قبلة مع الرّيح لن تصل أبدا

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 قصة : إسماعيل غزالي *

وحيدا على ما يبدو كآخر جندي فلت من بطش غزوة ماحقة ، أستظل بشجرة برتقال عانس و أنا أنشر أطرافي المنهكة بنحاس التعب فوق كرسي ضئيل ، بمسامير صدئة و أحجار مسنونة يشهرها الإسمنت المغشوش ، البارد كحائط زنزانة ازرورق لها خد السجين .شريدا سقطت متورم القدمين وقد تسكعت طويلا في أنفاق المدينة وشعابها المأهولة بفراغ تسطو فيه شمس كما معلمة عجوز تلقن تلاميذها آخر الدروس المبرحة في ولع الجمر ولوعة الأفران .لم يخطر على جاهلية  بالي أن ألقي بجثتي على ما تبقى من ظل الكرسي و أن يكون هذا الكرسي الملعون مقابلا بالضرورة  لشرفة مشرعة يمرح على حبل غسيلها فستان امرأة أعزل . لابد أن تكون غفوة قد سرقتها بعيدا في تخوم قيلولة من بنفسج ، بانتظار أن تستفيق لتنعش أندلس بياضها برذاذ دوش يسرب كهرباء الألق الى حرير عضلاتها الخمرية البتول وهي الفترة الكافية لكي يجف الفستان المهيأ لسهرة الليلة الباذخة .

كيف يمرح الفستان في شرفة هذه المرأة والظهيرة تستفحل فيها شمس جاثمة على أنفاس الجهات ؟  و كأن المدينة في سرير إنعاش ، تتنفس برئة اصطناعية ،  تعودت كا ئناتها العيش على أمل أن يطوي الله حصيرة النهار ويندلع من غرب المساء النسيم العزيز لينفتح الزهر الميت في الدم المنقوع الذي يضخه باضطراب مزمن القلب العليل . هذا ما لم أجد له تفسيرا إلا بمنطق احتمال وحيد يتيم أقنعت به دبابير الخيال وهو أن الفستان يمرح بفعل أمواج الهواء التي يتلقاها من مروحة كهربائية شغلتها المرأة قريبا من الشرفة وهي تغفو كلبؤة على الأريكة المحاذية . لم أكد أغمض عيني راسما المشهد في خيالي الطائش حتى أثارني  تحليق الفستان وهو يتطاير من حبل الغسيل في الشرفة و أخذ يتهاوى كما شبح إلى أن سقط على حمامة النافورة المهدمة وغطى جزءا كبيرا منها ، فسقط معها الإحتمال الذي حاولت أن أقنع به الحيوان العاقل الذي يشاركني السكن في هذه الكيمياء الغريبة المسماة جسدا .

لم يكن الأمر مجرد تهيؤ وإن كان ملح التعب قد حفر الأخاديد في فضة عنفواني و أنا أنزلق من درب إلى درب  ، أتسكع مثل كلب تعيس تنكرت له العشيرة ، أبدد الحنين بالركض واللهاث في الأزقة عند كل ظهيرة زاندة .

