قصص عمار على حسن بين جماليات السرد ونشدان العدل الاجتماعي

قصص عمار علي حسن
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد رشاد حسانين*

لا يمكننا أن نعرف التجربة الروائية لـ “عمار علي حسن” على وجه الدقة من دون المرور بالعتبات الأولى له، التي مثلتها مجموعاته القصصية، كألوان من السرد القصير، الذي انطلق منه لإبداع أعمال روائية فيما بعد.

 و”عرب العطيات” هى أولى المجموعات القصصية التي أصدرها وذلك عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة إبداعات في عدد هذه السلسلة الثالث والخمسين في منتصف يناير عام 1998م. غلاف المجموعة الخارجي يهيمن عليه اللون الأصفر وفي الثلث الأخير من الغلاف صورة لهرم باللون الأسود يتخلل الهرم خطوط بيضاء بعضها أسفل بعض، وربما يشير اللون الأصفر المهيمن إلى حالة من الخواء والجفاف والتصحر المعنوي وقد يشير الهرم إلى مصر باعتباره أهم معلم من معالمها التاريخية، أما الخطوط البيضاء التي تتخلل الهرم فقد تشير إلى خيوط الأمل في قلب الهرم (مصر) حيث يتطلع الجميع إلى الأمل.

وإذا تحدثنا عن ترتيب المجموعة وتنفيذ قصصها بإجمالي  فإن  عدد قصصها يبلغ (أثنين وأربعين) قصة قصيرة أورد الكاتب خمساً منها وهى أطولها بعضها في إثر بعض وهى ” تجلى يا ملامح محمد”، “شوارع الألم”، “أولاد الليل” “جحر من لحم” و ” طقوس السفر” ثم وضع بقية القصص تحت عناوين تجمعها معا فأربعه منها تحت عنوان “طقوس السفر” وقصتان تحت عنوان ” تراحيل” ثم قصة مفردة تحت عنوان “أنا مصري” وثمانى قصص تحت عنوان ” تقاسيم الهوي” واثنتان تحت عنوان “أقصوصتان للهوى” وتحت عنوان “أطفال” قص الكاتب أربع قصص ويلي ذلك القصة التى تحمل اسم المجموعة وهى “عرب العطيات” وقد شغلت صفحتين  ونصف فقط وأخيراً رتب سبع قصص تحت عنوان ” أوجاع” وقد حرص الكاتب على تذييل قصصه من قصصة ذيلها الكاتب بمكان وتاريخ كتابتها ربما للتذكرة بأجواء التجربة واستوائها والظروف المحيطة التي ألهمته فكرة القصة وعاطفتها ومن الملاحظات أيضاً إهداء كل قصة إلى شخوص بعينهم ربما لارتباطه بهؤلاء الشخوص ووجود ذكريات ما معهم بصورة من الصور:

وفي بداية رحلتنا مع عمار على حسن القصصي، نقف مع أولى قصص المجموعة “تجلي يا ملامح محمد” وهى قصة تنتمى إلى أدب الحرب وسبق وأن حازت على جائزة هذه السلسلة ونشرت ضمن مجموعة من قصصها المختارة.

وتتكون قصة “تجلي يا ملامح محمد” من عشرة مشاهد والقصة تتم روايتها عبر روح ضابط شهيد تتحدث عن العالم الآخر وربما كان عنوان القصة ممهداً لجوها العام. وكذلك للحدث الذي يرويه ذلك الضابط الشهيد.. إن العنوان يتضمن “التجلي” وكذلك “الروح” وكلاهما يوحى بالرؤية والكشف والقدرة على اختراق حواجز المكان والزمان والمعروف أن التجلي والكشف من مصطلحات الصوفية وكذلك الأدب الصوفي المتسم بزخم الدلالات وعمق الإشارات وتداعي الرموز والتنبيهات

    أما الأهداء فيهديها الكاتب إلى الجندي (شعبان شاكر) وهو أحد الجنود الذين كان يقودهم الضابط (الراوى) وقد رافقه طوال رحلة إصابته أثناء المعركة وحاول جاهداً إنقاذه من الموت وتجالد وحمله مصابا وشهيداً حتى استشهد هو بدوره.

     ومن المشاهد الآليمة في القصة والدالة على بشاعة الحرب وأهوالها يطالعنا هذا المشهد ص 20 من المجموعة حيث يسرد الراوي الشهيد: ” ها هى الجثث منثورة على التراب، عشرات في تتابع، بيادات تحتضن أقدامل منفصلة عن أجسادها، أجساد انشطرت وفقدت هويتها تماماً، رؤوس تبحث عن اجسام لتلتئم، أيدٍ مقطوعة منكسة، مفردودة على الحصى والرمل أو مقبوضة تعض على الرغبة في الحياة، أو تمسك جزءاً من سلاح، علب أغذية محفوظة مبعثرة يميناً ويساراً أجزاء من بنادق ومدافع وجنازير، دبابات وأسلاك شائكة وأجهزة إشارية ترقب الخواء. فوارغ ذخيرة ورصاص يبحث عن مقاتل”[1]وفي القصة توظيف لمشهد تفصيلي من مشاهد القتل والدمار يعمق دلالات القصة ويساهم في تطوير الحدث كتوظيفة لإصبع في يد شهيد مقطوعة وهو أصبع السبابة الذي كان يتدلي فيصبح كحرف الراء هذه الراء التي تلتحق بالألف واللام والثاء والألف الأخيرة المهموزة لتكون كلمة “الثأر” إنه مشهد ضمن مشاهد كثيرة وظفه الكاتب في مرحلة هامة من مراحل بناء القصة فكان وقفه مفصلية ومنطلقاً مناسباً جداً وملائماً لتطوير الحدث.

في قصة شوارع الألم والمهداه (إلى الأستاذ / أحمد طنطاوى) يتقمص الراوى شخصية إنسان مصاب بإصابة في وجهة نتيجة حادث وقع له في طفولته والإصابة عبارة عن نتوء بارز فوق العين يعاني الراوى من الجرح الشديد حين يري العيون تلاحقه أو يتجنبه الناس متوجسين والأشد ألماً حين يقرأ ذلك في عيون زملائه أو النظرات الصامته المتسائلة في عيون حبيباته اللاتي عرفهن على مدار السنين. يضطر الراوى إلى إجراء جراجة لإزاله النتوء المؤلم. أثناء الجراحة لا يملك ذلك الشخص إلا أن يكيل الشتائم والسباب إلى (العيال) الذين يعايرونه وكذلك الحبيبات.. والمرايا.. وكل الأطباء.. أطباء الامتياز.

حدث القصة يلج على الجرح والألم النفسي للشخص ذى النتوء محاولاً تجسيدكم الألم الهائل الذي يكابده المصاب أو المعاق أو صاحب أى تشوه خلْقى في نفس الوقت الذي ينبهنا إلى وجوب التعامل بصورة طبيعية بسيطة وسهلة مع مثل هذه الحالات حتى لا نزيدها ألماً على ألم ومعاناه على معاناه وهو المغوى الإنساني من القصة.

في قصة (أولاد الليل) التي يهديها الكاتب إلى جده (سيد أبو على) إنما تجسد الخيانة والأنتقام في أبشع وأدمى صورهما وربما تصدر لنا ما يجول في تصوراتنا أحياناً من عدم الثقة وديمومة التشكك في المجرم عريق الإجرام والذي يتظاهر بالتوبة والندم ويتعاهد على الاستقامة وقرأتي لها أكثر من مرة تكاد تجزم بهذه الحقيقة.. إنه اللص الذي أطلق عليه الخفير (أبو خلف الله) النار وسط حقل القصب وأصابة إصابة شديدة في رأسه فوقع مضرجاً في دمائه وكاد يلفظ أنفاسه لولا أن جرى إليه أبو خلف فوجده مستغيثا طالبا النجدة وعمل بما طلب منه اللص وجرى مسرعاً إلى داره وسكب على جرحه السمن فهدأ الجرح وتوقف النزف ولما علم أبو خلف بعد ليلة أو ليلتين أن صاحب حقل القصب سوف يحصده هرع إلى اللص وحمله إلى داره ليستكمل علاجه ويقضي عنده في بيته فترة نقاهته ولم يكتف أبو خلف الله بذلك بل جلب امرأة اللص وجعلها تبيت مع زوجها مفرغاً لهما حجرة فى الدار وذات ليلة سمع أبو خلف الله حركة في داره فتسحب بكل يقظة وحذر حاملاً فأسا متجهاً نحو مصدر الصوت والصادر من الغرفة العلوية حيث أغراض زوجته رشيدة وبعض مصوغاتها وتسلل الخفير فوجد اللص يقلب في “سحاره” رشيدة فوقف دون صوت وتقدم على أطرافه وما لبث أن هوى بفأسه في منتصف الرأس المدلى في السحارة (هوى الفإأس.. هوى.. هوى.. هوى ليستقر في مكان الجرح) *2.. هكذا يختم السارد قصة أولاد الليل ليضيف إلى المعنى والمغزى.. أن الجزاء من جنس العمل وأن الجحود والنكران لابد أن يكون عقابه شديداً.

وعن قصة “حجر من لحم” والمهداة إلى (شحاته عوض) فالراوي فيها يسرد لنا قصة مكابدته من النمل وشدة ضيقه وتواجده في كل مكان حتى اتخذ من أنفه جحراً له، ويتحدث عن محاولاته الكثيرة المتعددة في إصرار للتخلص من ذلك النمل اللحوح دون جدوى ووصل الأمر إلى مطاردة النمل له بالكوابيس أثناء نومه وذات ليلة رأي الراوي في حلمه أنه يمتطي “جوادا أبيض ويمسك بيدة سيفاً طويلاً لامعا وينادي في الجموع المزدحمة حول عربات الخضار والفاكهة في السوق – سأحارب النمل.. سأحارب النمل” *3.

فإذا استيقظ من نومة فزعا مذعوراً وجد النمل قد افترش جنبات صاله بيته بل وصل الأمر أن سبح النمل على لحم وجهه وتساقط من أنفه !

أنها قصة رمزية بامتياز إنه يتحدث عن حصار الناهبين لأرزاقنا السارقين لحياتنا.. إنهم المغامرون اللصوص المتحالفون مع السلطة… إنهم أعشاب الطحالب الذين انقضوا علينا ونهشونا من كل حدب وصوب.

وعن “طقوس السفر” وهذا العنوان الذي يضم أربع قصص فالراوي يستدعيها من ذاكرة الصبا والشباب المبكر ومن ضمنها قصتان إحداهما عن الأم وهى قصة “حنين” والأخري عن الأب وهى قصة “زمانه سافر” إن القصص الأربع تعود إلى زمن السفر والغربة والحنين، في بداية رحلة طلب العلم بعيدأ عن الأهل والدار.

وأقف ملياً على قصة “فانوس” وهى إحدى قصص المجموعة المتميزة… إن الأب الفقير يكاد يتمزق ألماً وحزناً حين يري ابنه الصغير قد انخرط في البكاء إذ لا يملك فانوساً صغيراً مضيئاً مثل فوانيس أولاد القرية الصغار. يتصرف الأب تصرفاً ذكيا وسريعاً فيعمد إلى أحد الصفائح في المنزل ويصنع منها فانوساً للصغير بعد أن غمس فرشاته في الأحمر ثم سائر الألوان الأخضر، فالأزرق… وبخمسة قروس أرسل ولده ليشتري شمعه ليكتمل فانوسه الصغير وتكتمل معه فرحته.. وتنتهي هذه القصة البسيطة العميقة بقول الراوى مشيرا إلى الفانوس:

“إشرأبت إليه الأعناق وتلاقت الأبصار على النور المنسكب من يده، المنبعث من فانوس غريب بدا أكثر جمالاً من كل فوانيس العيال” *4.

إن الفانوس يرمز إلى النور والأمل البازغ من وسط الظلام الدامس والحزن المحيط بنا.. وإن الفقر وشدة الحاجة يلهمانا إلى صنع الفرحة من أبسط الأشياء.. إن القصة تقول: مازال هنالك أمل.

ونلاحظ صياغة “فانوس” نكرة وقد أتت بهذه الصيغة في ظنى للتبسيط والتعظيم معاً.. تبسيط المادة وتعظيم المعنى المنشود منها والأثر الناتج عنها.. إن الأثر العظيم قد يأتي من أشياء بسيطة نحسبها تافهة. وإن تصرفاً لا يكلفنا شيئاً قد يجلب السعادة للآخرين.

قصص عمار علي

أما قصة “وجه” فهى تتناول أحد النماذج الإنسانية المقهورة المهمشة وهى شخصية “الفاعل” تلك الشخصية التي تروى عن نفسها بحزن عميق وألم دفين فتقول *5: “نري العمائر وهى تنمو فوق أكتافنا شيئاً فشيئاً” ومن جمال الصياغة اللغوية في القصة “للقصعة رجالها” والعبارة مكونة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر اتصل به ضمير يعود على الخبر والتعبير هكذا يقرن الشقاء بهذا النموذج الإنساني الفارق في الحرمان والاستلاب. وفي آخر القصة يأتي رد الراوي بكلمة “صحيح” بنبره تمتد بالألم.. الألم الناتج عن إحساس بالعجز والمرارة.

وتأتي قصة “تراحيل” لتعمق دلالات قصة “وجه” فالراوى يجلس مستنداً على حائط متذكرا رفاقة من عمال التراحيل والفواعلية وسط “بقايا الشاى وفتافيت الخبز وحبات العدس والفول” *6 إن جهد المسحوقين من مدمنى الخبز وحبات العدس والفول هو الذي رفع العمائر والقصور الفارهة للسادة المنعمين إذ ذرات الأسمنت المختلطة ببقايا الشاي وحبات العدس والفول لهى نتائج وأدلة قوية وبليغة تشير بوضوح إلى معركة شرسه المنتصر فيها إنما هو الاستغلال الشرس المرتهن بقائه بامتصاص دماء الفقراء والمحرومين وسحقهم سحقاً لاهوادة فيه ولا رحمة.

إن الراوي يتذكر أن رفاقه من الترحيلة والفواعلية قد رحلوا فينخرط في بكاء مرير.. إنه بكاء مفارقة الفقراء مقرونا بالحزن على النفس وحيرتها وحرمانها وعجزها الممض

ومن العبارات الموحية في القصة “صوت الرصاص تسلل إلى أحلام النائمين فهبوا مذعورين” *7 أيضاً “مع الأيام غار الدمع واستقر خيط الحزن الجاف في الذاكرة” 8.

إن تغييب بطل قصة “تضحية” بالموت الغادر إنما هو قتل قاس متعمد للأمل… أى أمل يبزغ في حياتنا !!

ومن الحزن والقتل والألم ننتقل إلى مجموعة أقاصيص (تقاسيم الهوى) حيث ثمانى قصص منها قصة “أين الحبيبة يا قمر” وفيها مناجاه بين الراوي والقمر المنير يسائله فيها عن الحبيبة التي أخذت منه بعض سماته.. غموضها، تألُق ضوء وجهها، سكونها وشعاعها المتسرب في وقار بالرغم من أوجه الشبه هذه إلا أن القمر ليس هو الحبيبة. لقد بحث الراوي عنها في كل مكان ولم يترك موضعاً إلا بحث فيه.. إن الراوى الذي يفتقد الحبيبة يستشعر في ذات الوقت وجودها المعنوى الكامن في كتبه وكراساته وأوراقه يقرؤها ويرددها إنها يحسها ولكنه لا يجدها فيعود ليسائل عنها القمر. إن القصة (المناجاة) لتبدو لوحه فنيه وجدانية عالية الآداء اللغوى الرهيف المستدعي بشفافية المشاعر ورقة العواطف.. إن القصة تذكرنا بروائع النثر الوجداني عند المنفلوطى والرافعي وأضرابهما عن آمراء البيان الشفيف. وفي بقية قصص هذه المجموعة (تقاسيم الهوى) تتابع العبرات والوجدانيات والصور البلاغية الجميلة مثل قول السارد الراوي: في قصة “الولد الصغير”:

“ترفع هامتك ويصوب سامك إلى شغاف روحها فتتدلى أجفانها في ارتباك وتحجب الأمل والرجاء” 9.

أما الأقصوصتان “بذرة عشق” و “برواز” فهما مصاغتان بخيال محلق ووجدان شعري فجاءتا أشبه بقصيدتى حب وعشق ويلاحظ بوضوح تسامى اللغة ورهافتها حتى إنها لتتجاوز نخوم السرد وتقبع في قلب الشعرية.

  • أما الأقاصيص الأربعة التي يضمها عنوان “أطفال” فهى مكتوبة بروح الطفولة ومادتها اللغوية منداحة من خيالها الخصب وكنت أعتقد أنه من الأوفق أن تضم هذه المجموعة قصة “فانوس”9.

أما قصة المجموعة ودرتها “عرب العطيات” فهى من صفحتين ونصف فقط إلا أن المؤلف أودع فيهما بهجة السرد ومتعته وجماله وحين نعترف بقيمة هذه القصة فإنا نشيد بها موضوعاً وصياغة وصورا وتأثيرا..

والقصة تتناول مزارعا أجيرا غريباً عن بلدته.. إنه رجل نحيف معلق وراء محراث يجرف التربة محكماً قبضته على المقود تحت حر شمس قد كشرت عن أنيابها.

في ساعة راحته يقيم الأجير أوده بقطعة جبن قديم وخبز جاف وشربه ماء وكوب شاى لا يبتلع وجع الغُربة في الرشفات المتهملة من كوب صاجي ملتهب” 10

بعدها يبدأ في اشعال لفافة دخانه “ويتصاعد الدخان حلزونياً ليذوب في الهواء المسافر إلى نجع “عرب العطيات” حيث هناك زوجه يتحلق حولها أولاده لا تستطيع أن تقول لهم إن “أباكم قد تأخر هذه المرة” *11 ومع تأخره عن قريته وحياته وزوجته وأولاده تتسع مساحات الأرض المحروثة وأيضاً تتسع مساحات الغُربة والحنين.

إن كثافة القصة وهى تختزل مضامين ودلالات عديدة إنما تعكس وعياً وفهما عميقاً لهذا الفن، فمن الحدث والموقف الواحد فن قوة التأثير والانطباع فن الشخصية وحضورها القوى المثير للانفعال والتعاطف.

لقد استطاع الكاتب أن يقاوم شهوة الاسترسال والتداعي ويكبح جماح حالة السيولة والتدفق حريصاً ألا تترهل قصته أو تغيب الحالة وتبهت.

والكاتب إذ يجعل الشخصية ترحل بخيالها إلى بلدته “عرب العطيات” فإنه يجعل المشهد تطورا مفصلياً يتيح للشخصية أن تستكمل زوايا المأساة وجوانب الحالة المستلبة المقموعة.. المقموعة بقسوة الفقر وألم الغربة والحنين.. يبقي أن نقول أن القصة يهديها الكاتب إلى (رفعت الزهرى) وقد كتبها المؤلف بلاظوغلى بالقاهرة في سبتمبر 1996م12.

في مجموعة الأقاصيص الأخيرة بالمجموعة والمتدرجة تحت عنوان “أوجاع” وهى تبلغ أقاصيصاً سبعاً – يتناول الكاتب في أقصوصة “لُقمة” مدير يأمر موظفا عنده بأن يأخذ أوراق رخصة استخراج سلاح وينهى الاجراءات في مديرية الأمن… في طريق الموظف وقرب ميدان الفلكي يجد الموظف فقيراً مهترىء الثياب يرفع يده ويلقف رغيفاً من بين فخذيه يمزع لقمة، يغمسها في التراب ويبتلع، يقهقه ويأكل”13 يسأله الموظف في دهشة “أتأكل التراب ؟!” يعطيه نقودا ويطلب منه أن يشتري طعاماً.. “ينظر إليه الفقير في توجس، عاد يضحك و في سرعة شديدة خطف الورقة من جيبه.. انهال عليه ضرباً.. لكنه قد كورها وألقاها في جوفه وراح يضحك ” 14.

إن القصة محاولة للانتقام من المتكبرين المتعجرفين – إن الفقير ذاك الذي يبدو مخبولاً سلب المتعجرف السلاح الذي انتوى أن يقتل به الفقراء والجوعى… إنه الحلم بانتصار الفقراء والمحرومين.. الذين وصل بهم الحال إلى أكل التراب !

اما قصة “الحجرة ” ففيها يتناول الراوي موقف شخص ذهب لزيارة صديقة فوجد بيته مغلقاً، تصيبه الحيرة إذ أن النافذة كانت مفتوحة.. فيصرف حزيناً متجهماً، يجلس في مقهى ويعود ليجد النافذة مازالت على حالها الأول ينتهي إلى محطة أتوبيس يحاول تفحص الرؤوس عسى أن يري صديقه.. تمر ساعات وهو قابع في المحطة… “يلمح مع الزحام جسداً يهم في سيره يغطس ويبين” 15 يجري خلفه منادياً: محمود… محمود… يتذكر وينتبه “فمحمود خرج في الصباح يريتدى قميصاً أزرق أما ذاك الذي رآه فيرتدي قميصاً أبيض…” ومع ذلك ظل الشخص “يجري خلفه وينادي في إلحاح شديد… شديد”.

إن محمودأ رمز للأمل أو ذاك العزيز المفقود، الذي نبحث عنه متحرقين ومتشوقين وفي سبيل حضوره نتعلق بأي سبب يقودنا إليه ونسعى وراء مُلحين حتى لو كان وهما أو خداعاً.. إن البحث عن الأمل إنما هو سعى وإصرار وهو معذرة تنفى عنا التقصير والخنوع لجحيم الأمر الواقع.

أما قصة “وطن” وهى مصاغة نكرة للتعظيم ففيها – يري الراوي أثناء سيره في “الميدان” عشرين شرطياً يتقاذفون شابا نحيلاً وباعه الميدان الجائلين يهربون بعرباتهم وأقفاصهم إلى جوف الأزقة… يلمح الراوي فتى قادما من أحد شوارع الميدان الجانبية يهرول نحو قلب الميدان في يده كتاب وشعره يهفهف في النسمات”16 راح يتابع الفتى وهو يغوص في الزحام.. يخلف الفتى جمله مخنوقة بالدمع “غدا سنحررك يا وطن” 17.

إن نداء الفتى “يا وطنُ” المسبوقه بأداة النداء، جاء المنادي فيه نكرة مقصودة مبنياً على الضم وهى حركة إعرابية جوهرية.. إنه الوطن الذي نحسه ونعرفه ونشفق عليه مما هو يرزح تحت قسوته ويكابد ظلمة وتعسفه.

إن القصة مكتوبة في باب اللوق في إبريل 1996. ويشاء الله القدير أن تتحقق مقولة بطلها الفتى في 25 يناير 2011م في زينه الميادين… ميدان الثورة… ميدان التحرير إنها قصة “نبوءة” ونموذج “للاستشراف” الفنى الشفيف.

