شجن الذكريات وبلاغة الرواية في “ألم خفيف كريشة طائر..” لعلاء خالد

شجن الذكريات وبلاغة الرواية في "ألم خفيف كريشة طائر.." لعلاء خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد المسعودي

هل يمكن اعتبار رواية "ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر" للشاعر والروائي المصري علاء خالد رواية تحكي سيرة عائلة؟ هل يمكن الاطمئنان إلى هذا التصنيف النقدي والتسليم به؟ ألا تتجاوز الرواية في أحداثها وتشابك حكايا شخصياتها الهم العائلي إلى ما هو أبعد من ذلك؟ ألا تحكي هذه الرواية عن أشجان ذكريات تتعدى حدود العائلة وحدود الإسكندرية وحدود مصر؟ أليست بلاغة هذه الرواية تتخطى الجاهز حكيا وفنا؟ ألا تعمل هذه البلاغة على تشكيل عوالم سردية جديدة؟

انطلاقا من هذه الأسئلة التي أوحت بها قراءتنا المتأنية للرواية سنعمل على تجلية بعض ما يرتبط ببلاغتها وتشكيل عوالمها المتخيلة انطلاقا من نسج خيوط جماليتها السردية على أساس شَجَن الذكريات وفتونها.

تُفتتح الرواية، فعلا، بحكاية الجد الكبير إبراهيم وصراعه مع أخيه مصطفى وهجره المدينة نحو الصحراء في رحلة طويلة، ثم عودته المفاجئة إلى بيت الأسرة. كما تمضي الرواية متتبعة مصائر زوجة إبراهيم وأبنائه وأحفاده من بعده. ولكن من يتأمل الرواية جيدا يلفي أن حكايات شخصيات أخرى لا علاقة لها بعائلة إبراهيم الجد أو أبنائه وأحفاده تحظى باهتمام لا بأس به من السارد/ الحفيد. وهكذا تحضر عوائل أخرى من الجيران أو من أصدقاء الراوي أو أصدقاء إخوانه لتشكل جزءا هاما من محكي الرواية وعوالمها السردية. وتعزف الرواية على نبرة الحنين وشجن الذكريات لتشد خيوط لعبتها السردية وتشكيل عوالمها الفنية. وقد انبنت هذه اللعبة على أساس بلاغة التداعي وتقنية العودة إلى الوراء (الفلاش باك)، إلى جانب الاسترسال في الحكي استنادا إلى نوع من الخطية الزمنية التي توحي بأن الرواية تقليدية الطابع تخضع للحبكة الموباسانية في السرد (بداية –وسط –نهاية)، غير أن القارئ يجد نفسه أمام حيوات وحكايات متواشجة لا يشدها سوى خيط القرب من عائلة الجد إبراهيم بكل أشكاله، قرابة وجيرة وصداقة ومصاهرة.. وما شابه ذلك، وأن الراوي واستنادا إلى حكايا أمه أو تجاربه ومعايشته لما حوله يسوق كل هذه الأحداث ويصور تلك الشخصيات في نسق سردي محكوم بالذكريات الجميلة والأيام الرائعة التي ولت، وباللحظات الآسية الحزينة وما تخلفه في الروح من ندوب. ولا يسترجع هذه الذكريات بحلوها ومرها سوى سارد مفتون بأشجان الذكريات وفتونها. ولذلك، فإن الرواية يضمخها حزن شفيف وحنين جارف ينبعثان من أردانها (سطورها)، ولا تنفك تنسج عوالمها إلا في ضوئهما.

يقول السارد في مشهد دال، وفي سرد مسترسل لا يني يرصد في دقة متناهية مصائر شخصيات الرواية:

“عند أي ذكر لخالي فطين تدمع عينا أمي وتمسك بها “العَبرة”، وهي أحد زهور هذا الشجن القديم. في تلك اللحظة تصل الدموع إلى طرف حلقها، “مالك؟”، “العبرة ماسكاني”، تجيب. كانت أمي مدينة بدموعها لكثيرين. تحمل خالي فطين مسؤولية البيت بعد وفاة الأب، كل مشاريعه الشخصية لم تكتمل، فلم يجد سوى مشروع التضحية لينجح فيه. سافر في بداية الثلاثينيات، وهو في نهاية العقد الثالث من عمره، قبل وفاة الأب، لاستكمال دراسة الهندسة في إنجلترا، ولكنه عاد قبل الحصول على الشهادة. بوفاة الأب التحق بالعمل في البلدية، فما زال أمامه مشوار طويل زواج أخواته الأربع. الأخ الثاني خالي وحيد كان سعيد الحظ، فلم ينل أي قدر من التضحية التي قام بها أخوه، تخطته التضحية، لا لشيء سوى أن ترتيبه جاء الثاني في جدول الذكور. أكمل خالي وحيد دراسته في الليسيه فرانسيه، وخرج لسوق العمل بشهادة البكالوريا الفرنسية، مكنته من الحصول على عمل في إحدى الشركات المملوكة لأجانب. تزوج وانفصل تماما عن الأسرة، وترك أخاه بمفرده في مواجهة سنوات صعبة.

مات خالي فطين بعد سنتين من ميلادي، ولم يتجاوز الستين من عمره. كل اللواتي تقدم إليهن كن يهربن أمام حجم المسؤولية التي تنتظره. أغلب الرجال في عائلة أمي لم يتجاوزوا سن الموت هذا، جدي وخالي فطين وخالي وحيد، مقارنة بأعمار النساء التي تجاوزت الثمانين. جدتي رئيفة تجاوزت التسعين، وكذلك خالات وأخوال أمي، كانت أعمارهم تتحرك داخل مقياس واسع للموت، فالخالة الصغيرة عائشة ضربت رقما قياسيا لأعمار النساء في العائلة، فقد وصلت للخامسة والتسعين. خالتي “افتخار” هي الوحيدة من نساء العائلة التي شذت عن قاعدة الأعمار هذه، فقد ماتت بسرطان الأحشاء وهي في سن الثالثة والخمسين.

كل يوم كان خالي فطين يمر في الصباح على أمي، بعد انتقالنا للعيش في الفيللا في الطابق الأرضي، ليسألها السؤال الذي سيمتلئ بالحنين للأخ: “عايزة حاجة من بره يا أختي”، “شكرا يا أبيه.. سلامتك”. لكنه لا ينسى في طريق عودته أن يحمل لها شيئا في يده، خبزا، فاكهة، أو كيس السوداني المملح، والذي كانت تحبه أمي حبا طفوليا حتى آخر أيامها، لا تصبر على تقشيره، وتلتهمه بذلك الغشاء الهش الذي يغطي حبات الفول السوداني..” (ص. 86-87)

هكذا يمتد هذا المقطع السردي في حكيه عن الشجن والحنين. ينطلق من استرجاع لحظة الذكرى كما تتمثلها الأم الدامعة، وهي تتذكر أخاها فطين، ويمعن السرد -في سياق تعميق هذا الإحساس بالشجن- في الحديث عن الموت والحدود القصوى والدنيا من الأعمار التي عاشها أخوال وخالات السارد والجد والجدة. وفي انعطافة سردية دالة يعود إلى الخال فطين وعلاقته بالأم، مستعيدا خيط الحكي، مصورا سلوكيات هذا الخال وما تميز به من قدرة على التضحية والحنو. ويركز السارد على استرجاع التفاصيل والأقوال التي كانت بواعث للحنين وإثارة الشجن في نفس الأم. هكذا يشد السارد خيوط مشاهده السردية ومقاطع فصوله بين حدين: الشجن والحنين. ومن خلال هذه اللعبة الكتابية يتمكن من خلق نوع من التوتر السردي والتشويق الفني اللذين يمتعان القارئ ويحفزانه على المضي في القراءة حتى النهاية. وبهذه الشاكلة تصنع الرواية بلاغتها السردية موظفة تقنيات فنية متنوعة في تصوير مصائر عائلة الجد إبراهيم، والشخصيات التي عايشتها وارتبطت بها.

  

ولا تكتفي الرواية بتصوير ما يتعلق بعائلة الجد إبراهيم ومن ارتبط بها من شخصيات روائية، وإنما تمتد لتحكي عن مدينة الإسكندرية في أزمنتها المختلفة والممتدة من بداية القرن العشرين وحتى بداية الألفية الثالثة، كما تنقل أحداثا أخرى تتجاوز حدود مدينة الإسكندرية ومصر في سياق لعبة سردية تنفتح على التاريخي وتستثمره في إشارات فنية دالة لتجسد تحولات الحياة وتبدلات مصائر الشخصيات الروائية، وهو التحول الذي كان مبعثا للأسى ودافعا لاسترجاع الذكريات الجميلة على الرغم مما تثيره من شجن في النفوس، وخاصة بالنسبة إلى السارد. وغالبا ما ترد هذه الوقائع والأحداث في سياق الحديث عن العائلة ومن ارتبط بها من شخصيات مصرية أو أجنبية، كما نرى في المسرد الآتي:

“مارياالخياطةالإيطالية،صديقةالعائلة،أجرتالڤيلاالخشبيةالتيتقععنيسارالحديقة،بالقربمنالبابالحديدي. عاشتفيها معابنهاوابنتها،وتركتهاعندمااقتربتالجيوشالألمانيةمنصحراء العلمين،وبدأتالغاراتتتوالىعلىسماءالإسكندرية.أثناءالحرب العالميةالثانيةسافرتعائلةأميبكاملهاإلىمدينةدمنهور.قررت مارياالعودةإلىبلدها،وتمفكالڤيلَّاالخشبيةبعدسقوطإحدىالقنابلبالقربمنالبيت،فخافتجدتيأنتطيرإحدىالشرارات وتحرقالڤيلاّ. تحولتالأساساتالأسمنتيةللثلاث “أود”لهذهالڤيلّاَ  الخشبيةإلىثلاثةأحواضللزرع،بكلمنهاشجرةليمون. ثلاثأشجارليمونمنحتبيتنارائحتهالمميزةوسطبيوت الشارع.” (ص. 37-38)

يحكي السارد، في هذا المقطع، عن تحولات المدينة، وما عاشته خلال الحرب العالمية الثانية عن طريق تركيزه على ما عاشته عائلته وبعض أصدقائها وجيرانها، وما عرفته البيوت والشوارع والمعالم العمرانية والبنايات من تغيرات. وهكذا يجد المتلقي نفسه أمام صور متعددة للاندحار والفوضى التي عمت المدينة على غرار جل المدن العربية التي تراجعت فيها مظاهر الحضارة لتسيطر عليها ظواهر الازدحام والوساخة والأبنية المتراصة البشعة المظهر، وهي مظاهر نجمت عن سفر الأجانب وزحف البداوة وثقافتها على جل المدن العريقة، مثل الإسكندرية. وقد ركز السارد على رصد هذه التحولات نحو البداوة وتراجع تجليات الحضارة في سياق سردي شفيف وحزين، وكان إمعانه في التقاط بعض الإشارات الحضارية والإنسانية الرفيعة إشارات رمزية دالة، كما نرى في المقطع الذي نتعامل معه. إن تحول الأساسات الإسمنية للحجرات الثلاث المكونة للفيلا الخشبية المهجورة إلى أحواض لأشجار الليمون يشي بالارتباط بالحياة في زمن الحرب، من جهة، ويومئ، من جهة أخرى، إلى الانتصار إلى الطبيعة ومحبتها أمام زحف الموت وآلياته. ولعل في قرار الجدة فك الفيلا الخشبية –الملحقة بالفيلا الأصل- وتحويل أساسات المكان إلى أماكن لزرع الأشجار حكمة وبعدا حضاريا جليا، ولم ينس السارد تأكيد أن هذه الأشجار الثلاثة منحت الفيلا –فيما بعد- رائحة مميزة وسط بيوت الشارع، كما أن هذا المشهد، ووصف الفيلا يطلعنا على الطابع العمراني المميز لبنايات الإسكندرية قبل زحف العمارات وانتشارها، وما حملته من قيم وظواهر دخيلة على المدينة.

انطلاقا من وقوفنا على هذه الجوانب الدالة في الرواية يمكن تأكيد ما أشرنا إليه في بداية هذه القراءة، وهو أن اشتغال الرواية بمتخيل العائلة لا يجعلها بالضرورة رواية تكتفي بهذا الجانب، وإنما يجعل عوالمها السردية غنية منفتحة على شخصيات أخرى عديدة رئيسة وعابرة، ممن عرفتها أفراد العائلة، وربطت بينها أواصر مختلفة: الجيرة، والصداقة، والمصاهرة، والعمل، والدراسة. كما أن العناية بوصف الأماكن: بيوتا وشوارع ودور سينما ومحلات تجارية.. وغيرها يجعل مجال حركة الرواية متسعا متنوعا، وفي هذا الاتساع والتنوع يهتم السارد برصد التحولات التي طالت كل شيء في أفق تصوير شجي، وعبر بلاغة روائية تتقصى ذرات الحنين وأثرها المتغلغلة في نفسه الحزينة التي تبكي ما ضاع وتستعيده سرديا بغاية الشفاء: شفاء الراوي، كما يقول الراوي نفسه في فصل من فصول الرواية. وشفاء المتلقي: كل متلق يحن إلى ما ضاع من حيوات وأماكن بهية تحولت بفعل الزمن وأثر الإنسان، وبقي السرد، وحده، يخلدها ببلاغته الشجية، وعوالمه التي تثير الحنين إلى ما انقضى..    

 

عودة إلى الملف

        

مقالات من نفس القسم