أحمد عبد الرحيم
قد تكون هذه الصورة من أكثر الصور إثارة للحزن. إنها لأبطال مسلسل السيتكوم الأمريكى”Diff’rent Strokes”، والمقصود “اتجاهات مختلفة”، الذى استمر من 1978 إلى 1986، ودار حول ثرى أبيض اللون يعيش مع ابنته المراهقة، ويتبنى طفلين سود البشرة من حى فقير؛ وتنشأ المفارقات من الإختلافات الثقافية والإجتماعية بين الجميع.
حقق المسلسل شعبية كبيرة، وناقش قضايا مهمة، بل ظهرت نانسى ريجان، زوجة الرئيس الأمريكى – وقتها – رونالد ريجان، فى إحدى الحلقات. ونال أبطاله شهرة محلية وعالمية، وأموالًا بلا حصر. باختصار، نجح المسلسل، ودام 8 مواسم، لكن هل نجح أبطاله فى حياتهم، أو داموا فيها؟!

فى المنتصف، جارى كولمان، الطفل المعجزة، ونجم المسلسل الحقيقى. كولمان كان مصابًا بمرض ما يؤخره عن النمو بشكل طبيعى، لهذا ظل يؤدى شخصية الطفل لأطول من اللازم، لدرجة أنه حين انتهاء المسلسل كان فى الثامنة عشرة من عمره، لكن يظهر للكل كأنه لم يتجاوز الحادية عشرة. أضف إلى ذلك معاناته من كلية فاسدة، استبدلها بكلية صناعية بقيت تؤذيه طوال عمره.


بريدجز هو الأفضل حظًا فى هذه المجموعة البائسة، فقد تعالج من الإدمان فى بداية التسعينيات، ويحاضر حاليًا عن الإدمان فى عدد من المحافل، كما يظهر أحيانًا فى بعض الأعمال التلفزيونية.
هل أردت أن أصيبكم بالحسرة على هؤلاء الممثلين الثلاثة من باب “تقطيع القلب” المجانى؟ لا أظن. لكنى رأيت فى قصصهم أكثر من مشكلة متكررة، وقضية حساسة.
أولًا، عمل الطفل، فى الفن أو غيره، يمكنه أن يقضى على طفولته، لأنه لا يجد وقتًا ليكون ذلك الطفل الذى يلعب ويلهو ويستمتع بسنه، إنه – هنا مثلًا – كان مُطالَبًا بحفظ مشاهد، وأداء حلقات، والسفر بين أكثر من مكان، ناهيكم عن مسئوليات الظهور الإعلامى، للدعاية وغيرها، متحوِّلًا إلى نجم تحاصره الأضواء، بل تخنقه. هذا – على أية إيجابيات فيه – سيخلق منه كائنًا مشوّهًا، ووفق سنه سيكون أقل نضجًا فى التعامل مع الظروف المختلة المحيطة به، ولن يجد التوازن المفقود بين عمله وحياته، فنحن بصدد شخصية لم تتكوّن بعد، حتى تتوافر فيها عوامل العقلانية والحكمة.
ثانيًا، غياب معالجة الانحراف، وإرتباطه بغياب عنصر الأسرة عن الشخصيات الثلاث؛ سواء أسرة الدم، أو أسرة العمل. حيث يظهر جليًا أنهم عاشوا مع أسر لم تستطع احتواء مشاكلهم، بل تسببت فى إشعالها. فإلى جانب صراع كولمان مع والديه، ومشاكل بريدجز فى بيته، فسّرت بلاتو إنجابها فى سن صغير بـ”لم أرد أن أكون وحيدة”؛ حيث عانت منذ طفولتها من والدين مطلقين. وحسبما فهمت من حوارات تلفزيونية مع أبطال المسلسل، أرادت شركة الإنتاج أن تستهلكهم فقط، لدرجة وصف الإبتعاد عنهم فى إجازة مثل “عملية تخلُّص الجسم من السموم”!، وأكبر دليل على ذلك أن المنتجين استغلوا كولمان كالدجاجة التى تبيض ذهبًا؛ فهو الطفل الذى لا يكبر، وبالتالى كم من سنوات سيتم استثماره فيها، أيًا كانت مآسايه. إن شكله المعتل هذا ضمن لهم أجزاءًا متصلة من المسلسل عرضته كالطفل المرح الذى تحبه أمريكا، بينما كان فى الواقع شابًا مريضًا، فى أمس الحاجة للعلاج الجسدى والنفسى!
ثالثًا، مسألة الاستهلاك. بكل أسى أخبركم أن هذه هى قيمة عالمنا الكبرى، وعذابنا الأعظم فى الوقت نفسه. العالم الآن لا يلقننا إلا ثقافة الاستهلاك؛ فى الأكل، فى التسلية، فى العلاقات الإنسانية العادية؛ التى تحولّت إلى وسيلة نفعية، وليست رباطًا عاطفيًا.. إلخ. المادة هى رقم واحد، وغالبًا لا توجد أرقام تالية. الأهمية لأمور دنيوية، ولا وجود لأى قيمة روحية. وحينما تسيطر القيم المادية، وتغيب القيم الروحية، لا يصبح لديك إلا الاستهلاك طريقًا وهدفًا. لا علاقة مع رب تمدك بشئ من القوة، ولا دعم دينى يوفِّر لك بعضًا من الإتزان. من الواضح غياب الواعز الروحى لدى النجوم الثلاثة، ليلقوا بأنفسهم فى حضيض الإدمان، والعنف، كالحل الوحيد المطروح لمن يشعر بالألم. الاستهلاك هو القيمة التى لم يجدوا غيرها أمامهم؛ فالشركة استهلكت طفولتهم لتحقيق الأرباح، ثم استهلكوا هم ثرواتهم وبقية أعمارهم فى اللاشئ، وتكرر السوبر ماركت فى قصة بلاتو (حين قامت بسرقته)، وفى قصة كولمان (حين عمل فيه)، ليس بصدفة؛ إنه عالم السوبر ماركت الذى يُباع ويُشترى فيه كل شئ، ويخلو من الروح تمامًا.
أتمنى أن يظهر فيلم عن النجوم الثلاثة التى انطفأت قبل الآوان، لكن ليس لاستعراض مأساتهم، بقدر تحليل أسبابها؛ لعل هذا يساهم فى إنقاذ نفوس أخرى مبكرًا، ويطيل عمر الابتسامات على وجوه أصحابها.. عكس ما حدث لأبطال الصورة المعروضة.








