قصص قصيرة

قصص قصيرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أنا مستشار اللغة العربية

     الأستاذ نجيب محمد مدير مدرسة أبو سليم الإعدادية المشتركة التابعة لمركز بنى سويف ، أضحوكة القرية الصغيرة ، بل والمحافظة كلها ، ملامح  وجهه متلخبطة إلى حد الضحك دون إرادة منك  مثل اسمه الذي لو اعتدل لكان للقائد محمد نجيب بعد ثورة 1952، الذي أقيل من منصبه بعد مجلس الثورة الذي أطاح به ، وتمّ تعيين جمال عبد الناصر زعيمًا، ورئيسًا لمصر، بشرته (أي الأستاذ) نجيب محمد سمراء سمار مائل إلى الدكنة الشديدة  ، مثل السودانيين ، وأحول وأنفه أفطس ، وفمه معوج ، يقولون على أثر جلطة جاءته ، بعد أنْ خسر بيته المُـكــّون من أربعة طوابق لسداد ديون من لعبة نصب وابتزاز كبرى تعرّض لها.. باع من جرائها كل ما يملكه حتى أرضه ، التي باعها لأخيه الانتهازي بأبخس الأثمان ، طلق زوجته ، وترك أولاده الثلاثة عندها في شقة  بمحافظة بني سويف ، ما استطاعتْ المرأة زوجته السابقة أنْ تحافظ عليها لأنها كانت تملكها لم يستطيع الدائنين أنْ يأخذوها بالقوة ، كما فعلوا مع الأملاك الأخرى .

    وانزوي مستشار اللغة العربية ، في حجرة علي سطح منزل أخيه ككلب أجرب تلقي إليه زوجة أخيه وجبة الغذاء فقط لا غير، لا فطار ولا عشاء . الذى كان يقيم فى مركز ببا التابع لمحافظة بنى سويف ويبعد عنها بحوالى نصف ساعة أو أكثر قليلا .

     كان يمشي يحدث نفسه ، ويستدين جنيهـًا يشتري به خبزًا من عم سلطان الفراش.. وماذا يفعل ولا يتبقي من مرتبه غير مائة وعشرين جنيهـًا لا غير.. ونوبة حديثه مع نفسه التي تبدأ من بداية الخروج للسفر من منزل أخيه في ببا إلي مكان عمله في بني سويف ، ثم السير سيرًا على الأقدام الى  قرية أبو سليم التي تبعد عن المحافظة حواليْ ثلاثة كيلو متر. وفجأة بعد أنْ يمل من حواره الداخلي وإنْ كان مسموعًا إلى حد ما لمن يُمعن الإنصات والتركيز، يهتف أيوه أنا مستشار اللغة العربية. .غصب عنكم ياكلاب أنا مستشار اللغة العربية

     واعتاد الآخرون : أصحابه ، وزملاؤه في العمل ، والمدرسون والمدرسات حتى الطلاب حالته هذه ، فى بداية الأمر كانوا يموتون ضحكــًا ثم بعد أنْ عرفوا ما حدث له وأنه فعلا أستاذ عظيم فى تدريس اللغة العربية وأنه بحق مستشار اللغة العربية دون منازع أخذوا  يرأفون بحاله المذري ، وما فعلته به الأقدار البائسة والدنيا الغادرة بمصائر البشر دون أى رحمة أو رأفة

      حتى تأتي معجزة السماء ، وحدثت المعجزة ، ومات أخوه المتسلط الذي سرقه ونهبه تحت وطأة الحاجة ، وقلة الحيلة ، ويأس الأماني ، وتزوج زوجته ، وأصبح ولي أمر الطفليْن ، الولد والبنت  أبناء أخيه اللذين لازالا تحت وصايته بحكم أنه العم الوحيد ، الأحق بالولاية ، واعتدل نجيب محمد تمامًا  اسمًا وموضوعًا  وتحول إلى شخص جديد ، بذلك  الثراء الفاحش . والأبهة المباغتة له تماما ، وتقمص شخص أخيه كاملا ، ارتدى ملابسه ، ونام علي سريره ، واحتضن زوجته كأنها زوجته التي تمناها وعادت إليه ، ورعى أبناءه رعاية تفيض حنانــًا وحبًا لا مثيل له إطلاقــًا . وقام بعمل عملية ليزك فى عينيه فاعتدلا إلى حد ما .

     وأصبح لا تأتيه أي نوبات من الهمس . والهذيان من عمق الألم والحسرة والحزن وفقدانه لكل شيء، لقد باتَ فعلاً أنْ تقول عليه الأستاذ نجيب محمد هو مستشار اللغة العربية عن جدارة ، وقد قام بفتح مركز تعليمي مجاني كبير في مدينة بني سويف في منزله الجديد الذي بناه في أسفله علي مساحة 150مترًا ،  مسجد صغير أقرب إلي الزاوية ، وسنتر لتعليم الطلبة لقواعد اللغة العربية.

    ومندرة فسيحة أنيقة لمقابلة الأصدقاء ، والأصحاب ، وأي سائل محروم أو حتى عابر سبيل طلب المساعدة ، والعون مع ملاحظة شديدة الغرابة حدثت له ، رغم كل هذا رفضتْ زوجته الأولي السابقة وأولاده الثلاثة رفضوا العودة إليه ، وقبول أي صلح أو معونة منه ، قائلين بغضب واستهزاء :

ـ مستشار اللغة العربية   هذا مجنون وسيظل مجنونـًا بالنسبة لنا..

     ولن نعود إليه أبدًا أبدًا حتى لو أصبح ملك مصر. لقد مات محمد نجيب ونجيب محمد أيضًا

 

قصة الباليرينا

 

كل أزهار عُرف الديك الحمر تصطف وتحيي الأميرة الراقصة الفاتنة برداء راقصات الباليه الأبيض البديع ، منحنية أزهار عُرف الديك الحمر علي الجانبين في الصالة وهي بمثابة النبلاء الشباب ، الذين يخدمون في القصر، بعدها تأتي باقي الزهور الملونة ويقام الحفل الراقص الكبير، بين أزهار البنفسج التي تمثل ضباط البحرية الفتيان يرقصون علي الهابسنت ، والزعفران اللاتي يدعوهن بالآنسات ، أما أزهار التيوليب ، والسوسن الصفراء الكبيرة فهنّ الآنسات المتقدمات فى السن اللواتي يشرفن علي الرقص ويحرصن علي أنْ يتم بشكل منضبط للغاية.

     أخذ الفارس الشجاع ، الذي أتي من الحرب منتصرًا ، رافعًا لواء الحب وراية السلام البيضاء ، وعلى غفلة من الفرحة العارمة ، والضحكات ، والسعادة تغمر الجميع ، أخذ الفارس الأمير ينظر إلي العذراء الصغيرة ، وهي تنظر له ، فشعر أنه يذوب وجدًا ، وانبهارًا خطف روحه وسلب عقله ، وتاه قلبه من الوجد ، والحيرة والمباغتة التي دقت أبواب قلبه فجأة هكذا ، كوحي أتاه من السماء وهبط علي عقله وقلبه ، ووقف الفارس الأمير الهمام متوهجًا شاعرًا بحرارة ساخنة تملأ كامل جسده  لم يكن يعرف ، إنْ كانت بسبب العودة من المعركة أم من نار الحب ، ولكنه كان لا يزال واقفـًا ثابتًا في مكانه ، حينها انفتح الباب فجأة ، وعصفت الريح براقصة الباليه الفاتنة ، وطارت مثل فتاة رشيقة ، هيفهاء إلي الموقد حيث اشتعلت ، ثم انطفأت ، واختفت ، وذاب الجندي الصفيح وصار بقعة صغيرة،  أيضًا كان هناك علي الأرض طير سنونو ميت بجناحين رشيقين منهما ضمهما بقوة إلي جانبيه ، وانسحب رأسه ، وساقاه تحت الريش ،  لابد وأنه قد مات حزنـًا علي الراقصة البديعة أنجيلا أو ربما مات من البرد ، لا نعرف ما سر موته فجأة هكذا ، هذا الطير المسكين ،  حيث كانت أنجيلا تحب تلك الطيور الصغيرة جدًا ، وقد غنت له طيلة الصيف بعذوبة لكن الخلد ما صار له وجود  لكل الطيور بساقيه القصيرتين .

