د. عبدالهادي سعدون
التحديث في الشعر العربي المعاصر صفة ملاصقة للعراق. فالنتاج الشعري العربي وحركاته التجديدية بدأت منتصف القرن العشرين على يد شعراء ما سُمّي في حينه بمدرسة الشعر الحر وهم: السياب، الملائكة، والبياتي. وبتعاقب هذا الجيل إلى أجيال أخرى تالية كما عليه في جيلي الستينيات والسبعينيات، لم يخلُ من متابعة وتحديث شعريين لدى شعراء العراق، مما حدا بشاعر عربي مهم مثل نزار قباني إلى القول في إحدى المناسبات: “إنّ العراق هو مركز ثقل العالم الشعري العربي، ولولاه لحدث خلل أرضي ولخرج الشعر عن منظومته. العراق هو أب كل الاتجاهات الشعرية المعاصرة… وبكلمة واحدة، هو آدم الشعر، وكلنا أبنائه أو احفاده”.
العديد من الأجيال الشعرية في العراق مرّت بظروف صعبة مشابهة لظرف البلاد من الحروب والدكتاتورية مما جعل من الصعب الانتباه لأصواتها المتميزة ولم تحظَ بفرصة نقد حقيقي أو تسليط الضوء على مسارها وتشكليها وأساليبها الشعرية. كل هذا جعل من الشاعر صومعة فردية بحد ذاته مستكيناً لقدرته الفنية والعمل على تطويعها والاعتناء بها وتنميتها من ضمن الرقعة المتاحة لها.
لم يجد الشاعر بدّاً من بنية خاصة للرقي بمكنته الأدبية بعيداً عن الأضواء والنقد. هذه الظاهرة وغيرها تكرّست وامتدّت لتصبح غرضاً رئيسياً في النتاج الشعري والأدبي عموماً في بلاد لم تخرج من الحروب والدكتاتورية إلّا وهي جريحة وتنشد الخلاص عبر حلول أخرى غير مطروقة. من بينها الهرب والهجرة والمنفى بعيداً عن الخراب والموت والتسلّط.
مع ذلك فالشاعر العراقي لم يقطع الصلة تماماً مع الأرض الأم أو البذرة المكونة الأولى، بل اتخذت منحاً جماليا وموضوعياً جديداً في سياقه الشعري والفكري. هذه الظروف الحياتية جعلت من الشاعر على اطلاع مباشر من موقعه الجديد وفي أرض جديدة على نتاج ربما كائن غائباً عنه أو بعيد عنه. التلاقح من الخبرة الجديدة دون نسيان أثر البذرة الأولى، عمل على صياغة فنية وشعرية مستجدة في النتاج العراقي، وفتح أمامه مضامير وتجارب وخبرات أضافت له وساهمت بتشكيله ومعاينته من جديد. وضمن كل هذه التداعيات والظروف والخبرات تكمن تجربة شاعرنا العراقي أديب كمال الدين وتتداخل معها في تجاوب وتناسق تامّين.
أديب كمال الدين شاعر عراقي ينتمي لآخر الأجيال الشعرية التي أسست للشعرية العراقية الجديدة. ولد في بابل عام 1953 ويعيش اليوم بعيداً عن وطنه في أستراليا. عضو في اتحاديّ كتّاب العراق وأستراليا. يُضاف لكونه شاعراً، فهو مترجم مختصّ بالآداب الإنكليزية. أمّا شعره فقد حظي بمتابعة واهتمام نقدي كبير، يُضاف إلى ترجمته لعدة لغات حية كما عليه الإنكليزية والفرنسية والألمانية والأوردية والإيطالية والإسبانية. كما أُدْرِج اسمه في أنطولوجيات شعرية مهمة سواء في العراق أو في خارجه. ونشر حتى اليوم الكتب التالية باللغة العربية، ونذكر من بينها: تفاصيل 1976، ديوان عربي 1981، جيم 1989، نون 1993، النقطة 1999، ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة 2006، أربعون قصيدة عن الحرف 2009، الحرف والغراب 2013، إشارات الألف 2014، في مرآة الحرف 2016.
هو شاعر الحروف ومكتشف شعريتها الخفيّة. في أشعاره يسعى أديب كمال الدين في البحث عن الوسيلة الناجعة والوريثة الحق للتراث العربي، وهو بهذا يستطيع الخلق في مادة والتجديد في مادة أخرى ضمن الأشكال الشعرية المعروفة. وعليه يحاول في الوقت نفسه تشييد عالمه الخاص بهيئة شكل شعري قائم بذاته، مواز للاتجاهات الشعرية المعروفة، ومختلف عنها بصيغته ومواده المكونة. من خلال التمعن بموضوعته الخاصة، نراه يلجأ لخلقها بعمق بعيداً عن الصورة المأهولة مسبقاً. في نصوصه لم يحاول الشاعر جرّ الموضوعة وإجبارها ضمن الخيط الموصل لنظم الكلمات، بل سمح من خلال الغوص في تركيبتها في البحث عن قوتها وشفافيتها المخفية.
الشاعر أديب كمال الدين لا يسعى في قصائده إلى البحث عن الشخصية الفذة ومعادلها من أسطورة معروفة، بل عبر أبياته المتناثرة ضمن أكثر من خمس مجلدات شعرية يحاول التقاط ضوء قصائد ممّا يحيطه من شخوص وكائنات حية ومظاهر حياتية وتفاصيل يومية ليؤرشف لها ويمنحها ثقلها في النص المكتوب كأناشيد متآخية مع ما يحيطنا وينتمي لنا. بدلاً أن يبتكر أقنعة عن نفسه، يقوم الشاعر بتبني الوجوه والأصوات المتعايشة معه من أجل التعبير عنها ولها من خلال تاريخها الشخصي كما عليه التواريخ الشخصية الأخرى المرافقة ليمنح للعالم بُعداً ونظرةً بدرجة موازية من المشاعر والظروف الآنية، وهو بهذا يعلن للجميع عبر أشعاره بأن الشاعر كائن متواطئ مع عوالمه المتعددة دون شك.
لا أعتقد أن شعر أديب كمال الدين يمكن عده شعراً نقياً، بل في رأينا هو عبارة عن حقل من الانعكاسات المضيئة، حيث تتعايش الحروف مع التجربة الذاتية في مشروع أدبي لا ينفصل ولا يمكن فهمه مستقلاً. والحق ان هذا التوجه يمكن عده ميزة في شعرية الشاعر العراقي منذ أول ديوان منشور له عام 1976 حتى آخر كتاب له.
في ذاكرة جيل الشاعر أديب كمال الدين بقي أن نذكر كل ذلك الإرث الثقافي والديني المشكل للعملية الأدبية ومؤثراً أساسياً فيها. القراءات التراثية والقرآنية بشكل خاص حفرت بصمتها الواضحة في التكوين الشعري ليس عند أديب فحسب، بل عند أسماء أخرى معروفة في الجيل نفسه وأجيال أخرى تالية. لقد عثر الشاعر في هذه التوجهات تنوعاً من المصادر والإشارات والصور الفنية والمعرفية التي تخدم القصيدة الجديدة ومنحاها الشعري. ومن بين الخطوط المهمة لفهم العملية الشعرية لدى أديب كمال الدين وأجيال تالية هي تلك التي تتراوح ما بين مفردتي الوطن والمهجر. الخروج الكبير والهرب من الوطن ومن ثم إيجاد أرض جديدة ومحاولة الفهم والتأقلم والتجاوب، خلقت في الشاعر العراقي ردّ فعل يدخل في الشعرية أيضاً من خلال رفده بمواضيع وصور ولغة جديدة غير مألوفة.
إنّ الأجيال الشعرية تتأثر الواحدة بالأخرى، كما عليه الشعراء أنفسهم وإن حاول كل شاعر فينا إيجاد خلاصته وورقته المعنية ضمن حيز شاسع ومتنوع كما عليه الشعر والشعرية في بلد أسمه العراق لا يكل في البحث عن خلاصه وخلوده سواء عبر الكلمة أو الإشارة الموحية للحياة نفسها.
********************************
*دموع كلكامش وقصائد أخرى، شعر: أديب كمال الدين، ترجمة وتقديم: د. عبد الهادي سعدون وجوزيب غريغوري، دار لاستورا، مدريد، إسبانيا.
* مقدمة ديوان أديب كمال الدين (دموع كلكامش وقصائد أخرى باللغة الإسبانية