الجن..الدراجة.. والمراجيح.مقطع من “ألف جناح للعالم”..رواية تصدر قريبا

الجن..الدراجة.. والمراجيح.مقطع من "ألف جناح للعالم"..رواية تصدر قريبا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قابَلْتُ الجِن.

لم أعرفهم فى البداية، حتى طارت طفلة منهم بالقرب منى.

كانوا مثل بشر عاديين، يتدفّأون حول بُقَعٍ من نار ملوّنة، يتحرك بعضهم فى الجوار، أو يلعبون، ألقيتُ التحية على مجموعة منهم، خلَعْتُ حقيبتى وجلسْتُ بينهم، قلتُ لهم اسمى، أومأوا برءوسهم، لمَحْتُ فى عيونهم لمعة أحببتُها، قرّبْتُ يدىّ من النار، رأيت طفلة تطير قُرْب رأسى، ارتبَكْتُ لحظة، وابتسَمْتُ لها، نظرْتُ إلى مَنْ حولى بتدقيق أكثر، رأيت بَرْقًا بألوان مختلفة يمرّ سريعًا فى عيونهم، هذا ما اعتبرْتُه لمعانًا فى البداية.

قال جنّى شاب “لم تلاحظى أننا جِن؟”، مرّ برْق أخضر فى عينيه، لاحظْتُ أظافره الورديّة الجميلة، نقلْتُ عينىّ بينهم، ابتسموا وهم يَحْنون رءوسهم قليلاً.

قلت “يبدو هذا صحيحًا، أرجو ألا يزعجكم وجودى”

رحّبوا بى.

قالت جنيّة عجوز “لدىّ بعض الطعام لكِ”، أخرَجَتْ من بين ملابسها كسرات خبز.

مَدّ جنّى عجوز يده لى بزمزميّة ماء، رَجّها مرتين.

قال “وبعض الماء”

“شكرًا لكما، لست جائعة ولا عطشانة”

نظرْتُ إلى المجموعات الأخرى، بعضهم حول النار، البعض الآخر بعيد عنها، أفراد نائمين، أو يعزفون بتوَحّد على آلات موسيقية، أطفال يضحكون، أو يطيرون على ارتفاع منخفض.

نظرْتُ إلى الجنّى الشاب.

قلت “تبحثون عن النهار؟”

قال “ولم نصل إليه، الكثير منّا لم يعد مُهتمًا، أنا لم أهتم من البداية، الأمر بالنسبة لى فرصة للاكتشاف، ومعرفة بعض أسرار العالم”

قلت “ألا تعرف الكثير منها بالفعل؟”

قال جِنّى الزمزميّة “ربما تعرفين أنتِ يا صغيرة أكثر من أكبر جنّى فينا، الأهم أنّ ما يعرفه أىّ إنسىّ أو جنّى أو غيرهما لن يكون كثيرًا أبدًا”

“أعجبنى هذا”

حَدﱠثونى عن بعض الأشياء العجيبة التى قابَلَتْهم، حدﱠثتُهم عن جدّتى، تابَعْتُ طفلاً وطفلة يطيران قريبًا منى، تمنّيتُ لو أطير لبعض الوقت، قاطعَنى جنّى الزمزميّة.

“تُجيدين ركوب الدراجات، يا صغيرة؟”

نظرْتُ إليه.

قال “الدراجات الهوائية، تجيدين ركوبها؟”

رأيت فى عينيه تحَفّزًا ما.

قلت “نعم”

اتسَعَتْ عيناه، مرّ فيهما بَرْقان فضيّان، سمِعْتُ همهمات الجميع، اعتقدْتُ أنى اقترفْتُ خطأ، نقلْتُ عينىّ بينهم، يتطلّعون إلىّ بإعجاب، عُدْتُ إلى جنّى الزمزمية، كان ينتظرنى بلهفة.

قلت “كانت لدىّ دراجة وأنا صغيرة”

“احكِ لنا”

“ماذا؟”

قالوا “احكِ لنا، احكِ، الدراجة”

نظرْتُ إلى الشاب بشىء من الدهشة.

قال “الجن لا يستطيعون ركوب الدراجة، ويشعرون أن ركوبها سيكون ممتعًا جدًا لهم”

“كيف تكونوا متأكدين رغم أنكم، حسب ما تقول، لم تجرّبوه؟”

“مثل أنكم البشر تشعرون أن الطيران سيكون ممتعًا لكم، رغم أنكم لم تجرّبوه، حتى الآن على الأقل”

أومأتُ موافِقة.

قلت “لكن، أنت جاد؟ الجن لا يستطيعون ركوب دراجة؟”

“يقال أن أحد أجدادنا القدماء فَعَلَها مرة، لكن الأمر أقرب إلى أسطورة”

ضحكْتُ ضحكة قصيرة.

قال “عندما يقود إنسىّ دراجة فى الشارع، يجرى خلفه الجن بعد أن يجعلوا أنفسهم غير مرئيين أو مسموعين، يُهلّلون، يغنّون، ويتبادلون الجلوس على المقعد الخلفى دون أن يشعر قائد الدراجة، المحظوظ”

“فعَلْتَها أنت؟”

أومَأ مرتين.

قال “بالمناسبة، بعض الجن لا يستطيعون الطيران، أو أن يجعلوا أنفسهم غير مرئيين أو مسموعين، والكثير منهم لا يستطيع أن يجارى البشر فى المشى أو الجرى”، صمَتَ لحظة، مرّ فى عينيه بَرْق أزرق فاتح.

“والآن، احكِ لنا”

قالوا “نعم، هيا احكِ، ما شعوركِ وأنت تقودين دراجة، احكِ”

هتفوا معًا بشكل إيقاعى.

“الدراجة، الدارجة، الدراجة”

تجمّعَ حولى كل مَنْ فى المكان، تطلّعوا إلىّ بعيون يعبْرُ فيها برق متعدّد الألوان.

قلت “حسنًا، أحكى عن الدراجة”

لم يكن هناك الكثير من القصص، ضحكوا على أشياء بسيطة، برَقَتْ عيونهم أكثر عندما حكَيتُ عن السباقات الصغيرة مع أصدقائى.

كادوا يُجَنّوا عندما قلّدْتُ صوت جرس الدراجة “ترررررررن، ترررررررن”، كرّرْتُه مرات كثيرة كى أُسعدهم، حاولوا أن يُردّدوه خلفى ولم يستطع أيًا منهم.

قال عجوز الزمزميّة “أعرف أنه مستحيل، حاولْتُ طوال عمرى”

صمتوا وتطلّعوا فِىّ.

قلت “أنتم تسخرون منى”، نقلْتُ عينىّ بينهم، ينظرون إلىّ كأنى معجزة.

أخرجَ جنّى الزمزمية من بين ملابسه جرس دراجة فضّى.

قال “أخذته من مخزن إنسىّ فقير، وتركْتُ بدلاً منه صندوقًا مليئًا بالذهب”، مدّ يده به إلىّ.

“لا يرِنّ، يُمكنكِ إصلاحه؟”

وضَعَه فى يدى، تحسّستُ تروسه بإصبعى الصغير، رنّ الجرس نصف رنّة، صرخوا وقفزوا من أماكنهم، لم يتكرر الرنين، خمّنْتُ أن تِرسًا ينقص الجرس.

“آسفة، لا أستطيع”، ومدَدْتُ يدى به إلى العجوز، أعاده تحت ملابسه، اختفى بَرْق عينيه، نظرَ إلى الأرض، أردْتُ أن أتجاوز اللحظة.

قلت “ما الأشياء التى تُمتعكم، عدا الدراجة، ويمكنكم أن تمارسوها؟”

ظلّ العجوز ينظر إلى الأرض.

قال الشاب “يختلف من جِنّى إلى آخر”

رفَعَ العجوز عينيه إلىّ.

قال “لكن هناك شىء يخيف جميع الجِن”

نظرْتُ إليه، تأمّلَنى قليلاً، قرّبَ فمه من أذنى.

“المراجيح”، هَمَسَ كأنما يخشى أن تسمعه.

ضحكْتُ، قطَعْتُ ضحكتى لأن أحدًا لم يشاركنى، همهموا بكلمات لم أفهمها، شعرْتُ فيها بخوفهم من المراجيح وغضبهم من ضحكى.

قلت “آسفة”

“نخاف المراجيح بكل أنواعها، حتى لو كانت متوقفة”، قال العجوز بصوت مرتعش.

ساد الصمت، لا أحد يريد أن يتحدث عن الأمر.

“لماذا لا نُطيّرها، حكَتْ لنا عن الدراجة، وقلّدَتْ صوت الجرس، لنكافئها”، قال لهم الشاب.

تغيّرَ مزاجهم، هلّلوا، تلفّتَ العجوز حوله.

قال “أين الطيّارِيِن؟”

ظهرَ من بينهم طفل وطفلة، أمسَكَ كلٌ منهما بإحدى يدىّ، طارا بى عاليًا، تلاشى جسدى وتجمّع عدّة مرات، تنقّلَتْ روحى بين حَيَوات كثيرة، صِرْتُ كل الطيور وعُدْتُ “فلوكا” مرة أخرى.

دخلنا طبقة من سحاب بنفسجى مضىء.

قال الطفل “يمكننا أن نُعلّمكِ الطيران هنا خلال دقائق، بشرط أن تُعلّمينا ركوب الدراجة”

“لكن ليس معى دراجة الآن”

“إذن، فى وقت آخر”

عادا بى إلى الأرض.

أهديتُ الطفلة مشبك شعر على شكل نحلة، وللطفل قلمًا يكتب بسبعة ألوان.

شرِبْتُ جرعة ماء من زمزمية العجوز.

أكَلْتُ كسرة من خبز المرأة.

تمنّيتُ للشاب اكتشاف المزيد من أسرار العالم.

وضعْتُ الحقيبة على ظهرى، ومشيت.

كنت ألتفتُ إليهم بين لحظة وأخرى، وأُقلّدُ صوت جرس الدراجة “تررررررررررن، ترررررررررن”.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون