سينما 30 …   كسر هيمنة المسرح

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ضحى الورداني

سحر السينما يبدأ من الغرفة المغلقة التي تبعث ضوءها السحري لينعكس على ستار فضي نكتشف من خلاله عوالم وأزمنة وأماكن مختلفة تثير أعيننا وأرواحنا بحيث تصبح معينًا لا ينضب ينتظر من ينقب فيه بجهد بعينه البشرية داخل إطارات مرئية، وتمتلك لغتها الخاصة التي تميزها عن أنواع الفنون الأخرى، أما ما نحن بصدده الآن فهو عرض مسرحي - و كما يعرف المسرح فهو أبو الفنون بسبب حقيقة ضمه للفنون السبع المختلفة - طرحه المخرج "محمود جمال" يكشف فيه علاقة المسرح بالسينما في عرضه "سينما 30" الذي طرح ضمن فعاليات المسابقة الرسمية للمهرجان القومي للمسرح المصري في دورته العاشرة ــ دورة الأستاذة نهاد صليحةــ على خشبة مسرح العرائس وهو نتاج فريق كلية التجارة الخاص بجامعة عين شمس، فكيف طرح العرض جدلية العلاقة بين وسيطين مختلفين عن طريق ثلاثة مراحل مختلفة؟


ما قبل العرض كانت واحدة من أساسيات استحضار العرض وكان ذلك عن طريق نزول شاشة بيضاء إلى مقدمة خشبة المسرح –شاشة السينما- لتشرع في بث حالة من النوستالجيا السينمائية المصرية الخاصة بأفلام الأبيض والأسود والتي تراوح طرحها لأفلام متعددة منها “الرجل الثاني، غزل البنات، لعبة الست، شئ من الخوف، دعاء الكروان، الزوجة رقم 13، اللص و الكلاب، جعلوني مجرما، الزوجة الثانية، الأرض” والعديد من الأفلام المخلدة في الذاكرة لندرك من أول لحظة من لحظات العرض الفعلي أن اللقطات الفيلمية لم تكن اعتباطية بل كانت ممهدة لطبيعة العرض المسرحي الخاص الذي سيبدأ في قضيته وفكرته الخاصة والذي يتوافق مع أولى عتبات العرض وهو عنوانه “سينما 30” لنجد انفسنا أمام الغريب القادم من القاهرة إلى الريف وهناك يحاول تصوير فيلمًا سينمائيا ناطقا لأول  مرة وبطبيعه  الحال يصطدم برموز السلطة الحاكمة المتمثلة  في العمدة والمأمور ورجل الدين ولكنه يتسبب في إحداث يقظه لأهل القرية وكما هو معلوم فإن الحقيقة والرغبة في حماية الذات كثيرًا ما تكون الطريق الأسرع إلى التهلكة.

 

 

تذكرنا شخصية “المخرج الغريب” بنصوص مسرحيات “هارولد بنتر” حيث الغريب الذي يأتي ليغير الأحداث الراكدة ونستطيع عن طريق قدومه إدراك الرؤية المختلفة لنظرة الأطراف إلى المركز وهو ما شاهدناه هنا لحظة قدوم المخرج والمصور إلى البلدة حيث نظرات الدهشة والإعجاب التي انتابت أهل القرية و كأنهم يروا تحفة فنية يخافوا أن يلمسوها حتي لا تصاب بالقاذورات، أما كلا من المخرج والمصور فقد اختلفت رؤيتهما للأمور، فيما يخص المخرج فقد كان مندهشًا لرؤية أشخاص بسطاء سعداء وهو الأمر الذي كان بمثابة الضد لرؤية المصور الذي شعر بالتقزز محاولا ألا يحتك بهم وإن حدث احتكاك كان يرفع صوته عليهم بسبب نظرته الاستعلائية، ومع كل تلك الشخصيات المختلفة والتي مثلت كتلة حقيقية على خشبة المسرح إلا أن “الحديدة” هي بطلة العرض وأقصد بالحديدة هنا “الكاميرا” فأول ما ظهر أمامنا على خشبة المسرح كانت الكاميرا في موقع عمق خشبة المسرح الأمر الذي جعلها تحمل مكانة متميزة عن طريق التشكيل ولكن الأمر لم يتوقف عند ذلك فقد كانت السؤال الأول لكل من يعبر أمامها ناظرًا لها نظرة تأملية  تحمل أحلامًا بريئة مع موسيقي حالمة، ومرة ثانية علي مستوي التشكيل باللعب في الفراغ حيث قسمت خشبة المسرح إلى نصفين متساويين وهما “حضور أهل القرية وحضور الكاميرا” لنجد أن المسافات المتساوية جعلت من الكاميرا معادلاً لكل الأهالي وذلك بسبب طبيعتها المرآوية فهي التأريخ والتأكيد على حضورهم ووجودهم .

الطبيعة التأريخية للسينما هي  سبب مهاجمات العمدة ومحاولته منع إخراج الفيلم ، فقد أصبحت الكاميرا الدليل الفعلي على الفساد الذي يتم نتيجة سوء السلطة وزيف الخطاب الديني الذي يعمل لصالح أصحاب المصالح لتصبح الكاميرا سلاح فعلي يكشف زيف الدولة البوليسية المغلفة بغلاف ديني هش معتمدة على سذاجة بعض  الأهالي، إذا كان المسرح يمتلك خاصية الحدوث الآني و الفعلي فالعرض هنا يتحدث عن تيار السينما الواقعية الأولى مما يجعل الآداء التمثيلي للفيلم مسرحيا إلي حد كبير بما يحمله من إيماءات وبعض المبالغات التي وضعت قصدًا من أجل إضفاء روح الكوميديا في عالم مأساوي يتكون من قمع و ظلم و ذل، لم يكن ذلك الاستحضار الأول، فقد سبقه ذكر استحضار أفلام مصرية قديمة في مرحلة ما قبل العرض وهو ما عمل علي تشكيل الوعي الخاص بالمتفرج ليدخل معه دون وعيه داخل عام 1930 حيث قمع الفلاحين الناتج من عمداء القرية الأمر الذي يجعلنا نتذكر سريعا أحداث فيلم الزوجة الثانية وأيضا مقولة “زواج عتريس من فؤاده باطل” فرغم عدم وجودها على خشبة المسرح إلا أنها قد هيأت تلقائيا نتيجة الجو العام للعرض المسرحي .

المصور هو الوجه الآخر  “لعبد السلام النابلسي” في الأفلام القديمة حيث شخصية صديق البطل الذي يرافقه  في بقاع الأرض و يمرا معا بشتى التجارب المختلفة، كذلك حديث فتاة البلد عن آلة الجرامافون ينير الذهن سريعا لفيلم دعاء الكروان حيث الدهشة الأولي لوجود مثل تلك الآلة الناطقة؛ بدأ تاريخ الفن بهيمنة فن المسرح إلا إنه عن طريق التطور وبعد فترة زمنية طويلة تم كسر تلك الهيمنة عن طريق السينما وهو ما أكده العرض المسرحي طوال فترة عرضه في مرحلة ما قبل العرض والذي بدأت بمادة فيلمية ثم مرحلة العرض والتي اهتمت بالحديث عن الكاميرا والشغف بها والرغبة في تصوير فيلم متحرك، وصولا إلي المرحلة الآخيرة وهي مرحلة ما بعد العرض وهنا لا أقصد انتهاء المسرحية وإنما هي مرحلة الانتقال مرة أخرى من وسيط مسرحي إلي وسيط سينمائي حيث تم عرض مادة فيلمية باعثة على الأمل و الفرح وهو الفيلم الذي أراد المخرج وأهل القرية إخراجه إلي النور فكانت النهاية السعيدة  بنجاح علاقة بطلا الفيلم، وهو المعاكس عن نهاية مرحلة العرض ـالمرحلة  الثانية- والتي انتهت بتكالب أعيان البلدة بأمر من العمدة لرجم وعقاب كل من عارض الأوامر، لنصل بذلك إلى أن السينما هي نبض الحياة  حيث عدت المكان الحالم الآمن الذي يدفئ القلوب عن طريق تجربة شبابية مسرحية تستحق التقدير والاهتمام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة مسرحية

 

 

 

مقالات من نفس القسم