وفي نطاق التحرق والشوق للأمل تطالعنا قصة “ليمون” التى تصر على ذاك الأمل رغم كثافة الحجب ورسوخ العقبات الكئود. وهكذا تطوف بنا هذه المجموعة من الأقاصيص بين متناقضات… بين أسباب ودواعي القهر والتشبث في نفس الوقت ببزوغ نور الأمل والإصرار الرائع على تحقيقه… إن جُل المجموعة القصصية “عرب العطيات” ربما تتبنى هذين الخطين مع احتفاء ظاهر بالتصوير الفنى وقدرة واضحة في بناء الشخصيات الإنسانية الدالة بمواقفها وردود أفعالها مع فهم واع وعميق لمتطلبات فن القصة القصيرة فن الاختزال والتكثيف.. فن الجنس الأدبي المراوغ.

**************

ونعيش مع مجموعة قصصية أخري للكاتب عمار على حسن وهى مجموعة “أحلام منسية” الصادرة عن دار شرقيات في طبعتها الأولي عام 2005م.. المجموعة يؤلفها إحدى عشرة قصة يهديها الكاتب إلى أبطال المجموعة القصصية إلى “هؤلاء المتعبون الذين يصيدون أحلامهم البسيطة خارج هذا العالم القاسي وينشدون الأمل والاعتراف”* إنهم من يراهم البعض “معاقين” وهم يرون أن لهم الحق في السعادة.

ومع أولى قصص المجموعة وهى بعنوان “صائد الفراغ” وفيها يتقمص الكاتب شخصية مريض بالصرع ويروى على لسانه واصفاً حالته، معاناته وأحلامه التي لا يوليها أحد إهتماماً.. أحلامه التي لا يحسها ولا يكترث بها أحد حتى أقرب الناس إليه وأكثرهم حنواً به… إنه شاب في الثالثة والعشرين من العمر ابن عائلة يمنية يعمل عائلها في الإمارات وتجاهد العائلة لتدخر عشرين ألف دولار تكلفه العملية الجراحية المفترض أن تُجري للشاب وسط نفقات ضرورية ومتطلبات يومية.. يتراءى للشاب أن يبحث عن عمل ليختصر رحلة إدخار المال ويخفف عن اسرته في رحلة بحثه عن العمل وعادته في الجلوس على مقهى قريب من منزل الأسرة واعتياده شرب الشاي الأسود الثقيل – يتعرف على صديق عراقي مقيم في الإمارات يتقاسمان وجع الغربة والبعد عن الأهل والوطن… ذات ليلة وأثناء جلوسه على شاطئ الخليج تقترب منه فتاه جميلة تسأله عن الوقت يرفع وجهه إليها بالإجابة مبهوراً بجمالها: ست… ستة… إلا… إلا… ربع ” يعود محلقاً من الفرحة.. يحكى لأخيه عن الفتاة ينصرف عنه لينام “ثم أغمض عينه وتركنى والحزن ينشب مخالبه في روحى فيأكلها”19… دائما ما يعرض عنه أخوه الموظف بإحدى الدوائر الحكومية ويعترض على صديقه العراقي ويقول له ناهرا إنه في سن أبيه لم تعلق الأم وعقاباً لهما لم يتناول زياد أقراصه فداهمته نوبه الصرع وحمله بعض الرجال. حين أفاق وجد جمعا من الناس حوله ووسط زحام الأجساد كانت أمه جالسه عند صدره.. أخذته إلى البيت واعترف لها بأنه لم يتناول جرعته لأنها في الليلة السابقة تركته ونامت.. امتلأت عينا الأم بالدموع وراحت تحتضنه وتمسح شعره بأصابعها النحيفة “التي كانت بضة قبل أن يقول لها المدرسون أننى في حاجة إلى تغيير مسار تعليمي”.. لقد تغيره مساره ولم يتمكن أبداً من حصوله على الشهادة الإعدادية لكنه كان محباً للشعر عاشقاً له قارئاً لدواوين وشعراء نصحه صديقة العراقي بقراءتها.. ذات يوم فكر أن يجرب حظه في حلم النشر فأرسل لإحدى الصحف قصيدة من عشرين بيتاً من الشعر الحر كانت القصيدة حين كتبها تتدفق على الورق في دفقات… ظل يتابع جريدة “الاتحاد” الاماراتية التي أرسل لها القصيدة حتى كان يوما يجلس على مقعده المفضل في منزله يتأمل اللوحة التي تواجه مجلسه.. اللوحة تحمل صورة لحديقة صغيرة غناء تطل على بحيرة رائعة وهناك نافورة وثلاثه مقاعد خشبية فارغة.. وجد نفسه على المقعد الأول وفتاته على المقعد الثالث وأما المقعد الثانى “فكان صفحة من جريدة تتراص فيها أبيات قصيدة يعلوها اسمه ببنط أسود عريض” مد يده.. أمسك بيد فتاته.. الرغبة تشتعل في جسده طوقها بذراعيه وأمطرها تقبيلا “.

هكذا تتحدث شخصية “صائد الفراغ” عن النفس.. المرض.. المعاناه.. الألم.. الأحلام والرغبات التي تشعل النفس وتؤلم الجسد وتؤرق البال وتشغله.. هكذا تزداد معاناه: مريض الصرع بعدم الاهتمام بأمره والإنصات له وتزداد معها الحالة سوءا وانتكاساً.. وهكذا أيضاً تحب الشخصية وتعشق بل تقرأ و تتذوق الشعر وتكتبه وتحلُم بأن تنشر على صفحات جريدة مشهورة.. إن الإعاقة لا تمنع التفوق ولا تلغي الموهبة بل إنها تكون أحد أسبابها ودافعاً قوياً من دوافعها.

إن المعاق في حاجة شديدة ضرورية وملحة لأن يفهمه الآخرون وينصتون له ويقدرون مشاعره ولا يسخرون من أحلامه إنهم في حاجة شديدة وماسة لأن نشركهم في أمور حياتنا وإهتماماتنا ومن المؤكد أننا ستفاجأ بروعتهم إن القصة يتصدرها مثلُ صينى يقول: “أخبرني سأنسي. أرني فقد أتذكر، أشركنى سأعى وأفهم”.

وتأتي قصة “لوعة الغياب” لتجسيد مأساه من مآسي المعاقين التي نرى يومياً – الإعلانات عن ضياعهم في الشوراع وعلى صفحات الجرائد اليومية أو التنويهات عنهم عبر بعض القنوات التليفزيونية.. إن الأب يفترسه إحساس عميق بالحزن المفعم بشعور الوحدة والفقد والضياع بعد أن تاهت ابنته ويزيده مكابدة وألماً أنها معاقة ذهنياً.

يبدأ الأب المسكين الذي تجاوز الحمسين من العمر في رحلة بحث مُضنٍ عن ابنته قطع فيها أميالا وأميال من البحث والسؤال دون جدوى… في إحدى الشوارع النظيفة الهادئة المصطفة على جانبيها الأشجار.. يسمع الأب رنه ضحكات صادرة من داخل أحد القصور.. يحاول الأب المتلهف دخول القصر مغافلاً حراسه لكنهم يدركونه ويوسعونه ضرباً.. يلقون بالأب نازفاً دماءه- إلى الشارع -هو لا يزال ينادي “عبير.. هل رأي أحد منكم عبير” !!؟

إنها القسوة والتجرد من الحول والقوة حيث الفقير ريشة في مهب الريح لا يستطيع أن يملك من أمره نفعاً بل أن أمره وسوء حاله ما ينفك جالباً له المزيد من التعاسة والشقاء.. وحيث حفنة من ساكنى القصور يعيشون وراء أسوارهم منعمين وقد حالت بينهم وبين الغالبية الكاثرة من المحرومين أسوارا عالية وحراسا أفظاظ ومشاعر متبلدة

