ترجمة: أزدشير سليمان
يرفض أورسون ويلز الاعتراف بأن فيلمه “المحاكمة” اقتباس عن عمل كافكا الكلاسيكي المنشور في العام 1925 وحمل نفس الاسم، حتى أنه لا يقر بوصف فيلمه بأنه مستند إلى الكتاب. أورسون ويلز زعم أن كافكا أكثر انغلاقاً ليكون شريكاً في عمله “المحاكمة”.
فيلم ويلز “المحاكمة” استقطب النقد إبان طرحه في العام 1962 وسرعان ما اكتسب السمعة بوصفه أحد أفضل أعمال المعلم. جادل ويلز بأن الفيلم مشروع ويلزي صرف: أن الكتاب ألهمه بالتأكيد ، لكن الفيلم عمل منفصل ، عمل أصيل من الفن لا يعتمد على المادة الأصلية التي قد تكون خدمت كأساس للفيلم وأنك عندما تشاهد المحاكمة ستعلم أن ما قيل للتو أمر صحيح. بأمانة عظيمة لكافكا، خلق ويلز العالم الكابوسي لشبح متهم بقليل من البيروقراطية يُدعى جوزيف ك بدمغة واضحة لا لبس فيها تدين له مُذكراً في الوقت ذاته برؤية المؤلف الأصلية ، أميناً لمسلماته السينمائية المفضلة ومبرزاً أصالته الخاصة في بناء عالم كافكا المحير والمعقد، لينتهي المطاف بويلز مخرجاً لواحد من أكثر الأفلام تأثيراً في تلك الفترة.
“قل ما تشاء” قال ويلز “لكن المحاكمة هو أفضل فيلم صنعتُه على الإطلاق، لم أكن قط سعيداً مثلما كنتُ حين صنعتُ هذا الفيلم”. جرى تصور المشروع عندما كان المنتج الكساندر سالكيند يفاتح ويلز بفكرة اقتباس أحد الكلاسيكيات الأدبية الشعبية من النطاق ذاته، لكن اتضح أن المحاكمة سرعان ما أصبح على اللائحة. هذا لم يثبط المنتج الذي وضع ميزانية محترمة “1.3مليون دولار” ووعد ويلز بضبط خلاق ومطلق للعملية الابداعية، أمر لا بد أن يُسعد المخرج كثيراً بعد تجاربه المتكررة المتعبة مع استوديوهات هوليوود. سمحت الميزانية السخية لويلز أن يحصل على خدمات ممثلين وممثلات مشهورين مثل انطوني بيركنز، جين مورو ورومي شنايدر. عندما حان وقت التصوير علم ويلز أن الأمور لم تكن على ما يرام بالنسبة للخطة المالية، وكان على خططه أن تكون متبدلة ومرتجلة. كان ويلز قد وضع مجموعة من التصميمات لكن اكتشافه نقصاً في التمويل الموعود في ليلة كان من المفترض أن يسافر فيها إلى يوغوسلافيا للتصوير أجبره أن يجد بديلاً سريعاً. جولة ليلية ملهمة من المشي في باريس أدت الغرض، حيث كانت محطة القطار المهجورة المقمرة التي تدعى Gare dOrsay هي كل ما يحتاجه ويلز على ما يبدو. سوف لن يكون فيلماً ويلزياً حقيقياً ما لم تعترضه بعض حوادث الإنتاج المؤسفة، لكن كل شيء مضى على ما يرام في النهاية. صُور الفيلم في باريس وزغرب وهي مدينة كرواتية في وسط أوروبا تتمتع بهوية بصرية مشابهة لبراغ التي لم يكن تصوير الفيلم ممكناً فيها بسبب نبذ السوفييت لأعمال كافكا.
