روبرت دي نيرو: لست أسطورة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
إبراهيم الملا وديع مثل الرهبان ويحمل ابتسامة طفل، ولكنه وفي لحظة مفارقة ومتبدلة يمكن أن يتحول إلى شخص هائج وعصبي لا يمكن التنبؤ بردات فعله العنيفة".. قد يكون هذا الملمح أو النمط الأدائي المرتبط بذاكرة المشاهدة السينمائية هو أحد الأسباب والسمات التي جعلت روبرت دي نيرو حاضرا على الدوام بسحره المخادع، وبغرابة أطواره وجنونه الناعم أيضا، وهو نمط فريد وأخاذ استطاع دي نيرو من خلاله أن يستحوذ على حواس المتفرج، وأن يكون واحدا من أعظم الممثلين الأحياء في الزمن المعاصر والذين ارتبط أسمهم بأفلام مدوخة وصادمة طبعت فترة السبعينات والثمانينات وحتى أواسط التسعينيات من القرن الماضي.

تحضر صورة دي نيرو فتحضر وتتوارد معه أدواره المركبة وشخصياته اللاهبة في أفلام مثل “الثور الهائج” و”سائق التاكسي” والجزء الثاني من فيلم الأب الروحي وصائد الغزلان” و”ذروة الخوف” وغيرها من الأعمال الاستثنائية في تاريخ السينما الحديثة، فهذه الأدوار ما زال لها وقع ورنين حتى اليوم، وما زالت موضع إجلال وانبهار من النقاد والجمهور، وموضع دراسة وتقييم ومراجعة في معاهد التمثيل السينمائي حول العالم.

تعود صورة دي نيرو هذه الأيام إلى عشاقه ومتابعيه بعد اختياره رئيسا للجنة تحكيم أفلام المسابقة الرسمية في الدورة السابعة والستين لمهرجان كان السينمائي العتيد والذي اختتم قبل أسابيع من الآن، رغم أن دي نيرو كان قد أعلن منذ سنوات بعيدة أنه لن يزور فرنسا أبدا عل خلفية التحقيق معه لمدة تسع ساعات متواصلة في أحد مراكز الشرطة الفرنسية أثناء مشاركته في فيلم “رونين” مع الممثل الفرنسي الشهير جان رينو في العام 1998، ويعود سبب التهمة إلى اشتباه في تورطه مع إحدى شبكات الدعارة، رغم أن السلطات القضائية هناك نفت بعد التصريحات الغاضبة لدي نيرو وجود أي اتهام ضده، وأنه كان مجرد “شاهد محتمل” خضع لتحقيق يعتبر بمثابة إجراء روتيني في هكذا قضايا.

ويبدو أن اختيار دي نيرو في حدث سينمائي بحجم وقيمة مهرجان “كان” قد أعاد له شيئا من البريق أو اللمعان السينمائي الذي فقده خلال السنوات الماضية بعد مشاركته في أفلام متواضعة فنيا رغم مردودها التجاري المقبول، لسبب قد يعود إلى طابعها الكوميدي أو ميلها أحيانا للجانب الفانتازي المعتمد على المؤثرات البصرية المتطورة، والتي شاعت بعد الحمى التكنولوجية التي بثها فيلم “أفاتار” في صالات العرض العامة، ونذكر من أفلام دي نيرو الأخيرة “ستاردست” و”آرثر والرجال اللامرئيين” و”قابل آل فوكرز” مع جزئه الثاني بعنوان “قابل الوالدين” وغيرها من المحطات الأدائية الهزيلة التي أثارت غضب محبيه، خصوصا الجيل الذي ما زال يحتفظ في ذاكرته بصورة زاهية للأداء الجامح والخارق الذي قدمه في أفلامه المبكرة.

وسبق لدي نيرو في عدة لقاءات صحفية ومناسبات عامة الإجابة عن هذا السؤال المقلق لعشاقه حول خفوت أدائه في أفلامه الأخيرة، مشيرا إلى أن الممثل لا يمكن أن يقدم أدوارا لافتة وقوية في كل الأفلام، كما يشير إلى أن “عامل الخوف” لدى الممثل هو الذي يدفعه لخوض مغامرات غير محسوبة النتائج، فهناك الخوف من نسيان الجمهور له، وهناك أيضا الخوف من ضعف اللياقة الأدائية عند التوقف لسنوات طويلة، والخوف من ضياع الفرصة التي يمكن أن تصنع فرصا أخرى أفضل، وهكذا، ولدي نيرو مقولة شهيره وهي: “لم أندم على أي دور قمت به، لأنني كنت أملك حينها أسبابا مقنعة في اختياري لها”، ويقول أيضا: “لست أسطورة في التمثيل السينمائي، إنني ببساطة أنتقي الأدوار التي أحبها، واعمل جاهدا على الإتقان في عملي وتقمص الشخصية التي أنقلها من الورق وأترجمها على الشاشة”.

لم يكتف دي نيرو المولود في مدينة إيطاليا الصغيرة بمنهاتن (نيويورك) في العام 1943 بالتمثيل فقط، فهو مخرج أيضا ومنتج وأحد مؤسسي مهرجان ترايبيكا السينمائي في نيويورك عام 2002 والذي أقيم خصيصا لدعم مدينة نيويورك فنيا ومعنويا وسياحيا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، فهذه المدينة الأثيرة والطاغية على ذاكرته الشخصية كانت هي أرض ومنبع موهبته وسببا لدفعه نحو نجومية وشهرة يحسدها عليه مجايلوه من الممثلين الذين لم يستطيعوا مجاراة قدراته المبهرة التي لا تتكرر.

أخرج دي نيرو فيلمين حتى الآن هما: “حكاية من برونكس” العام 1993 و”الراعي الطيب” العام 2006، الفيلم الأول يتحدث عن الطفولة المضطربة لزعيم عصابة ينتمي للمافيا الإيطالية في أميركا، ويسرد الفيلم السيرة الذاتية لمؤلف الفيلم الممثل (شاز بلمنتيري) الذي يقوم بدور زعيم إحدى العصابات في حي برونكس بنيويورك والذي يعجب بشجاعة أحد الصبية وبقوة شخصيته وإخلاصه، فيشجعه على الانضمام إلى العصابة، ولكن والد الطفل (يقوم بدوره دي نيرو نفسه) يمنعه ويحذره من عواقب هذه الخطوة الخطيرة، ويظل الطفل يعيش التمزقات الداخلية الموزعة بين حبه لوالده وبين إعجابه بزعيم العصابة وبالحياة المختلفة والمثيرة والملأى بالأسرار والمطاردات والمغامرات التي تتأرجح قرب حافتين متناقضتين هما حافة الموت والنهاية المأساوية وحافة الثراء والنعيم الأرضي المطلق.

في الفيلم الثاني وهو “الراعي الطيب” قدم دي نيرو معالجة إخراجية مختلفة ومغايرة تماما لفيلمه الأول، وشارك في الفيلم كل من الممثل مات دامون والممثلة أنجلينا جولي، وأبرز الفيلم تلك الصورة الخفية والمنفرة عن بدايات نشوء جهاز الاستخبارات الأميركي (السي آي إيه) والتي تشكلت أثناء الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، وتضمن الفيلم العذابات الشخصية والشروخ العائلية التي تفتك بالعميل المزدوج الذي يمكن في أية لحظة أن يتنازل عن مبادئه وعن رغباته الفطرية والحميمية والعاطفية حتى يحافظ على هيبة وأسرار جهاز المخابرات الذي ينطوي على أعمال وممارسات مريعة ودموية ومجردة من الإنسانية.

 

ولحصر وتوثيق الجوائز التي نالها دي نيرو خلال مشواره السينمائي الحافل فإن الأمر يحتاج لجرد مرهق، نظرا لكثرة الجوائز وتنوعها في مهرجانات ومناسبات لا تحصي، ولكن أهم جائزتين نالهما تمثلتا في فوزه بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل (دور ثان) في العام 1974 عن أدائه لشخصية فيتو كورليوني في الجزء الثاني من فيلم “الأب الروحي” أو (العراب) للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، وهو الدور الذي تطلب من دي نيرو تعلم اللهجة الصقلية لمدة أربعة أشهر حتى أتقنها تماما، وللمرة الأولى في تاريخ جوائز الأوسكار ينال الدور المشترك في فيلمين مختلفين جائزة التمثيل حيث فاز مارلون براندو بأوسكار أفضل ممثل عن ذات الدور في الجزء الأول من فيلم (العراب)!

الجائزة الثانية والأهم التي نالها دي نيرو كانت عن أدائه لدور الملاكم الأسطوري جاك لاموتا في فيلم “الثور الهائج” في العام 1980 تحت إدارة المخرج مارتن سكورسيزي وهو الدور الذي قدم فيه دي نيرو أقصى وأقسى ما يمكن أن يقدمه ممثل للشخصية المصاغة على الورق أو القادمة من واقع حقيقي ومعاش، وما زال هذا الدور عالقا في أذهان النقاد حتى اليوم، لأنه يصعب تكراره وتقديمه بذات الصدق والواقعية والألم النفسي والجسدي والجنون والنشوة والحماس والانكسار الذي رافق مسيرة حياة الملاكم “لاموتا” المرهقة والضارية.

وهناك العديد من الترشيحات التي جاءت في النهاية بمثابة تقدير واحتفاء بإجازات دي نيرو الأدائية في أفلام مثل “شوارع دنيئة” 1973، و”سائق التاكسي” 1976، و”صائد الغزلان” 1978، و”حدث ذات مرة في أميركا” 1984، و”رفقة طيبة” 1990، و”يقظة” 1990، ورغم الظلم الذي رافق اختيارات لجان التحكيم خصوصا مع دورين مذهلين قدمهما في فيلمي “سائق التاكسي” و”يقظة”، إلا أن النهم التمثيلي لم يتوقف أبدا لدى هذا الفنان الجائع والمتعطش أبدا للمغامرة الأدائية الفاتنة رغم أنها مغامرة منهكة ومصحوبة بخسارات اجتماعية كثيرة.

ومع تقدمه في السن مازالت هناك مشاريع فيلمية عديدة بانتظاره ومن أهم هذه المشاريع فيلمه القادم تحت إدارة الملهم والمحفز الكبير لنجاحات دي نيرو ونقصد به هنا مارتن سكورسيزي الذي يحضر لفيلم بعنوان “الأيرلندي” بمشاركة آل باتشينو وجو بيشي، وهناك مشروع تمثيلي آخر في فيلم بعنوان “مانويل دي آمور” مع الممثلة مونيكا بيللوتشي تحت إدارة المخرج الإيطالي جيوفاني فيرونيسي، الفيلم الثالث يحمل عنوان “قاتل نخبوي” مع جاسون ستاثام وكليف أوين، وأخيرا ينتظر دي نيرو اقتحام “الحقول المظلمة” وهو عنوان الفيلم الخامس في أجندة المشاريع السينمائية القادمة لهذا الممثل الساحر والممتلئ بشغف داخلي عميق وغير قابل للنضوب.

مقالات من نفس القسم