وفي نفس المجموعة “أحلام منسية” تطالعنا قصة “مات مفتوح العينين”21 وفيها يؤثر الأب – بعد أن سحب ملف ابنه المعاق من المدرسة بعد ان طلب منه الناظر – أن يلحقه بمدرسة – فكرية – فآثر أن يأخذه معه ليعمل في الزراعة كان الابن يستيقظ عند الفجر وبصياحه العالي – يوقظ أهل الدار – الأب المزارع، الأم الحنون الكادحة في خدمتهم، أخاه الصغير وأخواته البنات – يسحب الجاموسة وراء أبيه، يرعاها ويسقيها.. يري بنات القرية يأتين عند الساقية ليملأن الجرار، تنفرج عيناه الواسعتان عن أخرهما، يفتح فاه وقد برزت منه أسنان صفراء مدببة، الخوف يملأ قلوب البنات… يهدأنه ويخمدون النار في جسده حين يلاطفنه وتقول له إحداهن مروضة أياه “تعالي لتخطبني في المساء”… يذهب لأبيه مُلحاً على الزواج.. يقول له: ” بعد أن نبيع القطن” يردد متأففاً: “قطن، فول، ذرة…”. بعد موت الأب العائل والأم الحنون يواصل عمله.. يتعرض يوماً لإحدى بنات القرية متحرشاً.. يتسامع بعض الرجال صرخات البنت… يهرولون ناحية الصوت.. يهرعون إليها ويوسعونه ضرباً وركلاً.. يحملونه إلى داره ويلقون إلى أخته حفنة من المال نفقات علاجه.. يرقد متألماً وتزداد حالته سوءا.. تحاول أخته إدخال الفرحة في قلبه… تقول له: “سنخطب لك البنت خضرة بنت أبو حسين”.. يبتسم.. يطلب ماء.. تستيقظ أخواته البنات وأخاه الصغير.. يقول لهن “نوركن كفاية، يتحسس شعر أخيه الصغير… لقد كان يودعن ويستسلم للموت في هدوء وسلام وعينه الواسعتين لا تزالان مفتوحتين. إن القصة تنبهنا بقوة لهؤلاء المرضي وتدعونا لرعايتهم ومعالجتهم بالحنو والحدب… وتنبهنا أيضا أنهم مثل الأسوياء لهم وجدان وعواطف وحاجات جسدية تمور بالرغبة وتشتعل تحرقاً لممارسة الحب وإفراغ شحنته والركون إلى الراحة والهدوء من وخزه ولسعه.

ومع المجموعة القصصية الثالثة لعمار على حسن “التى هى أحزن” والتي أصدرها عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2013م عن سلسلة “كتابات جديدة” المجموعة يؤلفها ثمانى قصص في مائتى صفحة ونيف، على غلافها الأمامى مستطيل أصفر على جانبه الأيمن صورة لفلاحة مصرية وأسفله يطالعنا مستطيل أسود عليه صورة قدم منتعلة صندلاً وخارج المستطيل على جانبه الايسر القدم اليسري. ولكن تبدو نصف مساحة القدم اليمنى داخله بنصف ماحة الغلاف تقريباً بيضاء اللون، ومشكلة خلفية المستطيلين عليها.

يلاحظ عدم وجود إهداء أو تصدير للمجموعة، ومن ثم فقد بدأت بعنوان أولى قصصها وهى “غرفة تهزُها الريح” وقد نشرت أهرام الجمعة على صفحتها الأولى يوم 31 يناير سنه 2014 هذه القصة ومعها أربعاً أخُر من نفس المجوعة هى: إشارة، شبح الظهيرة، ينتظرون، دموعه ووابور الجاز.

في “غرفة تهزها الريح” يصادف الراوي رجلاً على المقهي يبدى تبرماً وضيقاً شديداً ويصدر منه شتائم بحنق شديد، يتعاطف معه الراوي بعد أن رأه يصرخ ثم يكاد يسقط مغشياً عليه فقام إليه يسنده ويثبت جسده على الكرسي. طلب الرجل من الراوي توصيله لبيته.. وهما يسيران أخرج ورقه من جيبه وأعطاها للراوي وطلب منه قرأتها بصوت عال. كانت قصيدة شعر بعنوان الخائنة بنت الخائن ويقصد زوجته.. قال للراوي أنت الوحيد الذي سأسمح له برؤية الخائنة وعيالها الأشرار. لما اقتربا رأى الراوي بيتاً قديماً قد تهالكت جدرانه يعلوه حجرة فوق السطوح يسكنها الرجل تكاد تهوى من الريح وتطير.. فكر الراوي أن ينفلت من الرجل لكنه سحبه بشدة.. استأذنه الراوي ليشتري علبه سجائر قال له بائع السجائر الذي رآهما يسيران معا: “يسكن سطح بيت مهجور ويتخيل أنه متزوج ولديه أولاد يحسبهم وأمهم الخائنه ولا ينوى أبدا أن يفرج عنهم أو يترك غرفته التي تهزها الريح” 22.

الشخصية إذن رجل وحيد على بداية مرحلة الشيخوخة سرقت عمره السنون وربما عجز عن الزواج وتكوين أسرة لفقره وقلة ذات يده، ملحاً عليه حلم الزواج والأسرة، يزداد إلحاح هذا الحلم عليه مع كبره وعجزه حتى يتمكن من تفكيره ووجدانه فسيطر عليه ويصبح لديه الوهم حقيقة.

برع الكاتب في رسم شخصية الرجل المريض وفاجأنا بنهاية القصة التي شحن في سطورها الأخيرة لحظة التنوير كما برع في رسم خلفية الخوف الذي انتاب الراوي وسيطر عليه خلال مصاحبته القسرية للرجل ورسم خلفية تثير الخوف كانت أشبه بموسيقي تصويرية تعمق هاجس الخوف والمحظور القادم22.

أما قصة “إشارة” فهى أشبه بفيلم سينمائي قصير يجري حدثه بمشهدين متوازيين ولكنها متناقضان كل التناقض. مشهد أتوبيس عام مزدحم يكاد يختنق ركابه ومشهد سيارة خاصة فارهة يقودها رجل ومعه ابنته وزوجته الحسناء الإشارة الحمراء توقف كل من الأتوبيس والسيارة ليتوازى كل من السيارة والأتوبيس وتبدأ المفارقة وتداعي الصور المتناقضة… الزوجة مستريحة راقدة… الركاب في الأتوبيس يتعذبون… البنت في السيارة تشتكى برودة التكييف ولد في الأتوبيس يفتح نافذته ليتنفس ورأسه تكاد تصطدم بالموسيقي الهادئة المنبعثة من سماعات السيارة والهاربة إلى أذنه.. إنه شريط سينمائي قصير لكنه ذو دلالات وتجسيدات صارخة وبليغة عن حياتنا التي شطرها التميز الطبقي ومزقها ذلك البون الشاسع بين غالبية محرومة منسحقة وأقلية تعيش على امتصاص دمائهم أولاً بأول دون هوادة أو شفقة – إن الكاتب يصور ويجسد ويحرك مشاعر القارئ ويثير تساؤلاته دون جلبة أو ضجيج إنه يفعل ذلك بشروط الفن الجميل وقواعدة فقط… فن القصة القصيرة المكثفة. 

     في قصة ” شبح الظهيرة ” بائع قصب فقير رآه الراوى يحمل حزمة كبيرة من القصب، يلقيها أرضاً من شدة التعلب – يلوذ بظل شجرة من حر الظهيرة، يلقي جسده تحتها ويذهب في نومٍ عميق.. يجلس الراوي يقرأ تحت نفس الشجرة، حين يستيقظ الرجل عصرا يسأله الراوي عن كلب جاء أثناء نومه العميق وكان يلعق شاربه ثم تمدد وبجواره نائماً، أخبره البائع أنه ليس له… يقول للراوي: إنه يحمل القصب كل يومٍ عصراً يبيعة للشباب الساهرين على قهوة “عبود” ويحكي: إنه لا يجد إلا تلك الوسيلة ليكسب عيشه بعد أن كانت له قراريط عشرة يزرعها ولكن انتزعها منه المالك… ويقول إنه كان يتمنى أن يسافر ليري كل البلاد فهو لم يفارق قريته منذ مولده.. يقترب موعد السعي، يطلب من الراوي أن يساعدة في حمل حزمة القصب وينصرف ساعياً ووراءه يسعى الكلب الذي لا يعرفه وكان يلحس شاربه وهو نائم.

