وإذا كان الكثيرون من الأجيال السابقة والحالية قد انفضوا لأسباب – مازالت غامضة بالنسبة لي حتي الآن – عن كتابة القصة القصيرة، فإن محمد خير يقدم تجربة مدهشة وطازجة، ربما كان أهم ملامحها ذلك التكثيف الشديد والابتعاد عن كل ما هو سابق التجهيز من مشاعر ورؤي وأحاسيس.
لا أظن أن محمد خير قبل أن يبدأ الكتابة، يعرف بالتحديد ما هو مقدم عليه، بل يكتشف ما يريد أن يلامسه من خلال وعبر الكتابة ذاتها، أي أنه يستكمل معرفته للعالم، من خلال الكتابة ذاتها.
فقصة «لم نفكر» مثلاً لا يكاد عدد كلماتها يتجاوز مائة كلمة، ومع ذلك فهي تحكي حكاية اثنين منذ طفولتهما الباكرة وحتي اقتربا من الكهولة، وفي «شارع خاتم المرسلين» ثمة عنف مكتوم لا يفصح الكاتب عن كنهه بالتحديد لكنهش عنف يتأهب للانفلات، وفي «كان في عالم آخر» يقبض الحرس الجامعي علي الراوي ويفرج عنه، وبين القبض والإفراج يتعرض الراوي وشاب آخر لا يعرفه لذلك العنف المكتوم الغامض ، وفي «أي وقت» هناك حانة يجري إضرام النار فيها، ويلغي صاحبها «رخصة الكحوليات» ويتوسع في العصائر، لن يكون متزمتاً لذا سيحتفظ بالستلايت، وستأتي البنات مع الأولاد ويشربون الأرجيلة مع أكواب الزبادي الباردة، وسيتعود الجميع علي الصوت المرتفع جداً لأغاني الفيديو كليب، ولن يتفق الرواد القدامي علي الرحيل الجماعي لكنهم سيرحلون، وستأتين من السفر ولن تجدي أحداً، ولن نجلس كما نجلس بين الارتياح والتوتر، نقيس ألفة الجدران، ونراقب عمال المقهي وهم يسدون الشبابيك بألواح ورقية وخشبية عملاقة حتي لا تؤذي كؤوسنا أنظار العابرين».
قراءة هذه الكلمات القليلة جداً تنقل حياة كاملة مقلقة تنطوي بدورها علي كم غير مسبوق من العنف الغامض والخوف والفقدان. لا يهتم محمد خير – وبالمناسبة الكاتب لم يبلغ الثلاثين بعد – بأن يكون مفهوماً بل دقيقاً، ولا يستغرق بل يلامس من بعيد ويتلمس ما يريد الكتابة عنه، وكلما مضي في الكتابة يكتشف ما يبحث عنه عبر الكتابة.
شعرت بالفرح والبهجة عندما لامست بدوري هذا الاستبعاد الذي لا يتردد محمد خير عن القيام به، ثم المزيد من الاستبعاد بشجاعة وتلقائية طفل عجوز، الحقيقة أنه يكتب شيئاً مختلفاً عبر اثنتين وعشرين لنقطة سريعة جدا لكنها ليست لاهثة أبدا في الوقت نفسه تتميز بقدر من الرصانة التي تتيح له التأمل لذلك فهي لا تستسهل الكتابة وترسم الملامح الخارجية علي السطح، بل تتجه إلي العمق مباشرة.
ستظل كتابة الأجيال الجديدة تمنحنا كل تلك الحيوية والتنوع والتجديد، وتمنحنا قبل كل شيء كتاباً مثل محمد خير الذي لم يكتف بما أنجزه في شعر العامية، بل ها هو يقدم تجربة ناضجة في القصة القصيرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة البديل في 23 فبراير