محمود عبد الدايم
في العاشرة من عمرها أدركت أن لعبة «تخمين الكلمات»، التي اعتادت لعبها مع والدها كل ليلة، أفضل بكثير من حكاية البنت الفقيرة، والأمير الضفدع، والذئب المحتال، والساحرة الشريرة. اعتادت أن تفسح له مكانًا بجوارها، وتصر دائمًا على أن تبدأ هي اللعبة. تُخرج طرف لسانها الوردي، تمرره على شفتها السفلى، تمنح أباها نظرة جانبية، وتسأل: «كلمة من ثلاثة أحرف؟»، فيدعي الأب التفكير؛ يغمض عينه اليمنى، ينظر إليها باليسرى، يداعب ذقنه، يحك رأسه، ويمنحها قُبلة ويضمها بين ذراعيه، ويهمس في أذنها: «حُضن».
بعد إجابة أبيها، تزمُّ شفتيها الصغيرتين مُدعية غضبًا يليق بالكبار، منتظرة سؤاله. لا يحتاج الأب إلى وقت قبل أن يقطع صمت الغرفة، ويسأل: «كلمة من حرفين؟»، تضحك، يبادلها الأب الضحك، ويرفع حاجبيه منتظرًا إجابتها، تمنحه قُبلة خفيفة على خده الأيسر، وتصرخ بمرح طفولي: «حُب»، يكافئها هو بحضن أطول، قبل صراخها مدعية أن أضلعها تؤلمها، فتطبع على خده الأيمن قُبلة، وبصوت ناعس تُردد: «وأنا كمان بحبك».
قبل ثلاث سنوات، أحصت 27 شمعة، أغمضت عينيها، أطفأت الشموع المضيئة، قبل انسحابها سريعًا تاركةً قالب الحلوى لبقية أشقائها يتقاسمونه، لتختفي في حضن أبيها الذي همس في أذنها: «كلمة من ثلاثة أحرف؟»، تشبثت بذراعيه، وقالت: «عيد»، ووسط موجة كبيرة من الضحكات المتقطعة قال: «خطأ. زوج».
في الثلاثين من عمرها، هاتفها شقيقها الأكبر، جاءها صوته فظًّا غليظًا: «أبوكي مات»، لم يزِد على الكلمتين إلا تحديده مكان المستشفى الذي يجب أن تتوجه إليه. تحركت سريعًا،لم تصرخ، دقائق عدة مرت عليها قبل انفصال روحها عنها، لترى نفسها تصرخ في كل مَن حولها، تستجدي الطبيب للسماح لها برؤيته، منحها دقائق أخرى بمفردها. بعد محاولات عدة، حصلت على موافقة مترددة من الطبيب، أغلقت ببطء باب الغرفة، اقتربت من الجسد المغطى بملاءة بُهت بياضها، أزاحتها، ارتعشت مفاصلها عندما رأت وجه أبيها، عادت خطوات إلى الوراء، أسندت ظهرها إلى الحائط محاوِلةً تخطي لحظة السقوط، منعت صرخة من الانطلاق في فضاء الغرفة الكئيب. اقتربت مجددًا من أبيها، طبعت قُبلة في منتصف جبينه، صعدت إلى جواره، غاصت بين ذراعيه، وطوت جسدها بين أحضانه، وهمست في أذنه اليمنى: «كلمة من ثلاثة أحرف؟»، لكنه لم يُجِب، فرددت: «م.. و.. ت».
صديقتها، أعطتها قرصًا مهدئًا، قبل طلبها تركها في غرفتها وحيدة. صوتها خرج مكسورًا وهي تسأل: «كلمة من أربعة أحرف؟»، لتجيب: «وحدة»، تنهدت، وأعادت السؤال: «كلمة من أربعة أحرف؟»، وأجابت: «غُربة»، مسحت دمعة، وسألت: «كلمة من ثلاثة أحرف؟»، فصرخت: «أبي»، ليغشى عليها.
ثلاثة أيام مرت قبل عودتها إلى أيامها الحزينة. بعينين غائمتين تائهتين نقَّلت نظراتها بين الجميع، لا أحد يبكي، بل هناك مَن يحاول ببلادة إخفاء ضحكات فظة، واثنان يتبادلان حديثًا بصوت خافت، وإن كان مسموعًا، عن الميراث الذي تركه الأب الراحل، والشقيق الأكبر الذي اكتفى بحضور الجنازة والعزاء قبل إعلانه بصوت أراده أن يصل إلى بقية إخوته، أنه سيعود، قريبًا، ليعرف «ما له»، ولم يطلب معرفة «ما عليه»!
بيدٍ معلقة في الفراغ، تلقت التعازي، هناك مَن بالغ في إظهار حزنه محاولًا احتضانها، لكنها في كل مرة تصدُّ مَن يقترب منها، تبعده برقة مرة، وبعنف زائد عندما يتجاهل رقتها. لم تفتح ذراعيها لأي أحد، لم يعد حضنها يتسع لأجساد جديدة.
أنهت جلسة توزيع الميراث سريعًا، قالت: «ما لا تجدونه سينفعكم، اتركوه. أحتاج إليه». تجاهلَت النظرات الغاضبة التي أحاطها بها الذكور الثلاثة، قطعت لحظات الصمت التي خيمت على الغرفة، وأكملت: «ملابس أبي لي، صور أبي لي، أوراق أبي لي، بطاقته الشخصية، العائلية تحتاجون إليها أنتم، شهادة ميلاده، شهادة أداء الخدمة العسكرية، جواز السفر،قسيمة الزواج.رائحة أبي لي».
10 أيام انقضت.انتبهت بعدها لنسيانها صغيرها طوال الفترة الماضية، طلبت أن يأتوها به، فتحت ذراعيها على اتساعيهما لاستقباله. في غرفة أبيها انتحت به ركنًا قصيًّا، تركته يداعب شعرها، يُقبِّلها، وبيديه الصغيرتين بدأ يدغدغها لكي تضحك، فكافأته بابتسامة باهتة.
ليلتها، رفضت ذهابه بعيدًا عنها، لم تكن في حاجة إلى قرص مهدئ، أغلقت عليهما باب غرفة أبيها، ارتدت واحدة من بيجاماته، اختارت البيضاء، لطالما كانت تحب رؤيته فيها، رائحة عطره لم تغادرها بعد. تمددت على السرير، فتحت ذراعها،واستلقى طفلها عليها، وبطفولة سألها: «كلمة من ثلاثة أحرف؟»، قالت: «أبي»، زعق فيها معلنًا خطأ إجابتها، وقال: «لا. أمي، اتعلمتها النهارده في الحضانة، والمِيس اديتني نجمة لما كتبتها صح، أمي. ما أخدناش أبي النهارده ولا قبل كده».
قررت مجاراته في اللعبة، وقالت: «كلمة من حرفين؟»، بخبث طفولي نظر إليها، ومن بين ضحكاته المتقطعة التقطت كلمة: «أُم»، متجاوزة حزنها، دغدغته، وقالت: «خطأ. حب»، مدعيًا الغضب، قال: «أُم أحسن من حب»، مالت إلى أذنيه وهمست: «أب»، واعتدلت في جلستها، وبدأت في رواية أول قصة لطفلها الصغير: «كان يا مكان، كان فيه بنت جميلة اسمها سندريلا… وكان فيه ثعلب مكار… وساحرة شريرة…».