     إن ” شبح الظهيرة ” بدت قصة طامحة لاعتلاء مقام رفيع في ارتقاءات القصة القصيرة وبلاغتها… إنها تطرح الصدق الفنى والانحياز الانساني باختزال مكثف وآداء فنى عالى المستوى… الرجل الفقير الذي انتزعت قراريطه المعدودة انتزاعاً قاسياً دون جريرة أو ذنب… بعدها الدخول في دوامات توفير لقمة متواضعة لمجرد العيش والبقاء… الكلب اللاهث الجوعان الذي يلحس شارب الفقير النائم وكأنه يواسيه ثم يرقد بجواره نائماً وكأنه يشاركه حالته ويطلب ما يطلبه من قسط خاطف من الراحة بعد تعب الجوع ومسير السعى.. استيقاظ الكلب وسعيه وراء الرجل وكأنه يصر على مرافقته وعدم مفارقتة. إن الفقير المعدم ليجد من الرحمة والشفقة مالم يجده في البشر.. إن الله في خلقه شئون.. إن عنوان القصة شبح الظهيرة وياله من عنوان يوحى بالإزاحة فضلاً عن الإنكار والنفى.

     في قصة ” ينتظرون دموعه “.. يتوقع أهل القرية أن ينفجر الحفيد صراخاً وعويلاً على جدته التي تولت تربيته ورعايته بعد وفاة ابنتها.. كان في الحقيقة يطوى حزنة العميق في قلبه.. استقبل المعزين ومرت ليلة العزاء كما تمر مثل هذه الليالي منصرفاً كل من حضرها إلى شأنه ودنياه.. حين وصلت العربة التي كانت تجلب السلع للجدة ورآها الحفيد أنفجر في بكاء حار سمعته القرية كلها.. إن مجىء العربة التي كانت تركبها الجدة وتضع الحفيد بجوارها حين تصل القرية ثم تعطيه الحلوى – فجر ذلك المشهد – حزنه المطوى فأنخرط في بكاء جالباً معه قصة الحب والوفاء والعرفان – إن المغزى والدلالة – ليس الحزن الصادق بالرياء – إنما الحزن أو الفرح الصادق قد لا يحسه إلا صاحبه فقط ونادراً ما يتبدى إلا لذوى الحس الرهيف والبصيرة النافذة.

    في قصة ” وابور الجاز “… يحترف شعبان مهنة إصلاح بوابير الكيروسين.. يعيش من دخلها القليل لينفق على نفسه وأخته في مدرسة التجارة.. اعتاد شعبان أن ينزل القرية لممارسة مهنته.. ظهور وابور الشرائط يواكبه تضاؤل رزق شعبان ويتضاءل أكثر بصورة ملحوظة بعد ظهور البوتوجاز.. شعبان لا يزال يزور القرية لإصلاح بوابير الكيروسين التي عفا عليها الزمن… يستند إلى سور أحد البيوت.. تطل من البيت امرءة عجوز، تبدى كثيراً من العطف وهى تعطيه كيسا به بعض كيزان الذرة قائلة له “بدلاً من أن تعود ويدك خالية” 23.

    إنها الحقيقة التي لا مفر منها ولا مناص ألا وهي أن للتطور مزاياه كما أنه له ضحايا أيضاً ولكن في غمرة سقوط الضحايا لا ينتبه أحد فيسحقهم هذا القادم الجديد وبذلك يصبحون في ذمة التاريخ في هدوء ودون جلبة والقليل من ذوى الحس الإنساني هم الذين يرون ويلاحظون ويساعدون ولكن على قدر إمكاناتهم المتواضعة 

    في قصة المجموعة والتي حملت العنوان ” التي هي أحزن” أقول تجاوزاُ قصة ولكنها في الحقيقة رواية.. فالعمل بلغ أكثر من مائة وخمس من الصفحات.. وانساب السرد فيه متمهلاً غير عاجل وشخصيات العمل استوفت بنائها الإنساني ومكوناته – عبر التقنيات الروائية المتعددة من سرد ووصف وحوار. وبناء القصة عامة تم شحنه درامياً عبر قميمة غنية زاخمة تتناول قضية اجتماعية سائدة وشائعة وهى قضية تعدد حالات الطلاق في المجتمع وفشل الكثير من الزيجات خاصة في الوسط الشبابي إضافة إلى مشكلات أخري تتعلق بالفتاة المصرية وأحلامها ورمانسيتها التي قد تكون مجافية لحقائق الواقع وما يجري على الأرض.

    القصة مجازاً – لأني اعتبرها رواية كاملة – يستوقفنا أولاً بصددها – العنوان ” التي هي أحزن ” وقد يكون المقصود بها الشخصية الرئيسية في القصة وهى “غدير” صاحبة المأساة ذات السيرة الدرامية الحافلة بالانتكاسات والإحباطات والخروج من دوائر العذاب والمعاناة دائرة إثر دائرة ومن ألم ومكابدة إلى ألم ومكابدة والتركيب النحوى لجملة العنوان يسترعي الانتباه فلو أوًلنا العنوان كما نذهب لكان “غدير التي هى أحزن” وبذا يكون اسم الشخصية الرئيسية مبتدأ واسم الموصول (التي) خبر وأما جملة (هى أحزن) فلا محل لها من الإعراب لأنها جملة صلة الموصول لكنها اشتملت على ضمير يعود على الموصول ويربطها أى جملة الموصول بـ (الضمير) وحين نقول أن جملة الموصول لا محل لها من الإعراب فقد يعنى هذا – ربما – أن أحزانها لا تعنى أحداً ولا يقدرها أحد أو يعيرها اهتماماً – إنما هى فقط التي عانت منها وقاست ويلاتها وحملت وحدها أسبابها وذاقت بمفردها مُر نتائجها والضمير (هى) يشير أيضاً إلى اسم الموصول ويعينه ويؤكد حضوره. أى حضور غدير في لُجة الحزن وقلب المآساة التي لا تتوقف مع استخدام اسم التفضيل (أحزن) ومن معطيات هذا الإسم الدلالية – كما هو معلوم – دلالة التوكيد. وأزعم أن هذا التأويل للعنوان ربما يساعدنا كمدخل للتعامل مع النص (الروائي) تفسه والتعايش معه بصورة أفضل وأكثر إنتاجية للتلقي وللعملية القرائية.

وبعد:

فإن غدير – التي هي أحزن نشأت وسط أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة – بكل ما تعنى هذه الطبقة – من دلالات اجتماعية وثقافية – أبوها يعمل ضابطاً بالجيش وأمها ربة منزل أعطت كل حياتها وجهدها لتربية أولادها – تربية محافظة – منذ صغرها لفتت “غدير” الأنظار بحسنها الآخاذ وجمالها الساحر الفتان الذي لا يقاوم لم توفق في الحصول على مجموع يؤهلها للجامعة وانتهي بها المطاف التعليمي لشهادة من معهد متوسط – توالى عليها الخُطاب وطلاب الزواج منذ المرحلة الثانوية – الأول: كان ابن عمها (لكنها لم تشعر تجاهه أبداً بأى إحساس إيجابي).

الثاني: كان ضابطا بالجيش، تحمس له أبوها بحكم المهنة والهم لكن بعد أسابيع قليلة لم تلق فيها معه الحب أسرت إلى أمها أنها لا تريده خاصة أنه كان ضعيفاً أمامها ودائم التودد والتزلف لها.

الثالث: كان أيضاً رائداً في الجيش وكانت غدير في الستة عشر ربيعاً وهى سن تميل في هذا الوقت – إلى من هم في سن أبيها أو أقل – لما تري فيه من النضج والخبرة ومع تكرار اتصاله التليفونى بها – هاتف أباها وطلب مقابلته وطلب يدها للزواج ولكن رفض الأب وكذلك الأم لسبب بسيط وهو أنه كان متزوجاً إلا أنه كان يعاني مشاكل كثيرة مع زوجته ورأي في غدير ما ينشد من الراحة والحب وهى ايضاً مالت إليه كثيراً لما أبدى نحوها من الحنان والاهتمام ولكن رفض أبيها وأمها كان حاسماً.

الرابع: صاحب عقار جعله مركزاً للدروس الخصوصية كانت غدير تأخذ دروسها هناك – شاب ثري وصاحب خبرة طويلة مع الفتيات والنساء وله باع في هذا المجال تقدم إليها وعرض استعداده التام للزواج بها وبأعباء الزواج جميعاً – كان الشاب إضافة إلى إعجابه بها – قد رأي فيها وبمواصفاتها الشكلية – سيدة مجتمعات وصالونات – يمكن أن تفيد في علاقات المصالح والبيزنس – وبدأ يغدق عليها الهدايا والفساتين وبخاصة الفساتين القصيرة التي تبرز فتنتها – لكن الأمر لم يرق للأم التي ربت ابنتها على السلوكيات المحافظة وفي ذات ليلة وأثناء مناقشة أمور الزفاف ولوازمه أخذ الحوار بين الأم والشاب يتوتر ويسخن شيئاً فشيئاً حتى وجه الشاب إلى الأم عبارة مهينة، قائلاً لها: ” يجب أن تنسي ابنتك تماماً بعد أن تأتي إلى بيتي” وهنا انتفضت غدير وحسمت أمرها وقالت له ” موضوعنا انتهي” ثم ما لبثت أن أعطته دبلة الخطوبة والخاتم الماس رافضة شخصه في إصرار.

الخامس – وما أدراك ما الخامس – كان “عزمى جابر” الطبيب الشاب الذي أدمى حياتها وأطاح بأحلامها الرومانسية في فارس الأحلام الذي طالما تخيلته وهى جالسة على صخرة على شاطئ البحر وقد جاء على بساط الحب ليحملها إلى آفاق لامتناهية من العشق والرومانسية وعذوبة خيالات العذاري.

لقد كان حياتها مع عزمى جابر سلسلة من الآلام منذ ليلة الزفاف – فعزمى الطبيب الطموح، الرجل العملي الذي لا يأبه للعواطف والمشاعر ولا يعترف إلا بالأساليب العملية الواقعية في الحياة خاصة فيما يصب في دائرة المنفعة وتحقيق الطموح – هذه التركيبة على النقيض تماماً من شخصية غدير الهادئة الحالمة الرومانسية الجميلة – لقد صدمت غدير بعزمى – فبمجرد أن خلعت ملابسها حتى انقض عليها ولكن العروس كانت في فترة الدورة الشهرية فما كان منه إلا أن صرخ صرخة مدوية أيقظت أهل البيت جميعاً وضيوفهم حين دوت من الطابق الأعلى لمنزل الأسرة حيث أقامت غدير وعزمى مؤقتاً لحين تدبيره شقة جديدة.

هدأ الأب من روعه، ومر الأمر بسلام.. شيئاً فشيئاً بدأت بذور التناقض والخلاف تنمو وتكبر وتمتد فروعها وتتشابك وتتعقد – بذور كانت ملقاة في تربة الواقع والزمن تبدأ من:

  • الانتماء الطبقي لكل من أصول أسرة غدير “الغنية” وأسرة الطبيب التي تعود إلى أصول ريفية “فقيرة”.
  • تصورات كل من عزمى وغدير ونظرة كل منهما للزواج والحب والحياة.. فعزمى رجل عملي نفعى يقضي وطرة ويطفئ نار شهوته فقط لاغير وغدير تري في الزواج عيونا وهمسا وكلمات شفاه وقبلات حارة كانت تظن من فرط براءتها أنها سبب الحمل بين الرجل والمرأة. أما عزمى “فكان يقع عليها كالبهيمة” يطعنها بعنف ويدهس جسدها 24” دون مقدمات ودون حنان وتهيئة نفسية فسيولوجية !!

   اتسعت الهوة بين الزوجين وازدادت اتساعاً بعد سفره للعمل في جده بالسعودية حيث رافقته هناك وطلبت منه أن تملأ فراغ حياتها بالعمل فوافق وعملت معه في المستشفي الذي كان يعمل به في التمريض ورأت كيف يعامل الآخرين في عمله بالأدب الجم والرقة المتناهية لتزداد هي دهشة وعجباً من مفاجآت تناقضاته.. تنجب غدير من عزمى توأم – ولد وبنت – وتترك الوظيفة لترعى أولادها في شقتهما بجده وتطلب من عزمى أن يعلمها فنون الشات والتعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي وتدمن هى المسألة خاصة في ظل فراغها العملى وجفاف حياتها الزوجية المفتقرة للحنان والتواصل المزاجى والنفسي وتطلب من عزمى العودة لمصر وتعود بأولادها “ومع مطلع كل شمس تعلو الجدران بينهما وتزيد مساحات الغربة”.. لقد وصل الأمر بعزمى إلى إغلاقه كل نوافذ البهجة أمامها فإذا أشعلت على مائدة العشاء شموعاً أطفأها وإذا فتحت مذياعاً لتسمع الموسيقي أوقفه وإذا استمعت لها على شريط ألقي بالجهاز على الأرض أو قطع بكرته الناعمة25 !!

     لقد عانت غدير من تصرفات عزمى الغريبة وحيرها كثيراً “حب جارف ومعاملة غاية في الأدب والوفاء والعذوبة مع أهله وبين قسوة عليها وتعذيب لها ” 26

     لقد رفضت الأم رغبة غدير في الطلاق فاضطرت غدير أن تطلب الطلاق صراحة من عزمي، جادلته فطار صوابه وصفعها موجهاً إليها يمين الطلاق بعد أن طرحها أرضاً بين طفليها.. واستطاع عزمى بأن يرجع المياه إلى مجاريها بعد جلسه مع الأب والأم اللذين أفهماها – أن طلاق الغضب لا يقع ولا ينفصل الزوجان إلا بعد الطلقة الثالثة. حاولت غدير أن توسط خالها في موضوع طلاقها لدى أبويها وكان متعاطفا معها فلم تفلح المحاولة.. يأتي عزمى من سفرياته إلى الخليج لا تجد غدير ثمة تغيير حدث تصر على الطلاق بعد نقاش آخر عاصف فيوقع عليها اليمين الثاني ويلوح لها الخلاص في الأفق وتكتشف غدير عن طريق أخ صديقة لها خيانة عزمى مع امرأة اشترت له سيارة كانت امراءة مطلقة في أواسط الأربعينيات من عمرها فقيرة الجاذبية قليلة الحسن. وفي جدة أيضاً تتابعت عليها الأيام بلا فرح ولم يطرأ تغيير على عزمى وكان الخلاف والنقاش يحتدم بينهما بين الحين والحين ويتوفى والد غدير وتتأبي غدير على عزمى وينقطع التواصل الحميم بينهما وينشب الجدل بينهما كالعادة ويوقع عليها يمين الطلاق الثالث وتصر على استلام ورقة الطلاق من السفارة المصرية وتعود بها إلى مصر وتشاهد الأم وتحس أحزانها ووحدتها فتتأسف لها لأنها لم تنصت لها مرات عديدة. ويأتي عزمى من إجازته ويأخذ الأولاد معه إلى جدة وتجد غدير نفسها بلا مشاغل حقيقية فتقلبت بين عدة أعمال ووظائف وكانت تطمئن على أولادها بين الحين والآخر بالاتصال التليفونى… تعود إلى الشات وكتابة الشعر والعودة إلى اأحلامها الرومانسية الأولى حين كانت تنتظر فارس الأحلام ليأخذها بعيداً… تعود إلى واقعها مرة أخرى لتجد نفسها وحيدة في شقتها بمصر الجديدة فتأتيها رغبة عارمة في البكاء..

