر المساجد فخامة بأموال البلاد المنهوبة. هذا إلى جانب قصة جنان وسنان والفيل شوتا والمتدرب يوسف، وهو في الأصل فتاة متنكرة في ملابس الرجال، كما تصنع الرواية من الغجري بلابان بطلًا. وتسلط الضوء على عادة قتل الأشقاء، فالسلاطين في سبيل اعتلائهم العرش كانوا يتخلصون من أشقائهم خنقًا. لاقت الرواية ترحيبًا كبيرًا في بريطانيا، ووصفها أحد القراء بأنها أفضل أعمال شافاق حتى الآن، بينما استقبلها القراء في تركيا بفتور.

ولدت شافاق في ستراسبورج عام 1971. حين وقعت والدتها في الحب، وتركت الجامعة من أجل الزواج حين كان والدها يدرس للحصول على درجة الدكتوراة في الفلسفة في فرنسا. سرعان ما فشلت العلاقة بينهما، وعادت الأم بالطفلة إلى أنقرة وبرغبة في الزواج مرة أخرى، وبسرعة، من رجل يكبرها في السن بكثير.

“تلك هي التقاليد، فهو مجتمع شديد الذكورية”. فالزواج السابق يهوي بالمرأة من على قمة سوق الزوجية. لقد هبطت أسهمها، وفقدت عذريتها، لكن يجب أن تتزوج حتى لا تشكل تهديدًا للأخريات. “لكن جدة شافاق من الأم تصر على أن تكمل ابنتها تعليمها الجامعي قبل أن ترتبط برجل آخر. وهكذا تصبح والدتها ديبلوماسية، وتقضي شافاق طفولتها وحيدة، أولًا مع جدتها، ثم حيثما تعمل والدتها في مدريد (حيث أصبحت الإسبانية لغتها الثانية) أو في الأردن أو ألمانيا.

تقول شافاق: “دائمًا، كان هناك جزء مني يشعر وكأنه الآخر، الغريب، المُشاهد.” “لي من والدي شقيقان انجبهما من زوجته الثانية، لكنني لم ألتق بهما حتى اواخر العشرينيات من عمري. كنت دائمًا على الهامش. وفي مدريد، كنت التلميذة التركية الوحيدة في مدرسة دولية تحوي مختلف الجنسيات، وهذا ما دفعني لبدء التفكير في مسألة الهوية. كل ما مر بي في حياتي أثر فيّ. لم يكن لي هدف في الحياة، ولا أي معنى من معان الديمومة أو الاستمرارية، واعتقد حقًا أن الكتب أنقذتني من الجنون.”

في جامعة الشرق الأوسط التقنية بأنقرة درست شافاق ، التي قررت التخلي عن اسم والدها حين كان عمرها 18 عامًا، واصرت أن تحمل اسم والدتها وهو شافاق (ومعناه الفجر)، العلاقات الدولية، كما كانت طالبة في أول دفعة تتناول دراسات المرأة في تركيا، وذلك قبل أن تحصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة. لكن، بالرغم من اعتزازها بدراستها متعددة التخصصات، إلا أن أولويتها كانت دائمًا للأدب. وكقارئة انتقائية في الفلسفة والدين والقصص بجميع أنواعها، كقارئة “شبه مدمنة” للروايات الروسية، تناولت أولى رواياتها قصة درويش مهرطق، واستخدمت فيها عن عمد مفردات لغوية غير مألوفة وقليلة الانتشار كشكل من أشكال الاحتجاج على عملية التتريك ومحو لغات الأقليات منذ عشرينيات القرن العشرين. وفي هذا الصدد تقول: “أصابت لغة الرواية القراء بالدهشة، لم يتوقعوا هذه المفردات اللغوية من إمرأة نسوية يسارية تبلغ من العمر 24 عامًا. لقد استبعدنا مئات الكلمات ذات الاصول العربية، أو الفارسية، رغم أن اللغة التركية وحدها ليست كافية، وأنا ضد هذا الانتقاء اللغوي بشدة.”

فيما بعد نشرت شافاق المزيد من الروايات، وازداد عدد قرائها، لكن الحياة كشخصة عامة في تركيا كانت خانقة، وهو ما لم تتحمله، فانتقلت إلى بوسطن للعمل في جامعة ماونت هوليوك، وفي عام 2004 نشرت أولى رواياتها باللغة الإنجليزية، رواية “قديس الحماقات الأولى”. ومن بوسطن رحلت إلى ميشيجان ثم أريزونا حيث عملت كباحثة بدوام كامل.

لكن الحياة الشخصية والمهنية أعادتها إلى تركيا مرة أخرى، حيث التقت بزوجها المستقبلي أيوب. وفي تركيا حوكمت بتهمة إهانة القومية التركية بعد نشرها لروايتها الأكثر مبيعًا “لقيطة اسطنبول” والتي تناولت الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915. تقول شافاق في هدوء: “لقد صُدمت”. “بالطبع، حين تقرر الكتابة عن الأرمن، تعلم أنه بالضرورة سيكون هناك رد فعل، لكن ليس على هذا النحو. ما حدث كان عنيفًا، لقد نظموا مظاهرات احتجاجية احرقوا فيها صوري وبصقوا عليها.”

استمر تداول القضية حوالي عام قبل أن تُرفض الاتهامات، تقول: “كنت محبطة ومنزعجة للغاية، لكنني لا أود أن تبدو الصورة قاتمة، لأنني في نفس الوقت حصلت على الكثير من الدعم والمساندة. لقد اختبرت مشاعر الحب والكراهية على حدٍ سواء، وككاتب في تركيا عليك أن تعتاد ذلك. فالشعب التركي شعب عاطفي جدًا، يتنقل بين الحب والكراهية بسهولة، لذلك تتعلم ألا تأخذه على محمل الجد. فالضجة دائمًا مؤقتة.”

انتهت المحاكمة في اليوم التالي لولادة طفلها الأول، وقد تسببت تلك المحاكمة في أزمة جديدة لشافاق تمثلت في اصابتها بإكتئاب ما بعد الولادة. وفي مذكراتها التي جاءت بعنوان “الحليب الأسود” ارجعت شافاق سبب تلك الأزمة  لصراع غير محسوم داخلها (وبالكاد تلمح لحقيقة أنها أثناء حملها كانت معرضة لقضاء حوالي ثلاث سنوات في السجن بسبب القضية). لم تخبرنا شفق بالكثير عن الشكل الذي كان عليه اكتئابها، لكنها تقول: ” كانت مرحلة مهمة جدًا في حياتي. كنت متأكدة في تلك الفترة أن كل ما احتاجه هو الورقة والقلم، وكان لدي مخيلتي، التي كانت حية ونشطة للغاية. وحين فقدت ارتباطي بالكلمات، اضطررت لإعادة التفكير في الكثير من الأمور، كما أعدت تشكيل نفسي. لم تكن الأمومة هي التحدي الوحيد الذي واجهته حينها، لقد عشت طيلة حياتي كرحالة، بإمكاني الذهاب حيثما رغبت. لقد كنت روحًا حرّة وفكرة أن اضطر للاستقرار في مكان واحد اصابتني بالهلع.”

حاليًا، تعيش شافاق وزوجها في مدن مختلفة –فهي في لندن، بينما هو باق في اسطنبول. لكنهم أسرة مترابطة يجتمعون سويًا مرتين كل شهر تقريبًا. اختارت شافاق لندن لأنها تحب اللغة الإنجليزية، ولأنها أقرب في المسافة لتركيا من الولايات المتحدة، ولأنها واحدة من عدد قليل من المدن ال “كوزموبوليتان” بحق في العالم. تقول شافاق: “أعلم أنه يبدو سببًا مبتذلًا، لكنني اعتبر تعدد الثقافات كنز. أنه ليس أمر معتادًا في كل مكان، حتى في المدن الأوروبية الكبرى المفترض أنها متعددة الثقافات لا يوجد تفاعل حقيقي. لذلك تتميز لندن في هذا الشأن، إلا أن الأمر ليس سهلًا كما يبدو، فالمجتمع لا يفتح أبوابه لك بسهولة، وقد تستغرق بعض الوقت للعثور على موطئ لقدميك، لكن الهدف يستحق كل العناء.” 

إن خبرة شافاق الشخصية، ومزجها بين تراث جدتها القديم وأمها أوروبية الطراز المتعلمة تعليمًا عاليًا، جعلتها تؤمن بإمكانية وجود قدر أكبر من التضامن بين النساء التركيات والمسلمات، كما أنها من المدافعات عن حقوق المثليين. “لو أنك كاتب تركي، أو باكستاني، نيجيري، أو مصري فأنت لا تملك ترف ألا تنشغل بالسياسة. لا يمكن أن تقول “هذه أمور سياسية، لا شأن لي بها”. فأنا، ككاتبة خرجت من تحت مظلة الحركة النسوية، لا أنظر للسياسية بوصفها أحزاب أو برلمانات فحسب. فالسياسة موجودة في المجال الخاص، كما توجد في العلاقات بين الجنسين. فأينما وجدت السُلطة، وجدت السياسة”.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 *نقلاً عن “سوزانا روستن” ـ الجارديان البريطانية ديسمبر 2014

 نُشر بجريدة أخبار الأدب المصرية يوليو 2015

مقالات من نفس القسم