جاءتْ الخادمة  في اليوم التالي لتجمع رماد الموقد ، فوجدت الجندي الفارس ، وقد صار قلبًا صغيرًا من الصفيح ، أما راقصة الباليه ، فلم يتبق منها إلاّ الحلية الصغيرة ، التي كانت قد تفحمت .

 

الطفولة المرعبة

 

كانت تجلس في ردهة المستشفي كالعادة لعمل أشعة وانتظار نتيجة الجبس فى ذراعها اليمنى جراء كسر عند مفصل الكوع ، تنتظر ككل المنتظرين ، والألم يسحق روحهم ، والحزن يملأ وجوههم ، واللاجدوى ، وترقب الأمل أنْ ينجو من مرض أو عجز بكلمات الطبيب المنتظر، و أنْ ينقذهم من المصير المجهول ، ويرحمهم من الإجراءات الطبية التي تحتاج إلي صبر أيوب ، خاصة من يأتون هذا القسم ،  قسم العظام والجراحة أو المخ والأعصاب ، وغيرها من الأمراض المستعصية علي العلاج ، وفجأة، وبدون مقدمات ، جاءتْ سيدة في العقد الثلاثين تقريبًا جلست بجوارها وتحمل طفل لا يتجاوز الأربع سنوات ، شكله مغولي وملفت للنظر حتى لفت انتباه كل الجالسين ، وخاصة أنّ هذا الجزء من الردهة الطويلة الملتوية التي بها العديد من الغرف للتخصصات المختلفة ، وإنْ كان هذا الركن يخص قسم العظام (أو جراحة العظام) أكثر الأماكن زدحامًا ، تشعر فيه أنّ مصر بكاملها تعرّضتْ لحوادث أدّتْ إلى كسور مضاعفة ، أو عجز، فتنوع الكسر بين حامل عجاز أو عجازين ، أو يجلس على كرسي.. شلل تام أو مستلقي علي سرير بعجل يدفعه المسعفين ، الذين يعملون في سيارات الإسعاف وتستدعي النقل الطبي ، لعدم قدرة المريض بتاتــًا علي الحركة.

     دون أنْ أبدأ بأي حديث معها قالت بحزن شديد :

جاية من روض الفرج –علشان ابني المسكين- عنده عجز يوقف نموه عند 4سنين.. نظرتُ بشفقة بالغة ولم أرد ، واستطردتْ الجدة تــُـفسر ما قاله هذا الطفل المغولي .

البطة أنا علقتها..

     وتشير الجدة بحركة عند رقبتها أنه قتل البطة.. تصدقي يا حبيبتي.. نظرتُ بدهشة ولكني لزمتُ الصمت من المفاجأة.

     وقالت الأم – ولا أعرف تباهيًا أم سخرية أم خوفا منه :

ـ أمه اشترت عشرة كتاكيت ، وخنقهم ، والبطة فقست ثلاث بطات عند أمي (أي الجدة) خنقهم كمان .

ونظرتُ إليه نظرة طويلة بإمعان ، والخوف والرعب انتابني من هذا الطفل المغولي .

    وعاجلتني أمه بحسرة :

ـ طفل عدواني خالص.. حتى أخته الصغيرة لما يلعب معاها ، بيحط صباعه في بقه ويلحسه.. وأنا بخاف يأكله والله.. يا رب أقف جنبي وصبرني .

     ما يحدث أمامي سمّرني عن أي تعزيز أو سلوان واجب تقديمه  في ذاك الظرف الإنساني المأساوي للغاية ، وصمت تمامًا وفتحتُ فمي كالبلهاء والمعتوهة ، بينما كان تعليق الجدة ، ملخصا عميقــًا لمدي المأساة ، والفاجعة المرعبة.. وقد ضحكتُ ضحكة قصيرة استهزاءً و حزنـًا لا مثيل له :

بيقتل الكتاكيت ، ولما بيشوف القطة ويسمع صوتها بيبقي عايز يخربشها ، ويخنقها.. بكره يقتل بشر أو يقتلنا أنا وأمه مين عارف.. يا رب رحمتك ولطفك بينا.

     إلاّ أنّ الأم الشابة عاجلتْ حسرة الجدة بسؤالي بكل تلقائية : 

إلا يا أختي متعرفيش دكتور المخ وأعصاب هايجي إمتي….. 

مقالات من نفس القسم