   هكذا تؤول قصة عبير مع عزمى وتنتهي- إلى الفراغ والوحدة بعد أن تركت له الأولاد حتى لا يكون ذلك سبباً في عودتها له وهكذا تعيش مع مآساة مرارة هذه الوحدة والأحلام الرومانسية الصريعة لفتاة تزوجت وهي لا تزال في سن المراهقة في السابعة عشرة من عمرها وفشلت زيجتها فشلاً ذريعاً.

    ولا يبقي لنا بعد عرض القصة (الرواية) والتعرف على أهم أحداثها وشخصياتها إلا أن نتناولها فنياً واقفين على أهم عناصرها الروائية ونسجل وقفتنا النقدية على النحو التالي:

أولاً: الفعل السردي وزواية التبئير:

تأتي (التي هى أحزن) على لسان راوٍ عليم محيط بالشخصيات والأماكن وتصل إحاطته إلى دواخل شخصيات العمل وما يدور في نفوسهم وخواطرهم من أفكار ومشاعر ورغبات وصراعات وربما أتاحت لنا – زاوية الرؤية هذه شيئاً من الاتساع وأحاطت بظروف الحدث وفسرت ردود الأفعال وتباينات المواقف.

عنصر الزمان الروائي:

غير محدد الملامح ولم يتعين ولو بالإشارة أو التلميح قالأيام والأسابيع ورحلات السفر والعودة للطبيب عزمى وزوجته غدير تحدث دون تحديد زمنى ولا يتحدد الزمن إلا بحلول الليل بصفة خاصة أو سحاب رمادي تُعتم أو شمس مشرقة في النادر القليل ليتوافق ذلك مع حالات غدير النفسية ويتمم لوحه معاناتها الآليمة.

عنصر المكان الروائي وامتداده:

تمتد مساحات مكان الأحداث وتحرك الشخصيات من القاهرة ومصر الجديدة إلى السعودية ومدينة جدة ويلاحظ معرفة الراوي الجيدة بهذه المدينة وبأهم ميدانيها وشوارعها ومحلاتها والمراكز التجارية الشهيرة بها وقد أفاض الراوي في ذلك من خلال جولات أسرة غدير وتنزهاتها القليلة في صحبته وأولادهما واستشعر أن هذه الرواية كتبت هناك حين كان الراوي الضمنى يقيم هناك.

الصراع:

ربما أهم ما يميز هذه الرواية هو عنصر الصراع وهو يتبدى على عدة مستويات:

  • صراع الرؤى والقيم ودواعي التنشئة.
  • صراع غدير الجوهري مع عزمي والتطور في علاقاتها معه من الصمت إلى الاحتجاج إلى الرفض والهجر إلى الطلاق.
  • صراع الأب والأم مع غدير أيضاً حين كانا يفرضان عليها ما تكرهه ويرفضان الاستماع عليها وتفهم مشاعرها بحجة الحفاظ على أسرتها.
  • صراع خفى يداري انتماءً اجتماعياً وطبقياً تواري خلف مواجهات غدير مع زوجها.
  • صراع غدير ومعاناتها النفسية والجسدية حين كانت تتعرض في كل مكان لعبارات الغزل والإعجاب ونظرات الجوع والشهوة من الشباب والمعجبين ما ضاعف معاناتها وحرمانها وألهب رغبتها إلى الجنس وتمنت لو ذابت في خضم الفعل الجنسي.

رسم الشخصيات:

لعب السرد والوصف والحوار بنوعيه (ديالوج ومونولوج) أدوار أساسية في تقديم الشخصيات والتعرف على مكوناتها الجسدية والنفسية خاصة الشخصية الرئيسية المأزومة وهى غدير وبدت شخصياتها نامية متطورة مع تطور مسيرة أحداث حياتها، أما شخصية عزمى فقد بالغ الكاتب – فيما استشعرته – في تصوير سلبياته وتقصيرة بل شهوانيته ودناءته وإعلاءه للقيم المادية وحرصة على استكمال إمكانات الوجاهة الاجتماعية دون أى اعتبار واعتقد أن الكاتب بالغ في ذلك كثيراً، لأنه ليس هناك شخصية مهما كانت من السلبية – تخلو من عناصر وسلوكيات إيجابية وربما أشير إلى جدة واجتهاده وتحمل مشاق الغربة والسفر وحدبه على ذوى قرباه المنتمين إلى أبيه وأمه. هذا فضلاً عن فحولته الجنسية والتي تحولت عند غدير إلى مصدر من مصادر شقاء غدير وألمها (من وجهة نظر الراوي).

العقدة والتنوير (الحل):

وتمثلت في وصول الخلاف والشقاق والصراع بين غدير وزوجها إلى ذروته ومن ثم تفرض لحظة الانفراج حضورها وذلك بالطلاق والانفصال.

لغة الرواية:

اللغة هى أداة الكاتب ومادته الخام ومدى احترامه لها وتمكنه منها أحد العوامل الأساسية في حضور وتمكينه الأدبي والثقافي بصفة عامة ولوحظ في مجموعات عمار على حسن الثلاث، كما يلاحظ في مقالاته وبسط آرائه على صفحات الجرائد والمجلات أنه ذو علاقة حميمة وطويلة باللغة ويبدو متسماً بالدقة والتمهل في استخدامها ما عكس ما اتسم به أسلوبه من وضوح وإشراق المفردات واستخدام الموحى منها في التوظيف الشعوري واللالى مع قوة نسج وإحكام عبارة وقد راعى في حواراته أن تأتي اللغة مكثفة موجزة حاسمة بما يتناسب مع جوهر الحوار من التأثر والتفاعل القولي وتبادل الإشارات والإيحاءات.

وفي نهاية قراءتى لهذه المجموعات القصصية الثلاث أؤكد على عنوانها الذي أوجز القيم المطروحة فيها وأقصد عنوان القراءة وهو (عمار على حسن – من عرب العطيات إلى التى هي أحزن. ملحمة الفقر وحلم العدالة الاجتماعية).

…………………

*دراسة قدمها الناقد أحمد رشاد حسانين عن القصة القصيرة لدى عمار علي حسن في ندوة عقدت حول أدبه ببيت السناري عام 2014 ولم تنشر من قبل.

 

[1]  “عرب العطيات ” عمار على حسن – الهيئة العامة لقصور الثقلفة – سلسلة –إبداعات – العدد (53)- القاهرة منتصف يناير 1998

*2  “عرب العطيات ” ص 48

*3  المصدر السابق، ص 57

*4  المصدر السابق قصة “فانوس” ص 87.

*5 “المصدر السابق” ص 95.

*6 “المصدر السابق”، ص 100 

*7 المصدر السابق قصة “تضحية” ص 115

8 المصدر السابق قصة “تضحية” ص 116

9 المصدر السابق – قصة “الولد الصغير” ص 127.

10 المجموعة “عرب العطيات” ص 187.

11المصدر السابق نفس الصفحه. 

12 السابق ص 188

13 السابق ص 202

14 السابق ص 204

15 المجموعة الصفحة السابقة

16 المجموعة ص 216.

17 المجموعة الصفحة السابقة.

18مجموعة “أحلام منسية” د. عمار على حسن، المقدمة ص 7.

19 مجموعة “أحلام منسية” ص 16.

21 “أحلام منسية” مجموعة قصصية د. عمار على حسن، ص 44.

22  مجموعة “التي هى أحزن” عمار على حسن ص 10

22 أنظر المجموعة 9.

23 “التي هي أحزن” عمار على حسن ص 46.

24  “التي هي أحزن” المجموعة، ص 116.

25 “التي هي أحزن ” المجموعة، ص 126.

26 ” التي هي أحزن” المجموعة، ص 128.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم