محمد فيض خالد
لم تدر “سيدة” أن أبواب السماء مشرعة للمساكين، وأن أيادي المحسنين مأمورة بتأدية نصيبها لنجدة أمثالها، مات “عبدالكريم” وترك لها قبضة من اللحم، وحياة مثقلة بالفقر، وتلك تركة المجهد، عاش زوجها أجيرا ؛ لقمته في ظل فأسه، وهكذا عاش أسلافه في هزال، قنعوا من دنياهم بشربة ماء، وكسرة خبز، وكومة من طين وقش تأويهم، وهذا منتهى أملهم.
ضنت الأيام على المسكينة بالفرحة كبقية النساء، ذات ظهيرة جيء به محمولا على أكتاف الرجال، ألقيت فأسه إلى جوار الفرن، طرح جسده المتخشب فوق حاشية مهلهلة، قال الناعي : “لدغه ثعبان، وهو يطهر إحدى القنوات في دائرة أسعد بيه”، بعد أيام رمت ركوبة “أحمد الجمال” الهزيلة، غرارة القمح أمام العتبة، انصرف الرجل يلوك حزنه، قائلا في تأس: “محمد أفندي الناظر بعتها للعيال، شدوا حيلكم”، لم يغب المشهد عن ذاكرة “صلاح” ابنها البكر، حضر تلك الظهيرة، وعاين تفاصيل المأساة، هو أكبر أخوته، لكن عوده لا يزال لينا، ليس بإمكانه ملء الفراغ، أن يحمل الفأس ويضرب لإطعام البطون الجائعة، تابع الصبي في كمد، وبداخله بركان تغلي حممه، فاضت في نفسه كأس الألم، صعد نظره في جسد والده المسجى في رقاعه، ازاح وجهه ليصطدم بعويل أمه المكلومة، وقد اطلقت السبيل لدموعها، ويوما بعد يوم تغوص وأبنائها في ضباب الإهمال، كبر “صلاح ” وفي عينيه سؤال مزمن، اكتفى بأن حبس توجعه في صدره، يجابه ماضيه الكالح، جهم الأسارير، لا تعرف الابتسامة طريقها لشفتيه، تغافل عن كل شيء، لكنه لم يغفل عن وجه الميت، وكسرة أمه تلملم صغارها مفجوعة.
يترك الدكان فجأة، يوصي صبيه : “دقائق وأعود”، يتسلل خلسة للبيت، يطرق صوت نهنهته مسامع “سيدة”، لتكسو وجهها سحابة كثيفة من الحزن، فوق عصاها تتحامل على نفسها، تقف إلى جواره خاشعة حتى ينتهي، يعود على فترات ودون ترتيب، ليفرغ أحزانه أمام صورة والده المعلقة فوق الجدار، يكفكف دموعه، ويرجع من حيث أتى.