يوم أن فُزتُ بالجائزة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاتم حافظ *

قرأت طارق إمام مبكرا، ربما في أخبار الأدب. وقتها لم أكن أعرف سنه، ظننت أنه يكبرني بسنوات كثيرة، فقد كنت أعتقد أن الذين يُسمح لهم بنشر قصصهم هم فقط الكتاب الكبار. كنت ـ وقتها ـ لم ألتق إيمان ـ زوجتي ـ بعد لتقنعني أن ما أكتبه يستحق أن يُنشر، لهذا لم يتسن لي معرفة أن طارق إمام ـ ذلك الذي يكتب قصصا جميلة ويجد من ينشرها له في الجرائد (بتاعة الكبار) ـ يصغرني بأربع سنوات!

قرأت لطارق روايتيه "هدوء القتلة" و"الأرملة التي تكتب الخطابات سرا"، وودت لو أقابله لأسأله كيف يكتب هذه الكتابة وهو حتى لم يبيض شَعره. هدوء القتلة فتنتي، بطلها الأسطوري، ذلك الذي يكتب الشعر بيد ويقتل باليد الأخرى، ذلك القاتل المتسلسل الذي يقتل فتشعر أن قتلاه مفردات قصيدته، الشاعر الذي تشعر أن كلماته ضحاياه، فتشم رائحة الموت في قصيدة ورائحة الحياة في جثة. الأرملة أحببتها بقدر ما شعرت أن طارق قد استعار صوتها وصورتها من مكان ما، فكيف لهذا الولد أن يتكلم عن الموت كعجوز مسرف في القدم. ولكني أحببت شخصياتها، خصوصا رجاء (التي تشبه فتاة نعرفها)، أحببت صخب البنات الذي يخصنا وخشونة صوت المؤذن والمحافظ الذي قرر تغيير اسم الشارع!

بدأت النشر منتصف هذا العقد. روايتي الوحيدة وجدت مكانها قبل عامين، ومع هذا كنت قد قررت منذ فترة أني وطارق إمام (الذي بدأ النشر قبلي بعشرة أعوام تقريبا) ننتمي لجيل واحد. لست مشغولا بفكرة المجايلة، كما أن روايات طارق ليست من الروايات التي كنت أتمنى لو كتبتها، رغم اعجابي بها، ولكن مقالا لطارق على مدونته بعنوان “عمرو دياب” جعلتني أظن أن طارق ـ لابد ـ كان زميلي في مكان ما، لربما تعارفنا أمام أحد محلات الكاسيت في وسط المدينة في شتاء ما. طارق الذي كتب في مقاله “في التسعينيات كنت أكتب، وأنشر، ولكني لم أكن أستطيع أبداً التحدث مع أحد من المثقفين عن عمرو دياب” كان يعبر عن ميلاد جيل من الكتاب، جيل متجهم بحكم رغبته في أن يكون مثقفا (على الأقل لكي تتوافق صورته مع صورة مثقف ما ممن تملأ صورهم المجلات)، ومتحرر في الوقت نفسه من هذه الصورة لأنه ـ في الأحوال كلها ـ لن يمكنه التحرر من مقتضيات سنه ومراهقته وشبابه. جيل ينصت لعمرو دياب (الذي يهاجمه المثقفون) بنفس القدر الذي ينصت فيه لأشعار محمود درويش.

لهذا لم أصدق أن طارق حصل على جائزة الدولة التشجيعية. صحيح أن عمرو دياب نفسه قد بدأ يظهر في تلفزيون الدولة كاعتراف متأخر بتجربته، هو الذي كان ممنوعا تقريبا لفترة قريبة، ولكن الاعتراف السريع بتجربة جيل في الكتابة أمر آخر، أمر مدهش، ومربك إلى درجة رهيبة. الجائزة التي أُعلن أن طارق قد حصل عليها كما لو كانت قد مُنحت لنا جميعا، نحن الذين يحبون عمرو دياب والذين لا يحبونه ولكن تسربت إليهم حساسيته، التي هي حساسيتهم، نحن الذين بدأنا النشر مع طارق في التسعينيات، فجرت العادة على تسميتنا بالتسعينيين، أو الذين لم ينشروا كتبهم إلا مؤخرا. الجائزة لم تكن تخص طارق وحده إذن، كانت تخصنا، تخصني، وتخص الكتابة الجديدة، تلك التي لن تمر أعوام قليلة قبل أن تصبح كتابة قديمة.

هذا الاعتراف المربك، لسرعته، كان يجب أن يصاحبه لحن دراماتيكي، لحن يتوافق مع العالم الذي تغيّر، تغير لدرجة أن يمنح جائزته لطفل يسمع عمرو دياب ويجادل أصدقاءه بشأن موزعي موسيقاه. لهذا بدا أن هناك من يسعى لسرقة سعادته بالجائزة، وسعادتنا بها. ثمة تقرير نُشر هنا أو هناك يفيد بأن الجائزة لا تحق له لأنه قد حصل على جائزة ساويرس، وثمة من دسّ لدى مانحي الجائزة أن طارق قد دلّس بإقراره أنه لم يتقدم بهذه الرواية لجائزة أخرى، رغم أن طارق نفى أن يكون قد تقدم بروايته لجائزة ساويرس بنفسه، وأكد أن دار النشر هي التي قامت بذلك، ومن ثم يكون إقراره لا تدليس فيه، ولكن يبدو أن ثمة أشرارا لا يحبون عمرو دياب!

قد تُسحب الجائزة من طارق لخطأ ما في الإجراءات، وقد يتركوها له، ولكن المكان الذي سوف ترقد فيه الميدالية أو شهادة التقدير أو حتى شيك الجائزة لا يخص إلا مانحى الجائزة، أما ما يخصنا، فهو أن طارق قد حصل على الجائزة، وأننا ـ كجيل ـ قد أُعترف بنا وانتهى الأمر، وأنه لن يكون بمقدور أحد التعامل معنا مرة أخرى كحفنة من الصغار الذين يُخرّبون اللغة والذين يلعبون بالكتابة والذين يسيئون للنظريات.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

*روائي وكاتب مصري

مقالات من نفس القسم