-أنت تشبه تماماً ما يجب على الكلب أن يكونه. أخبرته. لديك أذناً سوداء والأخرى بيضاء، لستَ ضخماً للغاية وفمك غير مملتئ بالاسنان.
داعبتُ معطفه المرقط بنقط سوداء فهزّ ذيله المعقوص، وانحنيتُ إليه فتمطط حتى وصل إلى صدري، رميت الكرة إلى ممر الدرج فأنطلق خلفها وتدحرج فوقها من دون قصد وأخذ بالنباح وبخدش الأرضية مأخوذاً بالحماس.
ثم مزّق الكرة بين فكّيه وقضم قطع البلاستيك التي تحيطها وأعادها إليّ وهو يدلدل لسانه بغبطة. فكرت برمي الكرة إلى حيث لا يمكنه العثور عليها.
ارتطمت الكرة بحديد الدرابزين ومضت إلى اتجاهات مختلفة منزلقة تحت بطنه. فاستدار وانطلق يعدو خلفها،
وما أن انفتح باب المصعد حتى اندفع داخله.
-ما الذي تفعله؟ صرخت به.
كان ابي واقفاً على عتبة المصعد يحمل في يديه محفظة النقود وكيس الخبز.
-لقد ضربته بالباب.
-ماذا؟
-إنه لا يتحرك!!
خطا أبي بحذر إلى الممر وأخذ ينظر لما حوله.
-والآن أنت تقف فوقه مباشرة!
زعقت بهِ فرفع أبي قدمه.
-فوق ماذا، بحقّ الجحيم؟!
-فوق (كلب)، إنه اسفل قدمك الأخرى.
-إنني آسف. قال أبي ودار حول نفسه.
ركضت إلى (كلب) وعانقته بين ذراعيّ، استرخى ذيله عندما حككت اسفل ذقنه.
-ما هذا الذي تربيه عندك؟ أراد أبي أن يعرف.
-كلب
-ما اسمه؟
-(كلب). قلتُ.
-أيمكنني مداعبته؟
همستُ ما طلبه أبي في أذن الكلب المرتعشة وضغطتُ أصابعي بشكل خرطوميّ على خطمه لأصنع نفق محادثة خاصّة.
-إنه لا يرغب بأن تداعبه، ثم أنك بعد أن دست عليه عضّك خمس مرات وهو فخور بذلك.
-كم مرّ من الوقت على امتلاكك إياه؟
-وجدته في مخزن الدراجة، حين دخلت وجدتهُ عالقاً أسفل مجرفة الثلج.
كان أبي يحكّ حبّة في ذقنه.
-برأيي يجب عليك منحهُ اسماً رسمياً.
قال ذلك واستدار بإتجاه باب شقتنا. ودفع بالمفتاح إلى كالون الباب.
-لديه إسماً، إسمه (كلب). وهو فخور به.
ذهبنا لزيارة اقرباءنا عند عطلة نهاية الاسبوع وقضينا يومين هناك. وقفت قريبتي ميلا على يديها رغم أن اصبعها كان ملفوفاً بضمادة. عندما عدنا إلى المنزل إنطلقت اتفحّص اسفل سريري. لا، لم يكن هناك سوى صندوق مكعباتي الصغير الذي لا يسع الكلب ليختبيء خلفه. بحثتُ في خزانة الملابس رغم معرفتي بأن (كلب) لا يحبذ التواجد بين كومة السراويل الضيقة. دفعت يدي إلى داخل إحدى البساطيل، كان هنالك شيئاً مكوماً ومشعراً.
-لا تقلق، هذا أنا.
لكنه كان نعل حذاءٍ ملتف.
تسللتُ إلى غرفة الجلوس واختلست النظر من خلف نبتة الكاوتشوك الهندية، كان أبي يضطجع على الكنبة وفور أن أن رآني أخفى شيئاً ما كان في حضنه وأخذ يلكز بقلمه على بعض أوراق.
-هل رأيت (كلب)؟ سألته.
حدّق بي بحاجبين متغضنين وكانتا شفتيه تبدوان صفراوان من خلف القلم.
-آه، الكلب. تذكّر. لا لم أره يتجول هنا من قبل.
أخبرته أن يراقب المكان حتى أعود.
-تعال هنا، (كلب)! صرختُ.
زحفت على اطرافي الأربعَ باحثاً عنه أسفل الأريكة ونبشتُ صناديق أشرطة الفيديو.
-كان يجب عليك أن تسميّه إسماً محدداً، وهكذا ستناديه بإسمه وسيعرف كلبك لأي نداء يستجيب.
-إسمه (كلب).
نباح، نباح، نباح. رسم أبي دوائراً على الورقة، أسفل الورقة كانت صورة أمي، لقد إعتاد أن يتأملها بسريّة. طبعتُ قبلة على خدّه.
خطرت على بالي مجرفة الثلج، إندفعت بقدماي التي لا يغطيها سوى الجوربين إلى مخزن الدراجة. انتزعت مقبض الباب بكلتا يديّ وجررته فانفتحت الباب قليلاً. انزلقت للداخل، كانت مجرفة الثلج مركونة على الحائط الخلفي للغرفة، وكانت هناك بقع سائلة تنتشر على أرض الغرفة الخرسانية. أظنه قد تبوّل من الخوف.
رفعتُ المجرفة محركاً صف الدراجات المربوطة إلى السقيفة. وحيث كانت المجرفة عثرتُ على قطعة ثلج ذائبة، لطمتها بقوة بيدي.
-تباً، خراء! صرختُ مستهجناً.
ثم عدتُ لأبحث عنه مجدداً عند بسطات السلّم. سألت مسؤول البناية عما إذا كان قد صادف كلباً ذا أذن بيضاء وأخرى سوداء، كان كل ما قاله هو أنه غير مسموح الاحتفاظ بالكلاب على السلالم.
ما إن خرجت الجارة ريتا من المصعد حتى إندفعت داخله علّي أجده عالقاً في الداخل.
رحتُ الكزُ أكوام الثلج بعصا الهوكي. لو أن شخصاً ما قد قام بتكويم الثلج فوقه فسأضرب وجهه بهذه العصا. أبي يقول أني ليس بإمكاني التزلّج حتى.
بحثتُ في الفرن وفي الشرفة، كان هنالك صفيحة معدنية محشورة في زاوية الشرفة، آه، خطر لي أن الكلب داخلها، أخذتُ مفك البراغي وفتحتُ الغطاء. قال أبي أنّ عليّ أن أكون حذراً مع المفك فإنه حوافه حادّة. داخل الصفيحة لم يكن هناك سوى صبغ أصفر متيبّس.
تباً، خراء.–
سمعتُ نباحاً قريباً، القيت نظرة على الدرابزين فسقطت على رأسي كومة ثلج من الأعلى وعندما نظرتُ للأعلى كان هنالك كومة أخرى تتدلى مستعدة للسقوط من طرف المزراب، كانت الأكوام تنحدر من أعلى السقف. ركضتُ إلى الصالة وانتعلتُ حذائي وخرجتُ مغلقاً الباب بكل هدوء، بذلك الهدوء الذي يمكنك خلاله أن تسمع صوت الجنيّات.
ذهبتُ إلى بداية السلّم، حيث بدأت أولى خطوات (كلب). عرفتُ أن أوسع شرفات المسكن تقع هناك حيث كانوا يقومون بضرب السجادات لتنظيفها، كنت هناك مع أمّي. وكنت اراقب مؤخرات طيور الخرشناوات من تلك الشرفة. لم أكن قد تسلّقت السلم للوصول إليها من قبل فقد كنا نأتيها بالمصعد. صعدتُ خطوة ثم نظرت للأرضية، كانت لا تزال قريبة، ثم صعدتُ خمس خطوات وكانت الأرضية لا تزال قريبة كذلك.
عدتُ إلى البيت لألتقط انفاسي.
عاودتُ الكرّة، صعدت هذه المرة للبسطة التالية، قبضتُ على الدرابزين وصعدتُ درجتان دفعة واحدة حتى وصلت للبسطة الأخرى التي كانت تشبه بالضبط البسطة الواقعة أمام بيتنا، وعند البسطة الأخرى كان المصعد متوقفاً هناك ومن نافذته الضيقة ينفذ ضوءٌ إلى الأرضية. راوحت في مكاني لألمح ما في داخله، غير أني لم اتمكن من اللحاق لأستقلّه.
خطوتُ سبع خطوات أخرى ووجدتني في مكان آخر. من بين قفزة الجرذ والمعزة الالبية والبرغوث وجميع القفزات المبتهجة وجدتُ قفزتي هي الأفضل، وعند وصولي لهذه البسطة وجدتُ أن لا وجود لدرجات أخرى، كانت هناك عدّة أبواب في الحائط مختومة بأقفال عدا واحداً. كان الباب الذي بلا قفل مختلفاً عن باب بيتنا، إنه حديديّ. لم أجد جرساً فقرعتُ الحديد بيديّ، آلمَ ذلك أصابعي.
أدرتُ المقبض فطقطق ثمّ إفتح يا سمسم!
لم يكن هناك أول الأمر سوى ريح باردة تخرج بشكل عاصف من فتحة الباب ثم تنبّهتُ لاحقاً لوجود سجاد سلالم رماديّ ودرابزين. ذهبتُ إلى الشرفة ومددتُ نفسي منها.
-كلب! صحتُ.
لكنه كان ذا طبعٍ عنيد وصلب، لم يكن سينبح. فتحتُ قدماي على مصراعيهُما ثم انزلقتُ إلى سقف الشقّة، تخبط كاحلاي على الثلج فقد كانت هناك بقعة جليد أسفله ارتبكتُ بها. يقول أبي دائماً: أنت لا تتزلّج بطريقة لطيفة حتى باستعمالك للزلاجات، فقط تلكز الأرض مثل رجل أعمى. لكنه على خطأ، ها أنا قد تزلّجتُ بالفعل.
في منتصف السقف كان هنالك صندوقاً يرتفع عابراً للسحب، أكبر منّي ويمكن أن يتّسع لثلاث باصات، لم اتمكن بسببه من رؤية كامل السقف، درتُ حوله وطرقت على جدرانه، لم يكن مصنوعاُ من الورق المقوّى.
-كلب!
صحتُ به بينما كنت أدور حول زوايا الصندوق.
-هزّ ذيلك حتى أراك.
كان الظلام دامساً، فحوطتُ نفسي بيديّ.
كان الثلج قد تكوّم على شكل موجات. كنت أعرف أن كلب ينتظرني خلف الزاوية التالية فتحركت بشكل اسرع جاعلاً الثلج يذرو في الهواء، وتمايلت جدران الصندوق في هبة الريح.
-كلب، هيه، أين أنت؟
كان اقرب جهاز تهوية يطنّ وخلفه كانت تمتد مساحة ثلجية لم تُطأ بعد.
ركلتُ صفيح جهاز التهوية فسقط حذائي وتأرجح حتى وصل إلى حافة السقف، إن عقد رباط الحذاء بطريقة انشوطية لا يصنع سوى عقدة فاسدة. كما أن فمي يدغدغي بسبب حساء البازلاء. خضتُ بالثلج بسرعة متوجهاً إلى المجس الهوائيّ.
تعثّرت حينها بكتلة اسفل الثلج، كانت بالضبط بحجم الكلب.
قمتُ بجرف الكتلة بأصابعي العارية وحصلتُ منها على جرح في اصبعي وقطعة قرميد في يدي. نظرت إليهما مطولاً وكان كاحلي يصطك بهذا البرد الجحيميّ.
-كلب!
صحت مجدداً وأنا اتلمّس طريقي إلى الزاوية الآخرى، كان الطريق أمامي مغطى بمساحة ثلجية مثالية.
ومرة أخرى هدمتُ كومة ثلجية بسبابتي بحرص، من اسفلها ظهرت فتحتان: ومنهما ظهرت عينان واسعتان.
القيت عليهما التحيّة وقلت:
-ماما، ما الذي تعتزمين فعله أثناء الشتاء!
امتد رأس ريتا من إحدى الزوايا وصرخَت بذعر:
-من هناك؟
مشيتُ إليها متثاقلاً. كانت ريتا تمدّ رأسها من شرفة السجاد ومن خلف مضربة السجاد كانت تظهر عيناها اللتان كانتا تتسعان أكثر فأكثر.
-تعال هنا حالاً!
أمرَتني.
حين وصلتُ للدرابزين تباطئتُ في مشيتي فسحبتني وأحكمت امساكي من اسفل ابطيّ ودفعت بوجهي إلى حصيرة مشعرة متدلية من الدرابزين المخصص للسجّاد. بدت عيناها حينها كبيرتان بحجم صحن. ابتلعتُ بعضاً من الثلج الذي دخل فمي. ثم انتزعت ريتا كتل ثلج من الحصيرة وراحت تدعكُ بها وجهي:
-لك ذلك، كُلهْ، ما دمت تحب تناوله.
ضغطَت على معصمي وسحبتني للطابق الأسفل وطلبت المصعد. كانت هناك زهور غامقة على جوربها الشفّاف.
-لمَ تمتلكين زهوراً على قدميكِ؟
دفعتني إلى المصعد ثم إلى عتبة بيتنا ورنت الجرس، فتح أبي الباب. كان الهاتف مرمياً عند قدمه وجهاز الاستقبال على السجاد. هناك فاتورة كبيرة في الطريق. من سيدفعها يا ترى؟
-هناك زهور على ساقيّ ريتا. قلتُ.
ارسلني أبي للمطبخ فجثوتُ وضغطتُ أذناي على الأرضية وكان بإمكاني سماع صوت القطار وهو يسير على المسار قادماً إلينا من بعد ثماني منعطفات.
قالت ريتا:
-قرد صغير.
ثم جاء أبي، كان هنالك بعج صغير في الصحن.
-أكنت مدركاً بأنك قد تسقط من على السقف؟ لقد عصرت دماغي واتصلت لتويّ بالشرطة. كنت قلقاً لاختفاءك. هل تفهم؟
اومأتُ.
-ما الذي كنت تفعله هناك؟
-كنت أبحث عن (كلب)
-ذلك الذي تسميه كلباً؟
سمعت نباحهُ يأتي من الشرفة.
كانت هناك عضلات مضحكة ترتعش في وجه أبي، حاولت أن أجد مثلها في وجهي لأجعلها ترتعش مثله فأدى ذلك أن يتلطخ وجهي ببقايا الثلج التي علقت في يدي، طلبتُ منه منديلاً. لكنه بدل ذلك أخرج جزرة من الثلاجة.
قال لي:
-حين ذهبنا لزيارة اقاربنا، كنتُ قد ذقت ذرعاً من هذا الكلب وفي مرة بعد رجوعي للمنزل قمت بسحبه إلى الخارج وكسرتُ ظهره هكذا.
قال ذلك وكسر الجزرة إلى قطعتين. سقطت من الجزرة قطعة صغيرة حادة وتدحرجت حتى سلة الغسيل.
-ثم وضعته في سلة القمامة في الخارج. أيّ أن ليس هناك فائدة من البحث عنه. مفهوم؟
ثم سحق الجزرة بين أسنانه. ولعقتُ أنا شفتي العليا.
-خذ.
قال وكسر النصف المتبقي إلى شطرين.
-إنها تتكسر مثل مقرمشات الأرز. هل ترغب ببعض مقرمشات الأرز؟
-لا.
-لن تذهب مرة أخرى إلى السقف، إطلاقاً.
-الهاتف على الأرضية، يجب أن ترفعه من هناك. قلتُ.
-إلى غرفتك، وإبقْ هناك. اللعنة، هل هذا واضح؟
لاحظتُ أني لا زلت ارتدي فردة حذائي الأخرى، فوقفت على البساط وخلعته وخلعت جواربي المبللة كذلك. كان الشيء الوحيد الذي خطر لي هو: هوهوهوهو. حركت أصابعي وقلت مرة أخرى: هوهوهوهو.
يمكنني الوقوف على أصابعي، إنه أصعب بكثير من الوقوف على اليد.
دخل أبي الغرفة حاملاً معه كتاباً مفتوحاً.
-هناك كلب مناسب لك. سوف تقرأ هذا الكتاب ولن تغادر الغرفة إلا إن سردته لي عن ظهر قلب.
سحب أبي أصبعه من الصفحة التي كان فيها عمودان متقابلان وعلى رأسها كلمة محاطة بحبرٍ أحمر: كلب.
-ظننتك ذكياً حين تعلمت القراءة قبل عمر الخامسة، لكني كنت مخطئاً.
وضعتُ الكتاب قرب عيني ورحت اتهجأ ببطيء، كانت الكلمات صغيرة ومائلة.
(كلب. جنس الكلب. ماذا؟ متشابهان. آه، إسم النوع هو كلب. ماذا؟ على الأغلب إنه لا ينحدر منهم، وبعضهم يقع في خط غير متقطّع من النسب. أعراق. ربما كلب ينحدر من فصيلة إبن آوى. الذئب البريّ. العثور على آثار. من؟ منذ العصر الحجري).*.
نظرت للأعلى، كان أبي قد أختفى والباب موصد. كانت أصابعي قد لطخت الصفحة ببقايا الثلج فبرزت البقع الملطخة أشبه بالتلال، قمت برسم وعل البيّ عليها.
(الكلبة. تستمر ارتفاع درجة الحرارة لقرابة الستة. أسابيع. وضعف الحرارة. ضعف الجراء. أي أن هذا وقتها الآن. الذي سيستمر لستين).*
قفزت لأسفل الصفحة.
(تنشئة الحيوان. ماذا؟ إنها تستعمل لأجل.. لأجل تعزيز.. خصائص.. حيوانات مختلفة. لمزيد من المعلومات أنظر. أنظر لأين؟).*
انظرْ اسفل السرير، انظرْ أعلى شجرة الغبيراء.
انظرْ لفقرة امراض الكلاب.
قمتُ بتصميم كلب من مكعباتي، له ستة اقدام وخمس رؤوس مختلفة الألوان، وكل رأس يتأوه وتشتعل جبهته من الحرارة. نظرت لفقرة الأمراض، لكني عرفت أن النظر لها لن يساعد في شفاء هذا الكلب.
فعدت للبداية: كلب. جنس الكلب، متشابهان.
……………………….
*ملاحظة المترجمة: المقاطع الثلاث الواقعة بين الأقواس هي لقراءة الطفل، وقد أراد بها الكاتب إظهار الركاكة الإعتيادية لقراءة الأطفال.
*ياري يارفيلا كاتب فنلندي معروف، له عدة روايات ومجموعات قصصية، ترجمت روايتان له للإنكليزية.