فصل من رواية “قوارب الشمع”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسمين مجدي

 

" قطعني حتت وأقليني في الزيت

قدمني طبق شخرم وبطيط " 

 

    الخالة - التي ليست أختًا لأمي - كانت تنتظرني جالسة على الرصيف إلى جوار كنيسة الراعي الصالح عندما وصلتُ المدينة في هدوء الظهيرة والسكان نائمون.. نادت عليَّ وسألتني لماذا تأخرت في الطريق. ثم أمرتني بالذهاب لزيارة العائلة، لأنهم لم يروني منذ زمن طويل، وهي لا تريد استقبال الكثير ممن يخلعون الأحذية داخل الشقة ويلوثون الأرض.

    

تنبهينني يا أمي بأنني سأقيم عند امرأة تقضي الوقت بلا زمن، فالخالة تسكن في شقة كانت تطل على البحر، لكنه أنسد الآن، ولم يبق لها في المواجهة سوى نافورة كبيرة.. وأنها ستكرر هذه الجملة كثيرًا. تدندن بصوتها كل صباح، وتصر على شرب قهوتها على السبرتاية. ثم تأمرينني يا أمي بهدوء بالبقاء لديها لفترة معينة من أجل إنجاز مهمة، دون أن تمنحينني أي فرصة للاعتذار عن إتمام ما أردتيه.. وبدوري استسلمت لقرارك.. حملت حقيبتي، وذهبت.

    لحظة استقبلتني الخالة أخذتني للكورنيش. لتجعلني أشم معها رائحة البحر الحاضرة والقوية في كل الشهور التي تحمل حرف الراء، سبتمبر، وأكتوبر، ونوفمبر، ديسمبر، يناير، فبراير، على أن تكون رائحته مالحة وقوية.. في تلك الفترة تشتري أحلى السمك، الذي يهجر بحره في الست أشهر الأخرى.. يصبح ماءً آخر.

      تمد الخالة يديها إليه، وترحب بك من خلاله، في زيارتي القديمة الوحيدة التي أذكرها للمكان تستقبلتنا بسمكة كبيرة، تقول أنها السمكة ذات السم القاتل، لأن بداخلها كيس سم، إذا انفتح أثناء التنظيف، يتسرب السم للسمكة كلها وتفسد. وضعت الخالة في طبق مجاور شوربة الصيادية الحمراء، المملوءة بالسمك. ثم مارست بعد الغذاء حرق السكر لإزالة رائحة الزفر.

     تحذرنا من أن السمك يجذب القطط، ثم تحكي لنا عن أم القطط، التي كانت تبيع بضاعة غالية جدًا، وكلما تقدم بها العمر قل سعرها، نسألك لماذا؟ فتقولين أن الثمار حين لا تباع طازجة تفسد. في النهاية تبقى أم القطط وحيدة، تعيش مع زميلاتها الأخريات في حي الفجالة بشارع صدقي، وتجمع حولها عددًا من القطط، بعدما لم يعد يرغب الزبائن بها. سيبدو فمك غريبًا جدًا يا خالة، أخبر أخوتي أنني أرى بينما تتحدثين بيوتًا وشوارع وأعمدة إنارة وبعض الوجوه التي تظهر بسرعة ثم تذهب، لكنها تبقى موجودة بالداخل. سيلومَكِ الكبار حينما يجدونك تكلميننا عن تلك المرأة، وتأخذنا أمهاتنا من أمامك، من ورائهم أتسلل وأسألك إذا كانت أم القطط لاتزال على قيد الحياة، فتقولين أنها رحلت منذ زمن.

 

     تتحلق الأمهات حولنا ونحن نرى باندهاش مجموعة كائنات بحرية في طبق واسع. فجأة تنفتح القوقعة الصغيرة، وترش الماء في وجوهنا، نصرخ ونجري، يقولوا أن اسمها “لجز” و”سريديا”. وحينما تحزن البنات لفساد شعورهن، يظهر صبي صغير يأمرنا بأن نفرح، فالفتاة المحظوظة هي من سينفتح لها القوقع، ويصيبها الماء. للمصادفة أنها لم ترش ماءً ثانية إلا حينما رحلنا مع أمهاتنا، فحزن الصبي لأن لعبته لم تتم، وصرخ بأنه ربما يتبخر .. أو يطير.. سيختفي بطريقة ما.

     بكيت لأمي وطلبت أن نعود.

    تبدو الحدوتة بعيدة، كما لو أن سنوات كثيرة مرت عليَّ منذ حينها. وتبقى مدينة مثل حلم يتألق على حافة وعي لا تصدقيه بالكامل. لم تعد أمي قادرة على حملنا والمجيء بنا إلى مدينتها بعدما تزايدت أعباء انتقالنا وواجبات المدرسة والحقائب للملابس التي نوسخها سريعًا. لذا فالعائلة التي تتعرف عليك لتوها لا تملك الكثير لتتباهى عليك به. تصرف الآن مثل الأمراء الآتين من بعيد، كأنك من الجنة وكأن كل ما عشته وفعلته جميلاً، وفي المقابل احتمل ثرثرة الآخرين للتودد إليك بوصفك زائر جديد. لديك الآن منحة لإقامة شخص آخر يكونك.

    تصرف كأنك تولد الآن.. فلا أحد يستطيع استعادة أسرار هيئتك القديمة.

     الصبي كان اسمه رامي.

    أعود إلى مدرستي لأخبر البنات عن البلدة البعيدة جدًا… التي بيننا وبينها ساعة ونصف وطريق طويل من الصحراء، أكدتُ للبنات أنهن قد يضلوا الطريق لو لم يكن لهن أقارب ينتظروهن على الناحية الأخرى، وربما لو ذهبوا وحدهن لن يجدو خلف كل تلك الصحراء أي بلد، لكنني سأعطيهم حجة عندما يمتلكوها قد تتكشف لهم، وهو أن يدخلوها بأقدامهم اليمنى، يبحثوا على الأرصفة عن رجال بجلابيب رمادية يبيعون سمكًا صلبًا بني اللون، يشبه في هيئته العظام، ويسمونه “ثرمباء”، يقودكم السمك المجفف، لتجلي الحجة الأولى. أحضرت معي من زيارتي قطعة منه، أخوِّف البنات بها، فيصرخن ويجرين مني. تنادي المشرفة عليَّ، لكنها سرعان ما تنبهر هي الأخرى بالسمك الذي بلا عينين ولا فم، قطعة صلبة صماء صغيرة مثل فرع شجرة تثير حكايات.

    وأصحاب الحكايات لهم أجساد كبيرة وسمينة ومملوءة باللحم.. تتحرك أمامكم طوال الوقت، في الطرقات والأحلام، وعلى أبواب البيوت.

    يتم تقسيم البنات على فريقين من أجل لعبة كرة السلة. يتشاجر الفريقان لكي أنضم لأحدهما، ويخيِّروني، فأُملي شروطًا كثيرة لكي أوافق على الانضمام لأيهما، ثم أسمعهم يقولون أنني إذا أمسكت بالكرة وجريت، لا أحد يستطيع الوقوف في مواجهه جسد مثل الحائط.. يتراجعون ويقولون مثل بالونة.

    الحجة الثانية للوصول هناك أن تصلوا ركعتين في مسجد سيدي الغريب لكي لا يأتي الحزن لأنه سيكون أول جامع معروف يقابلكم. الحجة الثالثة ألا تزوروها في الرابعة عصرًا لأن جميع السكان سيكونوا نائمين.. في الليل يمكنكم بدأ رحلة على الكورنيش، لكن الماء وقتها سيكون منحسرًا. كونوا غرباءً على طبيعتكم في المدينة.

 

    واستسلِموا للحجة الرابعة، الموجودة في نهاية المدينة على شط القنال.. البجعة البيضاء القابعة في الحديقة. أحيانًا يربط البجعة صاحبها في سلسلة صغيرة إلى جوار شجرة، وفي أحيان أخرى يطلقها، ترمح في الحديقة، أو تتقوس وتنام، وحينما تفيق تحك ريشها، وتفرد جناحيها في شموخ. إلى جوارها تبحث العائلة عن الخالة كلما لحت عليهم وتذكروها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوارب الشمع

رواية صدرت مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ياسمين مجدى

روائية – مصر

ــــــــــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم