سوسن الشريف
سأتطفل على رحلة خاصة، المركب أخذ في التحرك يعني قد ركب الجميع …
ربت على كتفي أحدهم للمرور إلى المراكبي، التفتت فإذا به صديق قديم، وصل من السفر حديثًا، تبادلنا الأحاديث وكثير من الضحكات العالية، أخذتنا الدهشة بهذه الصدفة البعيدة، فكل منا من بلد، ولم نتهاتف منذ فترة، عرفت أنه ضمن الرحلة التي تطفلت عليها. لم تفلح هذه المصادفة في انتشالي من أفكاري التي وودت الهرب منها إلى النيل والصمت، وكانت حالتي قادرة على فصلي عن الواقع الصاخب المزدحم، والزج بي داخل قوقعة مصمتة. ظل صديقي يتحدث ويضحك طوال الوقت، لم أكن أسمعه تقريبًا، ابتسم فقط أحيانًا عندما يضرب بيده على ذراعي، فأعود إلى عالمه، ويبدو أن في تلك اللحظات تبلغ حكاياته نهايتها أو قمة إثاراتها، لا أعلم، لكن لابد وإنه وقت يجب الرد فيه ولو بابتسامة. ظل نظري متعلق بصورة ضبابية لفتاة تنظر إليّ، وعندما هزني صاحبي بعنف، ظهرت ملامحها واضحة، كأنها أتت من بعيد، هل صاحبتني في شرودي دون أن أشعر!!
لم تكن أجمل فتاة، لكن شيئًا ما في ملامحها يأخذك إلى حيث لا تدري، أظنها ألقت عليّ تعويذة ما، لابد أنها من أولئك الذين يرمون الآخرين بسهام المحبة والجنون، ليتيه الرجل وأشباهه الأربعون في فلك طلاسم هذا السحر، ليجد نفسه يغرق أكثر وأكثر، لا أملك رفع بصره من على وجهها المشرب بحمرة الشفق الوردي، فرص النجاة تبدو منعدمة.
أكانت تنظر إليّ؟!، لم أستطع الجزم إنها بادلتني نظرة واحدة، رغم أن عينيها تحتوي المكان، وتحتويني، ياااااا… تُرى ما اسمها؟!
شاردة في مشهد الغروب، ولا تدري إنه اكتمل بوجودها، فها هي شمس تغرب، لتشرق شمسي، هل صارت شمسي؟!، لابد أنني أهزي، لقد بدأ مفعول التعويذة السحرية يسري في أوصالي بدفء ونعومة، و…، إنها تبتسم الآن لرفيقتها برقة زهرة بيضاء نقية بريئة!! سيدتي .. ألم تلحظي هذا الذي أسرتيه وهو في غنى عن أي صدمات أخرى في حياته البائسة؟!
كل ما أردته يا الله الابتعاد ولو لسويعات عن همومي، ودنياي المقفرة، قامت من مقعدها، مقتربة نحوي ببطء، هل ابتسمت لي؟!، بداخلي يناديها، ياااا… هل ابتسمتِ ليّ؟! هل يمكن أن تسدي معروفًا وتبتسمي مرة أخرى ولو للمقعد الخشبي. ذهبت لتراقب الغروب من قرب، التقت عيناها بآخر شعاع للشمس، فسالت أنهار العسل تلتمع في مقلتيها، وزادت حمرة وجنتيها نشوة هذا الوداع الحلو لشمس اليوم.
عادت إلى رفيقتها، آخذة مع خطوتها الصغيرة ما تبقى من قدرة لي على الصمود، لم أعد أنتبه لصديقي، كان يهزني بعنف أحيانًا، لكن لا فائدة، لقد سرت التعويذة بدمي كسمٍ زعاف، لا أرغب الشفاء منه، فلأمت، وتمت معي مشاكلي وتنتهي متاعبي للأبد. لا أدري ما يضحكها فجأة بعد ثرثارات صغيرة مع رفيقتها، هل تسمعني، وتعرف متى تضعني على حافة الانهيار، ثم تردني إليها بنعومة، لا أظنها من النوع الرحيم، وإلا كانت أخبرتني اسمها. لم أسألها أو اتحدث إليها، لكنها ساحرة، يجب عليها قراءة أفكار قلبي وما يشتهيه الآن، لم احتمل، لجئت إلى الجانب الآخر من المركب، على الأقل لن اضطر للنظر أمامي وأجدها، هي الآن بجانبي يفصلنا عدة أشخاص، لا أمل في العودة من هذا التيه.
هذه المثالية كما يجب أن تكون، شتاء بارد، غروب في مركب على النيل، لا ينقصه سوى الصمت، أو قليل منه، ولأن الأحلام لا تتحقق، ولا يحصل الإنسان على ما يريد، فكانت أمنية الصمت بعيدة المنال. المراكبي فتى لم يتعد الثامنة عشر، بيده مجموعة من أكثر الأغاني صخبًا في كوكب الأرض، صار يطلقها نحونا بلا شفقة، ولم يكتف بالصخب، بل لم تكتمل جملة من أغنية إلا ويضع الأخرى، كأنه في تحدي مع الزمن، ليتمكن في هذه النزهة النيلية القصيرة، أن يجهز على كل ما بحوزته من أغاني. دخلت وصديقتي في تحدٍ آخر، فصرنا نحزر أوقات قطع الأغنيات ووضع أخرى، كنا نضحك بشدة مع كل بداية أغنية، حتى ساورت الشكوك مرافقونا في الرحلة عن سلامتنا العقلية. خسرت أمامها عدة مرات لسبب أعرف ولا أفهمه، فمن حين لآخر أسمع صوت خافت يناديني، بل يجذبني بشدة وعنف، لأجد عيناي في عين شخص ما غريب عن الرحلة، لم أصادفه من قبل. الأمر مُربك للغاية عندما تحدق فتاة فجأة في وجه رجل لا تعرفه، لم يلتفت هو الآخر عني، مما أثار فضولي، كلما اختلست نظرة واثنين، أجد عيناه مثبتتان على وجهي، كانت تتحدث بسرعة وصمت أشد صخبًا من أغاني المركب، تملؤها تساؤلات، هادئة تارة وعاصفة تارة، في نهاية الأمر أخذني نداءه الخافت بعيدًا إلى حيث اللا عودة، وللحق لم أرغب في العودة، هو والنيل والغروب لوحة دافئة، مناسبة لليل أعلن قدومه بومضات منعشة شديدة البرودة.
لم أشعر بنفسي إلى وأنا أذهب تجاهه مبتسمة مأخوذة بكل هذا الدفء، ليته كان أبدي، أو فلتنتهي حياتي داخل هذه اللوحة، انتفضت فجأة، عدت خارج اللوحة، وملت نحو يمينه، كأنني أذهب تجاه مشهد الغروب. بدأ الليل يلفنا ببرودة قاسية، زادت برحيله عن مقعده، وكان آخر ما بيننا من صمت، أمنية أرسلتها إلى السماء على جناح نجمة مع قبلة وابتسامة. اختفى عن نظري تمامًا، كأنه لم يكن، وانشغلت مع رفيقتي في أحاديث وحكايات، وفجأة نظرت خلفي آخر المركب، لأجد نداء عين لا يصمت أبدًا، كان هو… سيبدو الأمر مفتعلًا إن تحققت أمنيتي الساذجة…
حان وقت الرحيل، وقد أصابني ألم في الرأس من شدة الصخب مع دوار خفيف، المرسى كان يبعد عن المركب قليلًا، زلق إلى حد ما، به عدد من الصخور، الأقدام ترتعش من البرد، المراكبي وقف على جانب المرسى يأخذ بيد الجميع، بداية من الأطفال والنساء، وبعض الرجال. أحب القيام ببعض البطولات الصغيرة، فقفزت من فوق اللوح الخشبي على الصخور بنجاح، إلا أن توازني اختل فجأة، حاولت استعادته متجاهلة يد المراكبي الممدودة، إلى أن امتدت يد أخرى قد كنت على وشك السقوط في المياه لا محالة، فامسكت بيد المراكبي برفق، رافعة بصري لأشكر صاحب اليد الأخرى، لأجد يدي في يد ذلك الرجل، يضمها بحنو ورقة، والمراكبي بجواره يحمد الله على أنني عبرت سالمة.
سالمة …!!!
صعدت بسرعة وخفة السلالم، وصلت للسور الحديدي المطل على كورنيش النيل، وبينما أتحدث إلى رفيقتي، مر أمامي، ألقى عليّ نظرة أخيرة، قائلًا بنفس نبرة ندائه الخفي الصاخب “شكرًا لمنحي الفرصة لإنقاذك”.