أقنعة العبث

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عبد الدايم

الأول:

ورثته عن أمها، كان طيبًا جدًا، ساذجًا.. ارتدته لسنوات، كان كبيرًا عليها بعض الشيء.. الأذن اليمنى كانت تبرز فى الصباحات التى لا تتقن خلالها ارتداءه، تزيحه للوراء  محاولة ضبطه فى الموعد الأول للفتى الذى رأت فيه أحلام طفولتها.. لكنه سقط فى الموعد الثالث.. سقطت معه.. التقطته على مهل، وضعته فى حقيبة يدها، اختارت له مكانا جيدًا في قاع الحقيبة، تاركةً لفتاها مهمة كسر الحاجز الثاني.. ولنفسها صناعة القناع الثاني.

الثاني:

 كان جيدًا.. هكذا رأته بعدما حررت شعرها أمام مرآة غرفتها، تخلصت من ملابسها قطعة تلو الآخرى، استدارت مرة.. رأت في انعكاس صورتها هيئة جديدة، كانت امرأة، تأملت التفاصيل جيدًا، اقتنصت نظرة لنهديها، أعجبتها «الهزة» الخفيفة التي تفرد بها الأيسر، وتكدرت من النهد الأيمن بعدما وجدته أكبر من توأمه بميليمترات قليلة، لكنها ضحكت، في دورتها الثانية، رأت فتاها يراقب استدارات جسدها، لفتها نوبة خجل.. لحظتها، شعرت بالقناع الجديد ينغرس في خدها الأيمن.. تألمت.. غير أنها بعدما أعادت النظر إلى المرآة وجدت نفسها تمتلك جرحًا بارزًا.. فشرعت في صناعة قناع ثالث عملت عليه ليكون صالحًا لـ«إخفاء الجروح».

الثالث:

 صادمًا إلى حد ما كان.. بعدما منحته جزءا من قناع أمها، وأضافت إلى جوانبه لمسات خاصة بصاحبة القناع الثاني، مع مسحة روج «غامق» أضافتها إلى الشفاه، إطلالة منحتها وجهًا طيبًا لم يخلُ من شراسة، تراجعت قليلًا، أدركت أن الحياة تستحق جمالها، وشراستها في حاجة لمزيد من التهذيب، فرأت أن تصنع قناعا رابعا يصلح لما هو أتٍ.

الرابع:

كان جميلًا.. كل من رآها في اليوم الثاني أدرك أنها جميلة.. سائق الميكروباص تقبل «مخالفة الوقوف خطأ» بعدما رأى أنها الأحق بالجلوس جواره، فهى امرأة تصلح أن تشاهد «غرزه» المتقنة عبر الطريق المزدحم.. المراهق الذي تعمد الاحتكاك بـ«فخذها» في طابور الخبز الطويل على الدوام، على أمل أن تُعينه في أحلامه الليلية بعدما نضبت شهوة أحلامه التي كانت بطلتها الجارة الثلاثينية.. السيدة التي منحت نهدها الأيمن نظرة حقد، لأنه كان أكثر استدارة وثباتًا وصلابة من ثدي امرأة لم تغادر الأربعين بـ«كامل مشمشمها» كما قال محمود درويش، لكنها سحبت ورائها 4 أطفال، وزوج أدمن «الحبة الزرقاء» ليكمل «طلعته» الشهرية، يومها، أيقنت أنها في حاجة لقناع خامس، ينقذها من «الغرز» المتهورة، والصعود على جسد المراهق النائم، ويمنحها الرد المطلوب لنظرة «الأربعينية الحسود».. فكان.

الخامس:

أدركت أنها أتقنت صناعة الأقنعة.. دقائق وعانق وجهها القناع الجديد، قناع كان جيدًا في كل شيء، تعلمت بعدما ثبتته على وجهها، كيف يمكنها أن تحجز المقعد الأول وتمنح شرطي المرور الفرصة لإعطاء مخالفة مستحقة لـ«سائق الغرز» الطائشة، وأن تترك للفتى ذكرى جيدة لحلم ليلي سعيد، والمرأة الأربعينية نظرة تعيدها للتفكير في مائدة الغداء والزوج الكسول وأطفالها الجوعى.. غير أنها وسط مهامها الجديدة نسيت نفسها.. لتقرر أن تبحث عن قناع سادس.. علها تجد فيه والدتها.. فتاها الأول.. نظرة أبيها.. محبة المراهق.. ونزق السائق.. وعندما تأكدت أنها لم تأنس للمرأة الحسود، أخرجتها من حسابات القناع السادس.

السادس:

خرج رجوليًا.. رفضه الجميع إلا أنا.. الوحيد أدركت لعبة «أقنعة العبث»، أسقطته عنها في عامنا  الثاني سويًا.. فتحتُ حقيبة يدها السوداء، أمسكتُ قناعها الأول.. ذرات تراب خفيفة نفضها بـ«رقة»، فصنعتُ منه قناعًا يشبهها كما أراها، قصت على مسامعي سيرة الأقنعة.. أمها.. جسدها.. حدثتني عن كل الأشياء، وكانت لمعة القناع الأول حاضرة في المشهد.. العين.. دافئة.. الخد ناصعًا بلا خدش.. الشفاه وردية، انتبهت إلى كل الأشياء.. وفاتني أن أرى أنها أصبحت بلا قناع.

مقالات من نفس القسم