و أنا أرنو إلى الشرفة ربما تستيقظ المرأة لتتدارك ما حل بفستانها الغائب عن الشرفة .  أعاود رصده وهو يكاد يغطي مجسم الحمامة على النافورة المعطوبة ، سأشعر بدبيب حشرة على ساقي فأنهض بصعوبة جسيمة كاد أن يتكسر لها جذع  جسدي ، و أنضو عن ساقي كم السروال مشمرا عنه حد الركبة كما لو كنت سأقطع مياه نهر و أكتشف خنفساء سوداء عالقة أرجلها المسنونة بالشعيرات المتاخمة للربلة ، حاولت إسقاطها وتمسكت أكثر محدثة ألما ارتدت له الرجل بكاملها كوتر قوس أطلق سهما لتوه ،  وتداعى لها صوتي بأنّة محدودبة عندما نحجت أخيرا في أن أنزعها كما لو أنزع ضمادة عن جرح غائرو أطرحها بعيدا دون أن أقتلها كما قد يفعل أي آدمي ما دامت كائنا حيا ، يقاسمني الوجود على الأقل في قعر هذه الظهيرة الجحيمية داخل حديقة فارغة تماما ، إلا من فستان امرأة كان يمرح قبل قليل في الشرفة وتطاير لأسباب يجهلها ديكارت نفسه ليتساقط على مجسم حمامة النافورة المخربة ، وعلى ذكر الفستان والأسباب اللاديكارتية التي حاول الحيوان العاقل الذي يشاركني السكن في هذه الآلة الطروادية المسماة جسدا أن يجد لها التفسير الطبيعي كي يصير للأشياء التي حدثت معناها المقبول أو المطلوب بالأحرى . فقد رفعت نظرتي في جهته لأطمئن على رسوه وهو يكاد يغطي الحمامة البيضاء ، فانشطرت نظرتي وهي تقع على مجسم غراب بدل حمامة بيضاء وهو الإنشطار الذي سينتقل إلى كل يقظتي الغائمة و أنا أرنو  إلى الشرفة من جديد و أكتشف أنه ما من شرفة موجودة بل يافطة إشهارية – إلكترونية – على ظهر عمارة لإمرأة تعرض لباسا داخليا ، صدرية وتبان كحليين وهي تنتصب بكامل صرح جسدها المنحوت على حافة مسبح ، تشهر ابتسامة في وجهي وترسل قبلة بحفنة يدها مع الريح لي  ، ثم تغطس برشاقة كما سمكة في مياه المسبح الزرقاء المسبوكة كما صفحة مرآة .

قبل أن تصل قبلتها المهرقة في الهواء وجدتني أميل كما برج ليزا إلى أن التصق وجهي بضلع الكرسي .

قبل أن تصل القبلة تناهى إلى مسمعي هسيس الخنفساء تشق طريقا في العشب الأصفر .

قبل أن تصل القبلة غاب عن وعيي كل مشهد الظهيرة القائلة في الحديقة وبصيص ضئيل من النور في عيني استقر على نقطة السواد أي الخنفساء وهي تتفاقم كلما دبت على الأرض إلى أن عم كل السواد ليلا مدلهما في رأسي وانخرطت في نوم قيلولة نحاسية .

لم أعرف كم من الوقت استغرقه نومي الموشوش إلى أن استيقظت على وقع دبيب ورعشة في ساقي ، فنهضت لأتبين الدغدغة والرعشة المعتملة أسفل ركبتي لتعتليني الدهشة العارمة و أنا أكتشفني على ضفة نهر مشمر الساق كأنني على أهبة العبور إلى الضفة الأخرى وفراشة بيضاء تستقر أسفل ركبتي حيث اشتبكت الخنفساء بالشعيرات قبل أن أغفو في الحديقة ، ستحلق الفراشة الوديعة إلى زهر متناسل بجانبي ويلفت نظرتي فستان  امرأة منشور على شجرة دفلى في الضفة المقابلة – هو نفسه الفستان الذي كان يمرح في الشرفة قبل أن يتطاير ويسقط على حمامة النافورة –  وغير بعيد عنه تسجع حمامة على غصن كرمة . من وراء شجرة الدفلى ستشرق امرأة عارية إلا من صدرية وتبان كحليين ، وتنتصب على صخرة في حافة النهر ، تشهر ابتسامة في وجهي ، وبحفنة يدها ترشقني بقبلة مع الريح ثم تغطس كما سمكة محدثة دوائر إهليليجية على صفحة النهر .

 

قبل أن تصل القبلة التي أهرقتها المرأة في الهواء طارت الحمامة من غصن الكرمة وحط مكانها غراب أزعج بنعيقه الحاد سكينة الوادي الغريب .

قبل أن تصل القبلة تطاير الفستان محلقا في وجهة غير معلومة .

قبل أن تصل القبلة حلق الغراب بعيدا وهو يدلق نعيقه في سماء المشهد وبصيص النور الغائم في عيني يرصده كنقطة سواد أخذت تتفاقم وتتراكم إلى أن آلت إلى سحب مدلهمة سرعان ما أرعدت و أجهشت ببرق منذر بهول عاصفة أو صاعقة بالأحرى .

قبل أن تصل القبلة وصلت المرأة إلى ضفتي و أشرقت من تحت المياه كما عاشقة تموزية في أسطورة ، غير أن الرعب استشرى في وجهها وهي تصيح بي :

           ويلتاه … إنه البرق .

وجدتني أبتسم إليها و أنا أصيح بها :

           مرحى … إنه المطر …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

* قاص وشاعر من المغرب

 

[email protected]

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم