ناهد السيد
يؤنسنى وقع أقدام أبى على سلم مسكنى قبيل إفطار رمضان، بدفء ضحكته العذبة التى تمنحنا الأمل كعيدية لأعياد كثيرة مقبلة، تؤنسنى رائحة أرز أمى وحنكتها فى عيارها لكمية أرز أقل وأربع كبشات بالعدد من الشعرية، وطبخها البامية بشعرة سكر، لتكرر دوماً علينا مقولة واحدة لا تجيد إياها “ماحدش بيعمل البامية زيي أنا”. تقولها معلنة بكل جرأة حاجتها الملحة لتعقيب يرضى غرورها ويمنحها بعضاً من تقدير المجهود، تؤنسنى كحة أخى الأكبر وتحليلاته لمشاكلى الصغيرة التى جمعها لى فى أجندة حمراء تكتظ كلها بأحلام خرافية، تؤنسنى نكات شقيقيَّ، الأخوين تيمون وبومبه، كما أسميتهما على كبر، فكلما تذكرتهما انتشيت بهجة وتسرب الضحك من بين أصابعى وأوردتى، تؤنسنى نحنحة زوجى ليلا فى فناء بيتنا المشربة برائحة سجائره المنهكة من اللهث خلف الكلمات المسلسلة لكتابة مقال رأى أو كشف حقيقة غامضة، وربما يلقى بنصيحة تلتصق فى كعوب ذويه من المثقفين تحذرهم من الوقوع فى شرك إعلام مغتصب الحقوق.
يؤنسنى ادعاء أبنائى التعب والارهاق لكى أقضى عنهم حاجاتهم، فأرى فى أعينهم راحة إلقاء الهم على أكتاف من تتخذه سنداً لك. تمتعنى هذه المهمة كثيرا، رغم أننا على علم بمكر هذه اللحظة، وكل منا يحتاجها .. لا يدعونها كذبا ولا جذافا، فهم فى هذه اللحظة يلتمسون الود منى، يقرصون طرف أذنى بلباقة كى أستدير بوجهى إليهم.. يجهرون بحاجتهم إلى دفئى، فهم لا يجيدون المباشرة، يسلكون الطرق الواعرة وينتظرون منى أن استقبلهم فى منتصف الطريق… لذا أقول من واقع خبرتى لا تدعوا أبناءكم يكملون الطريق بمفردهم، حاولوا فك ألغازهم، وافتحوا قلوبكم لرسائلهم الغامضة والمغلقة بإحكام.. لا يكتئب طفل أو ناضج إلا بسبب بيته وأسرته، لا يتحول ابن لى مدمن إلا بسبب قسوه أبيه ورخاوة أمه، لا يلجأ أحدهم للانتحار إلا بفشلنا نحن فى تلمس طريقه وقراءة رسائله التى تسبق الانتحار والتى لم نعطها الاهتمام الكافى ولا الوقت لكى نتفهمها ونهتم بها، نأتنس بذوينا ونتذكرهم برائحة طعام وعطر الجسد ولمسه يد وكلمة طيبة تدوم فى آذاننا، لماذا إذن نبخل على أبنائنا بتلك المشاعر والأحاسيس.
لماذا لا نهتم بأن نترك لهم روائحنا ولمساتنا ودفئنا بدلا من ذكريات الصراخ والعقاب والتعصب وحتى العطاء المتزايد الذى يجعلهم فى رخاوة الزواحف خائفين منعزلين ملتصقين بحوائط الأهل متكئين على منصب آبائهم.. نحتاج إليهم أقوياء لكى يشتد عودهم بدوننا فلا تفرطوا فى المنع والعقاب ولا تبخلوا بالحنو واللطف، لكى يأتنسوا بكم كما نأتنس بمن نحب حتى فى غيابهم.