يقدم الفيلم الذي صوره ادموند ريتشارد أسلوباً بصرياً باروكياً مهيباً بلقطاته الثرية الدقيقة وخيارات ويلز التقنية المعتادة في أفلامه مثل اللقطات الطويلة والإضاءة التعبيرية وزوايا الكاميرا المتطرفة. الفيلم الذي كتبه ويلز بنفسه يزخر بالدعابة السوداء والكثير من الحوارات التي لا تنسى. التدخلات الملموسة التي أضافها ويلز على السرد الأصلي تتبدى هنا لأغراض فنية واضحة ولا تنتقص من الطابع الحلمي لعمل كافكا. ربما النجاح الأعظم لنسخة ويلز هو في الاستيعاب البصري لجوهر الارتياب واللامنطق: يعبر الفيلم بعبقرية عن الحالة العاطفية لجوزيف ك، الذي لعب بيركنز دوره بشكل ملهم. بطل فيلم “Psycho” سيقول لاحقاً أن من دواعي فخره مهنياً أنه لعب دور البطولة في فيلم من إخراج ويلز. هشاشته، إنعدام ثقته بنفسه، إرتباكه، مقدرته على تجسيد مدى من المشاعر في نطاق زمني لا يتعدى الدقيقتين. هذا ببساطة أحد أعظم أدوار بيركنز.
عندما يتعلق الأمر بإعداد أحد أشهر الأعمال في الأدب هناك دائماً ضغط على الفنان لإنتاج شيء يليق بالخلفية الأدبية. صنع ويلز في هذه الحالة فيلماً عظيماً من الناحية التقنية ووفياً لقصة كافكا لكنه معزز بزخم الرؤيا الويلزية. يبرز فيلم المحاكمة بوصفه أحد أكمل الأفلام المقتبسة عن كتاب وفي سياق مهنة ويلز الإخراجية الثرية هو فيلم من بين أفضل أفلامه.
في المقابلة التالية مع ال BBC العام 1962 يناقش ويلز رؤيته لأفلمة المحاكمة مع المذيع هو ويلدون.
- إذاً فيلمك “المحاكمة” مبني على رواية كافكا المذهلة؟
- نعم، أفترض أنه يمكنك قول ذلك، على الرغم من أنك قد لا تكون مصيباً بالضرورة. حاولتُ عموماً أن أكون وفياً لعمل كافكا لكن هناك مجموعة من النقاط في فيلمي لا تتقاطع مع الرواية. هناك شخصية جوزيف ك قبل كل شيء، في الفيلم لا يتقهقر حقاً، بالتأكيد لا يستسلم في النهاية.
- حتماً هو يستسلم في الكتاب ويُقتل.
- نعم، هو يُقتل في النهاية. هو يُقتل في الفيلم ولكن لأنني شعرت بالخوف أن يُنظر ل ك بوصفه ضرباً ما من كل رجل من قبل الجمهور، لقد كنت وقحاً بما يكفي لتغيير النهاية إلى حد جعله لا يستسلم. لقد قُتل كما يُقتل أي شخص عندما يُعدم، لكن بينما يصرخ في الكتاب “أنتم تقتلوني مثل كلب!” فإنه في الفيلم يضحك في وجوههم لأنهم لا يستطيعون قتله.
- هذا تغيير كبير.
- ليس كبيراً جداً، لأن الواقع أنه في كتاب كافكا لم يكونا قادرين على قتل “ك”، لأن العاطلين عن العمل اللذين أُرسلا إلى الحقول لقتل “ك”، لم يتمكنا من ذلك حقاً. لقد استمرا بتمرير السكين ذهاباً وإياباً أحدهما إلى الأخر. في الرواية رفض ك أن يشارك في موته الخاص، وتُرك الأمر على هذا النحو ومات “ك” بينما ينتحب. في الفيلم استبدلت النحيب بصوت الدوي.
- هل فكرت بإنهاء الفيلم بقيام الرجلين بطعن ك بالمدية؟
- لا. تلك النهاية بالنسبة لي هي باليه كتبها مثقف يهودي قبل ظهور هتلر. لم يكن كافكا ليقوم بهذا الأمر بعد مقتل ستة ملايين يهودي. يبدو كل هذا بالنسبة لي كثيرً جداً إلى ما قبل أوشيفيتز. لا أعني أن النهاية التي وضعُتها نهاية جيدة على وجه الخصوص، لكن هذا كان الحل الوحيد الممكن. كان علي أن أعزز السلام، ولو لبضع دقائق فقط.
- هل لديك أي تأنيب ضمير يتعلق بالعبث بهذه التحفة؟
- لا أبداً، لأن الفيلم وسيط مختلف تماماً. لا ينبغي أن يكون الفيلم تفسيرياً تماماً، أو ثرثاراً جداً، أو نسخة مؤثرة من عمل مطبوع، إنما ينبغي أن يكون ذاته أو شيء من ذلك. على هذا النحو يستخدم الفيلم رواية ما بنفس الطريقة التي قد يستخدم فيها كاتب مسرحي تلك الرواية – باعتبارها نقطة ينطلق منها ليخلق عملاً مختلفاً تماماً. لذلك لا أشعر بوخز الضمير بشأن تغيير الكتاب. إن كان لديك رؤية جدية للأفلمة، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أن الأفلام ليست توضيحاً أو تفسيراً للعمل، إنها تستحق العناء تماماً مثل العمل الأصلي.
- إذا هذا ليس فيلماً عن الكتاب بل فيلم مبني على الكتاب ؟
- ليس حتى مبنياً عليه، الكتاب ألهم الفيلم الذي اعتبر أن كافكا هو معاوني وشريكي بإنجازه، قد يبدو هذا غروراً، لكنني أخشى أن يبقى فيلماً ويلزياً على الرغم من محاولتي أن أبقى مخلصاً لروح كافكا ذلك أن الرواية كُتبت في مطلع القرن العشرين ونحن الآن في عام 1962 ، صنعنا الفيلم في هذا العام، ولقد حاولتُ أن أجعل منه فيلمي لأنني ظننتُ أنه سيكون أعلى قيمة إن كان فيلمي.
- ثمة قراءات عديدة للمحاكمة. اعتبرها البعض أمثولة للفرد في مواجهة السلطة، بينما اعتبرها البعض الآخر رمزاً للإنسان الذي يصارع شيطاناً عنيداً.. إلى آخره. هل لمثل هذه التأويلات مكان في فيلمك؟
- أعتقد أن الفيلم الجيد ينبغي أن يحتمل العديد من التأويلات مثل الكتاب الجيد، وأعتقد أن الفنان المبدع ينبغي أن يصمت أمام هذا النوع من الأسئلة لذلك أرجو أن تعذرني إن رفضت الإجابة. أفضل أن ترى الفيلم الذي عليه أن يقدم نفسه لك. أفضل أن تخرج بتأويلك الخاص عما تعتقد.
- لم أشعر بالدهشة حين علمتُ أنك صنعت المحاكمة لأنه بدا أن الحوادث العادية لعملية إنتاج الفيلم بنبرتها وإيحاءاتها تمثل جزءً مهماً جداً من أدواتك كصانع أفلام. هل تظن أن الأمور
- مضت على ما يرام بين ويلز وكافكا ضمن هذا المعنى؟
- من المسلِ أن تقول ذلك لأنني شعرتُ بالدهشة عندما سمعتُ أنني أعمل على المحاكمة. ما أدهشني تماماً في الواقع أنه صُنع. إنه فيلم مكلف جداً، فيلم كبير. بالتأكيد لم يكن هناك أحد يمكنه القيام بالأمر في السنوات الخمس الماضية، ما من أحد ليقنع الممولين والموزعين أو أي أحد آخر بصناعته. لكن الكوكب تغير مؤخراً. هناك لحظة زمنية جديدة في إنتاج الأفلام ولا أعني بذلك أن هناك صانعي أفلام أفضل، بل أعني إن نظام التوزيع قد انهار قليلاً وأن الجمهور أصبح أكثر انفتاحاً بقليل وأكثر استعداداً للمواضيع الصعبة. الرائع هو أن المحاكمة قد صُنع. إنه نوع طليعي من المواضيع.
- من الرائع أن أفلاماً مثل المحاكمة يمكن إنتاجها الآن بميزانيات ضخمة، من أجل جماهير السينما التجارية؟
- إنه أمر رائع ويبعث على التفاؤل. أعني أن هناك كل أنواع المواضيع الصعبة التي يجري تصويرها ضمن التيار السائد هذه الأيام وهم يقومون بالأمر على نحو جيد. لا أحب “هيروشيما حبي”، و”العام الماضي في مارينباد” لكنني سعيد جداً بإنتاجهما. لا يهم إن كنت لا أحب هذه الأفلام. الأرجح أن آلان رينيه لن يحب المحاكمة لكن ما يهم أن فيلماً صعباً وتجريبياً قد جرى إنتاجه وعرضه وتسويقه تجارياً. بكلمات أخرى، ما يحتضر هو الفيلم التجاري المحض، هذا هو الأمل العظيم في النهاية.
- ما الشكل الذي كان المحاكمة سيتخذه لو كان قد صُنع قبل خمس سنوات؟
- لا أعتقد أنه كان سيُصنع قبل خمس سنوات، لكن فيما لو صنع فإن شكله سيكون مسرحياً وسيكون نوعاً من فيلم صعب، تجريبي وهزيل بدلاً من صناعته مثل هذا الفيلم مع بيركنز، جين مورو ورومي شنايدر. كما ترى، نجوم من الصف الأول، لوحة ثرية، تخيل ما يعنيه هذا، ما الذي يعنيه بالنسبة لي أن يكون لدي الفرصة لصناعته، أن يكون لدي بالفعل الفرصة للعمل. هذا هو العمل الأول الذي أقوم به كمخرج منذ أربع سنوات.
- يبدو أنك تعشق الأفلام، أليس كذلك؟
- هذه مشكلتي. لو أنني بقيتُ في المسرح لأمكنني العمل بثبات بدون توقف طيلة هذه السنوات. لكني قررت أن صناعة فيلم واحد أفضل وأكثر جمالاً مما اختبرته في المسرح و هو أمر أريد مواصلة القيام به . أحب صناعة الأفلام حقاً، كما قلت.
- هناك مشهد لعالمة كمبيوتر لعبت دورها كاتينا باكسينو، لم يعد موجوداً في الفيلم. إنها تخبر “ك” بمصيره المحتمل، أنه سوف ينتحر.
- نعم، كان ذلك مشهداً طويلاً استغرق عشر دقائق. قطعته عشية العرض الأول في باريس. لقد أُخبر “ك” بقدره من قبل كمبيوتر ، هذا ما صار إليه المشهد. كان ذلك من ابتكاري. أن يخبره الكمبيوتر قدره. رأيتُ الفيلم كوحدة كلية. كنا لا نزال في سياق عملية المزج حين استجبنا للعرض الأول. اختصرتُ المشهد في الدقيقة الأخيرة. كان من المفترض أن يكون أفضل مشهد في الفيلم لكن الأمر لم يكن على هذه الحال. كان هناك خطأ ما، لا أعرف لماذا، لكن المشهد لم ينجح. موضوع ذاك المشهد كان حرية الإرادة. كان مشهداً مخففاً بالدعابة السوداء التي كانت أداتي الرئيسية. كما تعرف، لطالما كان الأمر نقداً للآلة ودعماً للحرية.
- لماذا صورت معظم الفيلم في يوغوسلافيا؟
- بدا لي أن القصة التي نتعامل معها يمكن أن تحدث في أي مكان. لكن ليس هناك أي مكان بالطبع. عندما يقول الناس أن هذه القصة يمكن أن تحدث في أي مكان يجب أن تعرف في أي جزء من الكوكب بدأت حقاً. كافكا الحالي ينتمي إلى وسط أوروبا وهكذا لأجد وسط أوروبا الذي هو مكان ما موروث من الامبراطورية الهنغارية النمساوية استجاب له كافكا بطريقة ما ذهبت ُإلى زغرب. لم أتمكن من الذهاب إلى تشيكوسلوفاكيا لأنه حتى كتبه كانت لمّا تطبع هناك بعد. كانت كتاباته لا تزال محظورة هناك.
- هل كنت ذهبت إلى تشيكوسلوفاكيا، لو أمكنك ذلك؟
- نعم، لم أتوقف عن التفكير أننا كنا في تشيكوسلوفاكيا. كما في جميع نتاجات كافكا التي يُفترض أن مسرحها تشيكوسلوفاكيا. كانت اللقطة الأخيرة في زغرب ذات الشوارع القديمة التي تشبه شوارع براغ كثيراً. لكن الأمر كما ترى، أن تلتقط عبق مدينة أوروبية حديثة تضرب بجذورها في عصر الامبراطورية الهنغارية النمساوية لم يكن الأمر الوحيد الذي اخترنا من أجله يوغوسلافيا مكاناً للتصوير. السبب الأخر أن لدينا صناعة كبيرة تتيح لنا ذلك. استخدمنا بنايات كبيرة، أكبر كثيراً من أي استديو. كان هناك مشهد في الفيلم حيث احتجنا أن نرّكب 1500 اسطوانة في فضاء واحد لبناية ولم يكن هناك أي استديو تصوير سواء في فرنسا أو بريطانيا يمكنه احتواء 1500 اسطوانة. الأرضية الصناعية المواتية التي وجدناها في زغرب جعلت الأمر ممكناً. إذاً كان لدينا في آن معاً تلك الحداثة المهلهلة التي كانت جزءاً من شكل الفيلم، وهذه الجذور المتحللة الغريبة التي كانت تضرب عميقاً في قلب القرن التاسع عشر المظلم.
- صورت الكثير من الفيلم في باريس في محطة قطار مهجورة محطة Gare d,Orsay.
- نعم، هناك قصة غريبة جداً تتعلق بذلك. صورنا لمدة أسبوعين في باريس على أمل أن نمضي حالاً إلى يوغوسلافيا حيث ستكون مواقع التصوير جاهزة. في مساء السبت عند الساعة السادسة بلغتنا الأخبار أن مواقع التصوير غير جاهزة وأن الأبنية فوقها لم تشيد بعد. لم يكن لدينا مواقع تصوير، ولم يكن أي استديو في باريس مواتياً لنبني مواقع التصوير فيه. كان ذلك يوم السبت، يوم الإثنين كان علينا أن نصور في زغرب. كان علينا أن نلغي كل شيء، ومن الواضح أن علينا أن نعلّق التصوير. كنت أقيم في فندق Meurice في منطقة التويلري أتقلب في فراشي وأنظر خارج النافذة. لم أكن متبلداً جداً بحيث لا آخذ القمر الساطع في السماء على محمل الجد، لقد رأيتُ القمر من نافذتي، كبيراً جداً، كان ما ندعوه في أمريكا قمر الحصاد “بدراً مكتملاً”. فجأة وعلى نحو إعجازي كان هناك قمران، مثل إشارة من السماء. كان على كل قمر منهما أرقام وأدركتُ أن تلك الأرقام كانت وجوه الساعات في الفندق. تذكرتُ أن الفندق كان خالياً. في الخامسة صباحاً نزلتُ الدرج ،ركبتُ سيارة أجرة ، عبرتُ المدينة ودخلتُ محطة القطار الخاوية هذه حيث اكتشفتُ عالم كافكا. مكاتب المحامين، مكاتب المحكمة القانونية، الممرات، نوع من حداثة جول فيرن بمذاق كافكا. كان الأمر برمته كذلك، وبحلول الساعة الثامنة صباحاً كنتُ قادراً أن أعلن أن بإمكاننا التصوير لسبع أسابيع هناك. إذا ما نظرت إلى المشاهد التي صُورت هناك ستلاحظ أن موقع التصوير ليس جميلاً فحسب، ولكنه مفعم بالأسى أيضاً. الأسى المتراكم في محطة قطار حيث ينتظر الناس. أعرف أن هذا قد يبدو صوفياً جداً، لكن محطة القطار حقاً هي مكان مسكون. القصة بأكملها تدور حول أناس ينتظرون، ينتظرون، ينتظرون أن تُملئ أوراقهم. قصة مليئة باليأس من الصراع ضد البيروقراطية. انتظار أن تُملئ ورقة هو مثل انتظار قطار، والمحطة أيضاً مكان للاجئين. أُرسل الناس إلى السجون النازية من هناك، والجزائريون كان يجتمعون هناك، لذلك هو مكان مفعم بيأس عظيم. في فيلمي بالطبع الكثير من الأسى أيضاً إذ أن موقع التصوير بث في الفيلم الكثير من الواقعية.
- كيف تشعر إزاء المحاكمة؟ كيف حققته؟
- عندما وصلتُ هذا الصباح على متن القطار مضيتُ لأرى فيلم Billy Budd لبيتر أوستنيوف الذي كان قد افُتتح للتو، قلتُ له ” كيف تشعر إزاء فيلمك، هل تحبه؟” قال “لا أحبه، لكني فخور به”. أتمنى لو كان لي ثقته، ومبرراته للثقة، لأنني أثق أن تلك هي الروح الصحيحة التي يمكن من خلالها استحضار الأشياء. أشعر بالامتنان العظيم للفرصة التي أُتيحت لي لعمل هذا الفيلم، ويمكنني أن أقول لك أنه خلال العمل عليه، ليس خلال المونتاج لأن ذاك عمل مضجر بشكل رهيب، لكن خلال التصوير الفعلي، يمكنني أن أقول أن تلك كانت أجمل فترة في حياتي بأكملها. يمكنك أن تقول ما تريد، لكن المحاكمة أفضل فيلم أنجزته على الإطلاق.
- كيف كان رد فعلك على أسئلة جمهورك؟
- هذا شيء مثير. يبدو لي أن الهبة العظيمة للتعبير السينمائي ، بالنسبة للمخرج، أننا لسنا مجبرين على التفكير في جمهورنا. لو أنني كتبتُ مسرحية، لكان علي بلا شك أن أفكر بمصطلحات برودواي أو الويست إيند. بكلمات أخرى يجب أن أتخيل الجمهور الذي سيشاهد المسرحية، طبقته الاجتماعية، ذائقته ..الخ. بالنسبة للفيلم، لا نفكر بالجمهور على الإطلاق، نصنع الفيلم ببساطة بنفس الطريقة التي تجلس فيها وتكتب كتاباً وتأمل أنهم سيحبون ما كتبته. لا فكرة لدي عن صدى المحاكمة لدى الجمهور. تخيل الحرية في هذا. صنعتُ المحاكمة وسوف نرى ما الذي سيقولونه عن الفيلم. ما من جمهور للمحاكمة وكل الجمهور يمكنه مشاهدته، ليس من أجل هذا العام فقط، بل طيلة الوقت الذي قد يحدث أن يُشاهد الفيلم فيه. هذه هبة الهبات.
- شكراً أورسون ويلز، أتمنى أن نستمتع بمشاهدته بقدر استمتاعك بصناعته.
- شكراً.
أورسون ويلز عن المحاكمة في دفاتر السينما..
- في المحاكمة يبدو أنك تجهر بنقد شديد لتعسف السلطة – أو ربما شيء أعمق من هذا- يبدو بيركنز نوعاً من بروميثيوس
- هو أيضاً بيروقراطي صغير، أعتَبرهُ مذنباً.
- لماذا تقول أنه مذنب ؟
- إنه ينتمي إلى شيء يمثل الشر، هذا الشيء كان جزءاً منه في الوقت ذاته. هو ليس مذنباً بناء على ما اتُهم به، إنه مذنب على الرغم من ذلك: هو ينتمي لمجتمع مذنب، وهو يتعاون معه. لكنني لستُ محللاً لكافكا.
- هل يتوجب على جوزيف ك أن يقاتل؟
- لا، ربما كان الأمر كذلك، لكنني لا أتبنى مواقف في فيلمي. “ك” يتعاون طيلة الوقت، وهو يفعل الشيء ذاته في كتاب كافكا. كل ما سمحتُ له القيام به هو أن يتحدى من أعدموه في النهاية.
- هناك فارق أساسي في نقل المحاكمة إلى السينما، “ك” في كتاب كافكا أكثر إذعاناً منه في الفيلم.
- جعلته أكثر فاعلية بالمعنى الدقيق للكلمة. لا أظن أن هناك مكان للشخصيات السلبية في الدراما. لا تعليق لدي مثلاً على عمل انطونيوني لكن من وجهة نظر درامية يتوجب على الشخصيات أن تقوم بأمر ما من أجل أن تمتعني.
- هل كانت المحاكمة فكرة قديمة لديك؟
- قلتُ ذات مرة أن فيلماً جيداً يمكن أن يُصنع من الكتاب، لكنني لم أعني أن أقوم أنا بصنعه. جاء رجل إلي وقال أنه يظن أن بإمكانه أن يوفر المال لصناعة فيلم في فرنسا. قدم لي لائحة من الأفلام لأختار بينها. من هذه اللائحة المكونة من 15 فيلماً اخترتُ ما ظننتُ أنه الأفضل، كان ذاك هو المحاكمة. بما أنني لم أتمكن من صناعة قصة كتبتها بنفسي, اخترتُ كافكا.
- حين رأى جوزيف ك الأقراص في نهاية الفيلم مع تلك القصة حول الحارس والبوابة.. الخ.. هل يمثل هذا تأملك الخاص حول السينما؟
- كان أكثر من مجرد سؤال يتعلق بمشكلة تقنية لها علاقة برواية تلك القصة: لو أنها رويت من وجهة النظر تلك كان الجمهور سيذهب للنوم، لذلك رويتها في البداية وأشرت لها في النهاية، هذا ما كان يمكنني القيام به في ثوان معدودة. لكن على أي حال لم يكن المحامي هو أنا.
- الناقد الذي أعُجب بعملك جداً قال أنك كررت نفسك في المحاكمة؟
- لم أكرر نفسي عمداً، ولكن لا بد أن يوجد في عملي حتماً إحالات لما قمتُ به في الماضي. قل ما تشاء لكن المحاكمة هو أفضل فيلم أنجزته، يكرر المرء نفسه فقط عندما يكون متعباً، ولم أكن متعباً. لم أكن أبداً سعيداً كما كنت حين صنعتُ الفيلم.
- كيف صورت تتابع اللقطات الطويل مع انطوني بيركنز؟
- كان لدينا استديو تصوير طويل جداً ووضعنا الكاميرا على كرسي ذي عجلات.
- لكنها كانت سريعة جداً؟
- نعم، كان لدينا عدّاء يوغوسلافي ليدفع الكاميرا.
- إحدى الأشياء الاستثنائية في عملك هو الجهد المتواصل لتجد حلولاً لمشاكل الإخراج..
- لا تزال السينما يافعة جداً، وسوف تكون مثيرة للضحك تماماً إذا لم يتمكن المرء من إيجاد أشياء جديدة لأجلها. لو أمكنني فقط أن أصنع المزيد من الأفلام. أنت تعرف ما حدث بخصوص المحاكمة؟ كان علينا أن نغادر باريس إلى يوغوسلافيا في غضون أسبوعين حين قيل لنا أنه لن يكون بإمكاننا أن نضع أي معدات تصوير هناك لأن المنتج كان قد انتهى للتو من صناعة فيلم وأنه لم يسدد ما عليه من ديون. من أجل هذا السبب استخدمنا محطة القطار المهجورة تلك. كنت قد خططتُ لأصنع فيلماً مختلفاً تماماً. جرى ارتجال كل شيء في الدقيقة الأخيرة، لأن كل الفكرة الملموسة لفيلمي كانت مختلفة كلياً. كانت مبنية على غياب مواقع التصوير. طبيعة مواقع التصوير العملاقة التي اعترض عليها الناس تعود بشكل جزئي إلى أن موقع التصوير الوحيد الذي كنت أملكه هو محطة القطار المهجورة تلك. محطة قطار فارغة عملاقة. في الإنتاج كما تخيلتها بالأصل كان على مواقع التصوير أن تختفي بالتدريج، كما كان على عدد العناصر الواقعية أن تتلاشى وأن يُلاحظ تلاشيها من قبل المتفرجين إلى أن يبقى فضاء مفتوح فقط كما لو ان كل شيء قد تفسخ.
- مجموع حركة الممثلين والكاميرا جميل جداً في فيلمك..
- هذا هوس بصري. حين أفكر بأفلامي لا أشعر أنها مبنية كثيراً على المطاردة بقدر ما هي مبنية على البحث..
يجب أن يكون هناك دائماً عملية اكتشاف في السينما. أظن أن السينما يجب أن تكون شعرية أساساً، لذلك حاولتُ خلال فترة التصوير وليس خلال فترة التحضير أن أزج نفسي في أتون العملية الشعرية التي تختلف عن العملية السردية أو العملية الدرامية. لكني حقاً رجل أفكار، فوق كل شيء آخر، أظن حتى أنني رجل أفكار أكثر مني أخلاقياً.
…..
*كراسات السينما ، العدد 165، نيسان 1965.