أجيال ممتدة ومتداخلة

علاء خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علاء خالد
ربما لم يتبق شيء من جيل التسعينيات الشعري، سوى أصداء البحث عن الفردانية/ التجربة الشخصية، غير المسيسة، التي كانت تفرض نفسها على مناخ التسعينيات، وتجزيء المفهوم الشعري الصوفي المجرد، ببعديه العاطفي، والحكائي، إلى وحدات صغيرة.
فالحكاية، بمعناها الواسع، كانت جزءا من المشهد الشعري في التسعينيات، ومنها أستقر قالب السيرة الذاتية، سواء في الشعر أو في أنواع الكتابة الآخرى.
ربما تبقى أيضا، من هذا العقد، بقايا الصدام العشوائي مع التابو، وبعض خيوط العدمية التي سايرت رحلة هذه الذات.
***
من المهم أن لانتمسك بمفهوم “الجيل الشعري”، فالجيل الشعري في التسعينيات لم يكن مُمثلا بهذا الوضوح الكمي، لكن عبر أصوات فردية، اختصر فيها الجيل.
ربما مصطلح “الجيل”، بخصيصاته القديمة، لم يعد مناسبا. لذا هناك تحفظ على مصطلح “جيل التسعينيات الشعري”، فمنذ التسعينيات ومفهوم “الجيل” أصبح سائبا، لا صاحب ولامرجع نقدي أو اجتماعي يمنحه المصداقية. ربما كانت هناك حقبة / عقد التسعينيات، ولكن ليس هناك “جيل شعري” بالمعنى التأسيسي المكتمل، كجيل الستينيات مثلا، أو كالأجيال الأدبية التي تكونت عالميا إثر تحولات عميقة في مجتمعاتها وفي العالم، ضد السلطة، وشكل أنظمة الحكم، كجيل 68.
يمكن أن ننفتح ونقول “جيل كتابة”، باختلاف النوع، بالرغم من امتياز النوع الشعري في التسعينيات، في التعبير عن اللحظة..
وبالتالي رصد ماتبقى من جيل التسعينيات، لايمكن حصره، الآن على الآقل، على نوع أدبي محدد، كالشعر، ولكن على مستوى مناخ الكتابة بشكل عام، وتأكيد أشكال كتابية بعينها، ومايؤثر عليها من سياق أجتماعي متماس معها، ومتداخل بشدة مع أي فردانية.
***
“جيل التسعينيات الشعري”، مجازا، أنتج أفكارا وسط حاضر سائل شديد التغير والتناقض، واستعير هنا مصطلح باومان، حاضر مقيم ويعيد نفسه، لذا لم يشغل هذا الجيل زمن “المابعد”، ولم يشغل هذا الزمن أي جيل فكري / نوعي آخر، حتى الآن، بحكم ظهوره داخل هذا الظرف التاريخي العالمي شديد التحول، وغير المؤآت لأي تأسيس جماعي، أو ثبات لقيمة ما، غير الاستهلاك.
أصبح هذا الجيل دائما يشغل زمن “الماقبل”، أو أنه جاهز ليتم تجاوزه باستمرار، ليس لفضيلة أو للخصيصات النوعية للأجيال التي ستأتي بعده فقط، ولكن لاضطراب طبيعة اللحظة، وسيولة مكوناتها الفكرية والقيمية.
***
كان يمكن أن تكون ثورة يناير بداية لتكون أجيال جديدة متجاوزة، أو أجيال ” المابعد”، ولكن للأسف لم يحدث، ليس لعيب في هذه الأجيال، ولكن لطبيعة الزمن الذي يصنف ويمنح ويمنع، ولطبيعة الأهداف التي تحدد معيار القيمة داخل هذا الزمن.
فالأجيال الأدبية، مجازا، التي تلت جيل التسعينيات، أجيال متداخلة فيما بينها بلا سمات نوعية لأي منها- ولكن مع وجود تمايزات فيما بينها، وتجارب فردية لها خصوصيتها- ولايمكن تقسيمها إلى 3 أجيال، على سبيل المثال، وجاءت كرد فعل على ماحدث قبلها.
وللأسف لم تخلف ثورة يناير جيلا معبرا عنها لطبيعة تكوينها قصير الأجل، وللزمن المتغير الذي حدثت فيه، بجانب التكوين الطبقي الذي عبرت عنه. فلم تقدر هذه الأجيال على صنع زمن التجاوز أو ” المابعد”، وظلت حبيسة حاضر مقيم، هذا الحاضر الممتد منذ التسعينيات ربما.
وافترض أن لو هذا الزمن” المابعد”، تحقق في الواقع، عندها كان يمكن رصد تأثيرات الآجيال السابقة، مجيل التسعينات مثلا، نقديا، بوضوح الآن.
إننا جميعا، أجياال قديمة وحديثة، في الكتابة، وفي الحياة؛ جزء من هذا الجيل السائل، الممتد من التسعينيات، والذي يغطى حتى الآن أربعة عقود، حتى لو كانت هناك اختلافات نوعية، بين جيل وآخر، فلم تعد هذه الاختلافات تصنع تقلة جذرية.
***
ولكن يمكن رصد سمتين داخل هذا الجيل الممتد السائل، من التسعينيات وحتى الآن، متعدد الأعمار، والمزاجية، والطبقات، والنشاطات:
السمة الأولى، والتي توحي بأن الثقافة مهما كانت تعثراتها فداخلها صيرورة ما، تنشط أحيانا وتخبو أحيانا. ألحظ هناك في العديد من الكتاب الآن، إعادة أو صدى لفردانية/ سيرة نوعية، أو ظهور لقالب السيرة الذاتية الذي يعبر عن هذه الفردانية.
هذه الذات/ السيرة، ربما بدأت رحلتها في مصر منذ الأربعينيات. هذه الذات/ الرحلة مرت بمحطات وانقطاعات عدة، فعبرت على محطة الستينيات التي منحتها البعد السياسي والاجتماعي، والوجودي في آن، ثم خبت، ثم عبرت على محطة السبعينيات التي منحتها الحس الصوفي الكلي، بوصفه تجليا فرديا وليس جماعيا، ثم عبرت على محطة التسعينيات وأخذت منها بعض ملامح تشكلها، بالأخص قالب السيرة الاعترافية، التي تتسم بهذا الجوهر الشعري في التعبير عن نفسها، شعرا ونثرا. وأصبح هذا الجوهر الشعري حاضرا اليوم في العديد من الكتابات والقصص الصحفية، والتحقيقات الأدبية، التي تقع بين الأدب والصحافة، والتي تشكل ظاهرة بالنسبة لي.
السمة الثانية، ربما نرى أن صدى هذا الحضور لقالب السيرة كان له الأثر في كثافة تمثيل المرأة كتابيا الآن، كجسد وكمكانة، خاصة بعد ثورة يناير. ليس فقط كتابة المرأة كفعل تحرري، ولكن إضافة بعد جديد لهذه الكتابة من زاوية نظر نوعية: هذا الجيشان الحسي الذي لايخضع لنظرية، أو لعاطفة مؤدلجة، فالحضور الكثيف للمراة خلال العقود مابعد التسعينيات، والممتد منذ الأربعينيات، فتح المساحة لتعدد زوايا الرؤية لمفهوم المرأة، ولتحطيم أي نظرية واحدة يمكن أن تُجْمل المراة داخلها، بالرغم من وجود هذه النظرية، ولكن على ضفافها هناك بدايات جديدة.
***
لذا أجد من الصعب الآن، خلال العقود الآربعة الآخيرة، رصد تأثير جيل بعينه على الكتابة، ولكن محاولة رؤيته داخل سياق أكبر، وبالتالي محاولة تعقب أثار التحولات الدقيقة التي يتركها كل جيل خلفه، كدليل على حضوره ومروره على هذا المكان/ الفضاء الأدبي الكبير الذي يجمعنا. 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم