المعاطف الرمادية وتأثير الكاتب.. “سمير الفيل نموذجا”

المعاطف الرمادية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أيمن مصطفى الأسمر

سمير مصطفى الفيل كاتب مصري دؤوب، واسع النشاط، متنوع الاهتمامات، غزير الانتاج، أدركته حرفة الأدب في سن مبكرة، فكتب شعر العامية وحظى برعاية شاعر دمياط الشهير محمد النبوي سلامة، أحد مؤسسي حركة “الرواد” الأدبية، وتعرف على باقي المؤسسين, كامل الدابي ومصطفى الأسمر، فانضم إلى الحركة وزامل رموزها، محمد أبو العلا السلاموني، أنيس البياع، السيد النماس، د/ عيد صالح .. إلخ، وشكل مع أبناء جيله صوتا متمايزا داخل الرواد، نذكر منهم محمد علوش، محمد الزكي، مصطفى العايدي، محسن يونس .. إلخ، لكنهم ظلوا رغم هذا التمايز على ارتباطهم بالجماعة الأصلية، لفت بشعره انتباه عبد الرحمن الأبنودي، والتقى سيد حجاب وفؤاد حداد وصلاح جاهين وغيرهم من شعراء مصر البارزين، ثم انتقل – عمدا أو عفوا – إلى النقد والقصة والرواية وأدب الطفل وأدب الحرب، وتماس مع عالمي المسرح والإذاعة، وأصبح نجما من نجوم الندوات والأمسيات الأدبية، ومشاركا فاعلا في العديد من ورش العمل والمؤتمرات، إلى جانب القليل من العمل السياسي، ذلك كله إلى جانب عمله كمعلم بمدرسة الإمام محمد عبده بدمياط ثم موجها مسرحيا، سافر سمير الفيل لسنوات معدودة للعمل بالمملكة العربية السعودية فلم يشغله ذلك عن نشاطه وإنتاجه، بل أضاف إليه اشتغاله بالصحافة، وعندما عاد اهتم – إضافة إلى استكمال بناء مشروعه الأدبي الخاص – بتوثيق الحركة الثقافية والأدبية في محافظته “دمياط” والمساهمة في تكريم رموزها، وامتد اهتمامه هذا ليشمل مصر والعالم العربي، كما ساهم في مشروع جمع وتوثيق التراث الثقافي اللا مادي برعاية منظمة اليونسكو، وفاز بالعديد من الجوائز الرسمية والخاصة، وكرم من جهات مختلفة داخل مصر والعالم العربي، وكون شبكة واسعة من العلاقات داخل أوساط متباينة، وصار نموذجا يحتذى للشباب في محافظته.

قد تبدو مقدمة هذه القراءة لمجموعته القصصية “المعاطف الرمادية” الصادرة عن دار “غراب للنشر والتوزيع” 2021 طويلة بعض الشيء، لكنني أرى أنها ضرورية لفهم شخصية سمير الفيل وخصائص تجربته ثلاثية الأبعاد، فشخصيته  التوافقية المحبوبة، المجمعة لا المفرقة، ونشاطه المحمود داخل أي مجتمع يتواجد فيه، وقدرته على بناء وإدارة شبكة واسعة من العلاقات الإنسانية والاجتماعية تخدم  مشروعه الخاص، وتخدم – جزئيا – من يدورون عن قرب أو حتى عن بعد في دائرته الواسعة، فضلا عن نجاحه في التعامل مع شخصيات ذات ميول واتجاهات متباينة، وقدرته على احتوائها بنفس الدرجة تقريبا، كل ذلك جعل منه علما من أعلام الأدب والثقافة في العقود الأخيرة على مستوى مصر والعالم العربي.

تعالج أغلب قصص المجموعة موضوعا من مواضيع سمير الفيل الأثيرة هو العلاقة بين الرجل والمرأة، في مجتمع محلي اندمج فيه سمير الفيل منذ طفولته حتى النخاع، وهو مجتمع لا زال يجاهد للتخلص من سطوة الفقر والجهل والخرافة، ولشخصيات واقعية بسيطة عرفها شخصيا أو سمع عنها، وهي علاقة يصيبها التشوه بدرجة أو بأخرى.

فنجد الزوج العاجز عن الإنجاب، والمهموم نفسيا بسبب واقعة اعتداء مشينة تعرض لها في طفولته “رائحة العطر”، أو ذلك الذي لم يستطع التوافق  مع زوجته – رغم إنجابه منها – لاختلاف الطبائع والشخصيات “كائن مائي”، أو الشاعر الذي يفشل في بناء علاقة حب وزواج مع تلميذته – وربما حبيبته السابقة – التي فشلت بدورها في تجربة زواجها الوحيدة وجاءته ليعلمها بحور الشعر “رداؤها البرتقالي”.

ونجد أيضا الأخ الذي يتأرجح بين تدينه وتعلمه في الأزهر ورغبته المكبوتة نحو زوجة أخيه المسجون “الشبورة”، والزوجة التي لم تغفر لأخيها البحار اختياره عريسا لها من بين أصدقائه، فانتهى زواجهما بالفشل .. غير أنها نجحت في العثور على زوج جديد “الغليون المقوس”، أما من يوشك زواجه على الانهيار بسبب إدمانه الحشيش، فإن إصابته بالعمى إثر حادث سيارة تفتح له بابا لاستعادة زوجته وابنه “وجاءت خلسة”، ونتابع حكاية سعداوي الزوج الذي تعمل زوجته لوزة بأشغال الإبرة ويعيشان حياة اعتيادية مملة، ثم يكسر هذا الملل وهذه الزيجة ما شاع عن زياراتها المتكررة وغير المبررة لسمسار العقارات “هروب صغير”، أما علاقة العمل الغريبة التي تجمع بين فاروق الطبال العجوز ومفيدة الراقصة المتعلمة، التي تحافظ – رغم مهنتها – على شرفها وعفتها، تلك العلاقة التي تجمع المتناقضين .. النفور والألفة، فتنتهي بوفاته هو .. وفقدانها هي الحماس والشغف “أصابعه النحيلة”.

في قصة “أبو أسمهان” نتابع ما لحق بأحوال عائلته من تدهور نتيجة لفشله في زيجاته المتتالية، وفي قصة “السروح” نرى رمزية إشعال صباح زوجة الصياد لأعواد الثقاب الأجنبية واحدا تلو الآخر فيما يعجز زوجها عن ذلك، تلك الأعواد التي يُظن من السياق أنها تخص عشيقها المفترض .. ذلك الشاب العائد بالدولارات من أوروبا، وإذا كانت خيانة صباح أكثر وضوحا من براءتها، فإن كوكب التي سافر زوجها حسن لضيق الحال إلى دولة مجاورة تعصف بها حرب أهلية، ثم عاد ميتا في صندوق خشبي، تعاني من افتراءات صاحب البيت والجيران رغم براءتها “جيران كوكب”، في “القاطع والمقطوع” يُقتل سلطان أو ينتحر فوق قضبان قطار سريع، وهو الذي قُتل حيا بعد وفاة أبيه، وزواج أمه من مساعد أبيه الكهل ضعيف الشخصية، ولم ينقذه من مصيره القاتم حب جدته له، وثقة صاحب المقهى المعلم البهنساوي به.

خمس قصص تبدو مختلفة عن السياق العام للمجموعة، “السأم” حيث ترصد ذكريات رجل يبيع بيت عائلته القديم بسبب كوابيس تباغته كل ليلة، دون أن يكون هناك ضائقة مالية تدفعه إلى هذا البيع، لكن هجرة أولاده إلى كندا وصورة الجد والجدة وهما ينظران نحوه بوداعة لا تخص هذا الزمن أبدا، توحي بما أصاب الوطن والمجتمع من تغيرات لا راد لها.

بينما تسرد “المعاطف الرمادية” واقعة القبض على رجل يقلق الدوائر الرسمية، ويضع في عقل الشباب بذرة التمرد، لكن القصة تنتهي بوفاة المطلوب على سريره قبل وصول القوة بعشرين دقيقة.

وفي “تغيير مهنة” يلجأ مدرس الابتدائي إلى مزور محترف ليغير مهنته إلى سباك ليسافر للعمل بالخارج، فيموت المزور لكن بعد أن ينتهي من العمل المطلوب منه.

أما “عقد من الماس المغشوش”، و”الحالة 30 صمت”، فيحاول سمير الفيل أن يخرج عن النمط المألوف لكتاباته التي تميل إلى الواقعية إلى التجريب، والتماس مع عالم الأساطير، مع شيء من الفانتازيا والغرائبية، وتوظيف جائحة كورونا، إلا أن كتاباته الواقعية سواء في هذه المجموعة أو المجموعات السابقة تظل أقوى وأعمق تأثيرا.

دفعني لكتابة هذه القراءة السريعة لمجموعة “المعاطف الرمادية، أن هناك فئة من المبدعين يكون دورهم وتأثيرهم الشخصي أعمق وأكبر حجما من تأثير كتاباتهم، وسمير مصطفى الفيل من هؤلاء الكتاب، فقد نجح في أن يجعل من نفسه ملهما ونموذجا يحتذى، ومحركا ثقافيا مؤثرا لا يكل، كما أنه من هؤلاء الكتاب الذي يتمسكون بومضة الكتابة ولا يفرطون فيها خشية أن تفر فلا تعود مثلها أبدا.  

 

 

مقالات من نفس القسم