محمد سعيد درويش
أسدل الليل ستاره أخيرًا مُنذُ ساعات وبدت السماءِ تكسوها بُقع بيضاء يسمونها نجوماً. ساعتها كان يمشي بخطى بطيئة جِدًّا واضعًا كِلتا يديه في جيب سترتهُ ورأسه مُغطى تحت قُبعة كبيرة، ولحيته تُدفئ عُنقه.
كان يمشي تحتَ ضوءُ القمر وبعد قليل انحرفَ عِندَ مُنعطف يميني أخذه إلى حارة ضيقة، كان الظلام هو السائدُ، والليل كان أزرق، لكن ثِمة ضوء أصفر متوهج نوعًا ما ينبعث مِن صَدر غُرفة ضيقة بين بنياتين عملاقتين، تصل كُلّ مِنهمَا إلى سِتة طوابق أو سبعة تقريبًا. لفتَ مسمعهُ صوت لحن قديم، حاول أن يتذكر اسم الأغنية، شرد بضعة لحظات وأخذ يتذكر. فجأةٍ خرج رجل نحيف يرتدي ملابس عادية تمامًا رثة نوعًا ما، لكنها تتماشى مع هيئتهُ، ملامحه عادية لدرجة أنه يكاد أن يشبه أي أحد.
– “تشرب شاي؟”
سأله، بينما كان متسمرًا مكانه مِن الفزع، بلع لعابه ثُمَّ انفكت أسنانه وقال:
– “جئتُ على صوت اللحن، أتذكر هذه الأغنية لكن لا أتذكر اسمها، لكنني أحاول”.
– لا، لا انس ياحبيبي، تعرفُ أنَّ صاحبة الأغنية ميتة!، لكن أنا وأنتَ الآن نسمعُ صوتِها، إذن أنتَ ممكن تسمعُ صوت أي بني آدم ميت! أليس هكذا يبدو الأمر”.
هزّ رأسه غير مبال – “آه، ربما في حالة إذا كان هُناكَ تسجيل صوتي للمرحوم قبل وفاته”
ثُمَّ أضافَ كي يغير هذا الموضوع – “الجو برد، هل هُناكَ مدفأة؟”
– “طبعًا، في الداخل هُناكَ خشب، ممكن أن تشعله ونكمل حديثنا، أنتَ تعرف الليل جيدًا ياصاح كيف يبدو لرجال مثلنا – أنا وأنتَ -، تشرب شاي؟!”
هزّ رأسه رافضا، ودخل الحجرة ليكتشفَ نصبة وُضِعت في زاوية مِن زوايا الغُرفة
– “يبدو أنّ هذا مقهى”
– حقًا، تفضل اجلس على أي مقعد يعجبك.
ضحكَ ثُمَّ أضاف
– هُناكَ مقعد واحد فقط؟.
– آه أعرف، هذا لأنني لستُ بحاجة إلى مقعدين!، هل رأيت مِن قبل رّجلًا وحيدًا يجلس على مقعدين؟
– طبعًا لا!!
– إذن، تفضل أجلس واسترِح وأنا سأحضر لكَ شايًا فورًا
زعق فيه :
– يا أخي للمرة المئة أقول لكَ أنا لا أريد شايًا
سادَ بينهما صمــــت وأخذَ كُل واحد مِنهما ينظرَ إلى الآخر إلى أن صرخ الرّجل:
– يجب أن تشرب شاياً، ليس عِندي غيرهُ، ولا ينفع أبدًا أن تمشي دون أن تشرب شيئا الجو برد في الخارج، والشاي سيدفئكِ، أرجوك عليكَ أن تشرب شايًا، هُناكَ أشياء كثيرة ممكن أن تحدث إذا لما تشرب شايا، هُناكَ أشياء كثيرة جِدًّا أنتَ لا تعرفها، يجب أن…
قاطعهُ صاحبِنا وأنفكت أسنانه بلهجة عصبية
– طيب، طيب، سوف أشرب زِفت
مضى نحو الكرسي الوحيد في الزاوية، بينما الآخر راحَ ناحية النصبة وأخرج مِن جيبه عُلبة كبريت، أخرج ثقب حاول أن يشعله لكن العُلبة كانت مبللة، فشلت ثلاث محاولات لإشعال الكبريت، حتى التفَت إلى صاحبنا وصاحَ:
– “معكَ قداحة؟، الكبريت فاسد!”
هزّ رأسهُ وأخرج مِن جيب سترته قداحة وألقى بها إلى إياه، آخذها بيديه مِن الهواء ثُمَّ ضحكَ وأشعل البوتاغاز الصغير فورًا ووضع دّلة صغير على النار، ثُمَّ أخرج سيجارة مِن النوع الرديء وأشعلها.
كانت الأغنية قد انتهت، وبعدها، بدأت مسرحية كوميدية على محطة الإذاعة، شيء غريب جِدًّا حدثَ ساعتها، خلّفَ في قلبَ صاحبنا نوعًا مِن القلق! فجأة مشاعرهُ تأثرت بالخوف والتوتر. في المشهد الثاني مِن المسرحية، كان مشهد مُضحك جِدًّا وصاحبنا مستمع جيدًا، لكن فجأة سمع صوت ضحكَ بجانبه، بدا أن يحوم بكلتا عينيه في المقهى كلهُ، لكن لم ير أحدًا.
– ” مَن الذي ضحكَ، أنا لستُ مجنونا! هُناكَ إنسانًا ضحكَ، ليس إنسانًا واحدًا قط، كلا لا يمكن أن تكون خرافات!. هكذا حدّث نفسه.
كان مازالَ واقفًا عِندَ النصبة، يصُب الشاي في كأس، سأله صاحِبنا
– هل سمعتَ صوتا؟
– لا تقلق أنا أسمع هذه الأصوات كُلَّ ليلة، الليل غريب جِدًّا ـ توقع أن تسمع وترى أي شيء.
تقدم نحوهُ ووضع كوب الشاي على الطاولة ثُمَّ قالَ
– تفضل اشرب ولا تكترث لشيء كي لا تتعب، اسمع مني أنا أعرف جيدًا أكثر مِنك.
سادَ صمــت بينهم، لحظة مِن الصمت والهدوء والخوف أصابتهم، كسرَ حاجز الصمتُ كي يقتل الخوف
– تعرف أشك أنهم ميتون!
– مَن هُم
– الذين سمعتهم يضحكون!
– أنتَ مجنون يا أخي والله، لا أعرف ما الذي أتى بي إلى هُنا
– الصوت
– نعم!! أفهم؟!
– الصوت هو الذي أتى بكَ إلى هُنا، صوت الأغنية، الأغنية التي تغنيها امرأة ميتة، أنتَ المجنون، ولستُ أنا، تعرفُ يوم أن مات والدي، ظللتُ سِتة أشهر أسمعُ صوتهُ وهو يناديني كي يوقظني بعد العِشاء كي أصلي، كُنتُ أشعر بيديه وهي تستند على كتفي وهو ينزل مِن على السلم.
– أنتَ مجنون!، لا يمكن أن تسمع صوت ميت، هذه خرافة
– بصراحة لستُ أعرف، هل ستصدقني أم لا، لكن أنا ميت!
أصابه الرعب فورًا، ثُمَّ نهض مِن على الكرسي وراح يركض نحو الخارج، نهض وراءهُ وأمسك بذراعهُ وأدخله ثانيةٍ إلى حجرة المقهى
– صدقني يا أخي والله العظيم، أنا ميت! أرجوك اسمع حكايتي أنا مظلوم!
سكتَ صاحبِنا ثُمَّ أكمل حديثهُ، وبدأ يحكي حكايتهُ بينما كان صاحبِنا مُلقى في الزاوية على الكرسي، يشعر بالقلق، ويلتف حولهُ كُل ثانية وفي الخلفية كان صوت المسرحية يدور مصطحبًا بصوت الضِحك
– “تعرف، حدثَ هذا زمان، يوم ولادتي، لَم أُولد وحدي بل كان معي أخت، أي أن والدتي كانت تحملنا نحنُ الاثنين في بطن واحدة، ساعتها أصابت نشوة الفرح قلب والدي، وراح يستلف مِن هذا ومِن ذلك ليعزم الحي كله على مائدة كبيرة وحينها ماتت أختي التي ولدت معي وساعتها راح والدي إلى السجل المدني كي يُسجل شهادة وفاة لأختي وشهادة ميلاد ليَّ، لكن الموظف الذي كان هُناك نسي فسجل شهادة الميلاد باسم أختي وشهادة وفاة ليَّ، عرفنا ذلك بعد حين، حين ذهبت كي أسجل نفسي في المدرسة الإبتدائية، قالوا لوالديَّ، ابنكم ميت!!، قضيت عمري كله لا أستطيع أن أدخل أي مدرسة مِن تلك المدارس، كان الحي كله يصحو باكرًا ويذهب إلى المدرسة أما أنا فكنتُ أذهب بعيدًا إلى هُنا في هذه القهوة النتنة وأجلس مع والدي فيها”.
توقف عن الكلام مرة واحدة، بينما صاحبنا كان متعجبًا أو قلقًا بشأن طريقة كلامه، لقد كان يتكلم وبعد أن ينتهي مِن كل جملة يضم شفتيه إلى بعضهما بإصرار كالذي يشم شاربه وتتسع عيناه كأنه يريد أن ينهمر باكًيا، لكن بدا واضحا أنه كان مُتعباً لدرجة أنه غير قادر على البكاء.
قال صاحبنا:
– دعني أرحل مِن هُنا أرجوك، اقترب الشروق وأنا طريقي طويل
– لا لن ترحل قبل أن تسمعني، أخيرًا قابلت إنسانًا، إنسانًا واحدًا فقط، يسمعني!
راح يزرع القهوة جيئةٍ ورواحًا مراتٍ عدة حتى جلسَ مرةٍ واحدة في الصَدر أمامه وجلسَ في الرُكن، منكس الرأس، متكئا على الجِدار. وراح يتكلم وكأنه يحادث نفسهُ، بينما كان صاحبنا واقفًا لا يعرف ماذا عليه أن يفعل
– تعرف أنا بالنسبة للحكومة ميت، والدي لَم يهتم للأمر، لأنه كان رجلا بحسب أمي رأسه صغيرة، وأذنه صغيرة أيضًا، يعني لا يفهم ولا يسمع، لكنك تسمعُ صوتي الآن، وتسمع صوت كل الميتين، كُلنا أموات!
أخذ يصرخ ويكرر نفس العبارة. إلى أن ارتجفَ قلبُ صاحبنا وراح يركض بسرعة جِدًّا إلى الخارج، بأقصى سرعة لديه، كان ينظر خلفه، شكل المقهى كان مرعباً ومازال يسمع صوت الضحك وصدى الصوت يردد هِتاف الرّجل: أنا مظلوم.
15 يونيو 2019