شِعريَّةُ قصِيْدَةِ النَّثرِ، في دِيوَانِ: “عُزْلة الأنقاضِ” لشريف رزق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. حامد أبو أحمد

 مُعْظَمُ النَّاسِ يعتقدونَ أنَّ قصيدَةَ النَّثرِ مَسْألةٌ في غايَةِ السُّهولةِ؛ لأنَّهُمْ يتصوَّرُونَ أنَّهَا مُجرَّد كلمَاتٍ منثورَةٍ، لا تُقدِّمُ ولا تُؤخِّرُ، وأنَّ لهَا نظائرَهَا كثيرَةٌ في تُرَاثِنَا العربيِّ؛ مِثل سَجْعِ الكُهَّانِ، والنَّثرِ الفنيِّ، والخُطَبِ، والرَّسَائلِ، والمَقَامَاتِ، والأدَبِ الصُّوفيِّ، في العُصورِ الإسْلاميَّةِ المُختلِفَةِ؛ بلْ إنَّ بعضَهُمْ يرونَ في كِتابيْ: "النَّبيِّ"، "الأجْنحَةِ المُتكسِّرَةِ" لجُبْرَان خليْل جُبْرَان، وبعضِ كتبِ مصطفى صَادق الرَّافعيِّ، قصائدَ منْ الشِّعرِ المَنثورِ، ولاشَكَّ أنْ هَؤلاءِ جميعًا لدَيْهم بعض الحقِّ في هَذا الاعْتِقادِ؛ لأنَّ هذِهِ الأعْمَالَ تشتَمِلُ في الحقيقَةِ على مقاطِعَ لا تختلِفُ في شَيءٍ عنْ لغةِ الشِّعرِ؛ ولكنَّ طرْحَ المَسْألةِ على هذَا النَّحوِ ينطوِي على تَسْطيحٍ للظَّاهرَةِ، وتوسِيعٍ ليسَ له حُدودٌ ولا قواعِدُ، فَضْلاً عنْ المُغالطَاتِ الكثيرَةِ الَّتي تنمُّ عنْ موقفٍ رافضٍ؛ دونَ الإعْلانِ عنْ هذا الرَّفضِ بشكلٍ صريحٍ، والحَقُّ أنَّ قصيدَةَ النَّثرِ ليسَتْ مُجرَّدَ كلامٍ يَصْدُرُ عنْ شخصٍ في حَالِ انفعالٍ فنيٍّ؛ لأنَّ هذا التَّوصِيفَ إذَا كانَ يَصْلُحُ لبعضِ الأشكالِ الفنيَّةِ المُوغِلةِ في القِدَمِ، فإنَّهُ لا يصلُحُ لقصيدَةِ النَّثرِ؛ الَّتي ظَهَرَتْ بعدَ أنْ توفَّرَتْ لهَا شروطٌ جماليَّةٌ مُحدَّدةٌ ومَعْرُوفةٌ، وتوفَّرَ الوَعْيُ بخصوصِيَّتِهَا الشِّعريَّةِ النَّوعيَّةِ، وطرائقِهَا المُتعدِّدَةِ في إنتاجِ شِعريَّتِهَا، وقدْ أشَارَ صلاح فضل، في كتابِهِ: "أساليب الشِّعريَّةِ المُعَاصِرَةِ "إلى بعضِ شروطِهَا، بقولِهِ: "إنَّ قصيدَةَ النَّثرِ، الَّتي تستحقُّ أنْ يُطلَقَ عليْهَا هذا المُصْطَلَحُ، لابدَّ أنْ تتوافرَ لهَا الشُّروطُ الجماليَّةُ التَّاليةُ، أوَّلاً: ينبغِي أنْ تكونَ وِحْدَةً عضويَّةً مُسْتقلَّةً؛ بحيْثُ تقدِّمُ عَالَمًا مُكْتَمِلاً، يتمثَّلُ في تنسِيْقٍ جَمَاليٍّ مُتميِّزٍ، يختلِفُ عنْ  الأشكالِ النَّثريَّةِ الأخْرَى.. ثانيًا: يتعيَّنُ أنْ تكونَ وظيفتُهَا الأسَاسِيَّةُ شِعريَّةً، بمَعْنى أنَّها تعتمِدُ على فِكرَةِ اللا زمنيَّةِ، بحيْثُ لا تتطوَّرُ نَحْوَ هَدَفٍ مُعيَّنٍ، ولا تعرِضُ سِلْسِلةَ أفْعَالٍ أوْ أفكارٍ مُنتظِمَةٍ، مهمَا اسْتخدَمَتْ منْ وَسَائلَ سَرديَّةٍ أوْ وَصْفيَّةٍ.. ثالثًا: أنْ تتميَّزَ بالتَّكثيفِ ، والتَّركيزِ، وَتتَلافَى الاسْتطرَادَاتِ والتَّفصِيلاتِ التَّفسِيريَّةَ.."(1)، وإذَا كانَ صلاح فضل يستندُ في هَذا التَّصوُّرِ على أفكارِ سوزان برنار في أطروحتِهَا عنْ قصيدَةِ النَّثرِ الفَرَنسِيَّةِ: "قصيدَةُ النَّثرِ منْ بودلير إلى أيَّامِنا"، فإنَّهُ يُضِيْفُ، بعدَ ذَلكَ، كلامًا مُهمًّا، لا يَدْخلُ ضِمْنَ الشُّروطِ؛ لكنَّهُ- في رَأيي- أهمُّ مِنهَا جميعًا؛ حيْثُ يُوضِّحُ أنَّ هذِهِ الشُّروطَ ليسَتْ كلَّ شيءٍ في إنتاجِ شِعريَّةِ قصيدَةِ النَّثرِ، بقولِهِ: "لكنَّ الأفكارَ النَّظريَّةَ، إذَا لمْ تعثُرْ على الفنَّانِ؛ الَّذي يُحِيلُهَا إلى تجربَةٍ جماليَّةٍ، تظلُّ طنينًا في الفَضَاءِ، لا يتخلَّقُ في أثرٍ فنيٍّ مَلمُوسٍ"؛ ولهَذا فقلَّمَا نجدُ أعْمَالا في قصيدَةِ النَّثرِ تستحق أنْ تُتَنَاولُ، بوَصْفِهَا قصِيْدَةَ نثرٍ، إنَّ قصِيْدَةَ النَّثرِ نوعٌ شِعريٌّ خاصٌّ، يحتاجُ إلى احْتشادٍ من نوعٍ خاصٍّ، وإلى رُؤيةٍ جديدَةٍ ومُختلِفَةٍ للعالَمِ المُحِيْطِ بالشَّاعرِ، وإلى قُدرَةٍ خاصَّةٍ على التَّعبيْرِ الجديْدِ والغَوْصِ فيمَا هُوَ يوميٌّ ومُبتذَلٌ؛ للخُروجِ بفِكْرَةٍ مُتعالِيَةٍ تُحلِّقُ في فَضَاءِ الشِّعريَّةِ الوَاسِعِ.

ودِيوَانُ: “عُزْلة الأنقاضِ”، للشَّاعر شريف رزق، صَدَرَتْ طبعتُهُ الأُولى عام 1994، وكُتِبَتْ قصَائِدُهُ بيْنَ عَاميْ1992،1993، يكشِفُ عن وعْيٍ خاصٍّ، ورُؤى خاصَّةٍ للعَالَمِ، ويمِيلُ الشَّاعرُ إلى شِعريَّةِ الوُضُوحِ، ولكنَّهُ أحْيانًا يجنَحُ إلى غموضٍ شَفيْفٍ، كاشِفٍ عمَّا يدورُ في أعْمَاقِ الشَّاعرِ، كاشِفٍ عنْ الطَّاقةِ الشِّعريَّةِ السِّريَّةِ، على نَحْوِ مَا يقولُ الشَّاعرُ اليونانيُّ يانيس ريتسوس: “في الكَوْنِ، وفي الحَيَاةِ، وفي ذَوَاتِنَا، ثمَّةَ أُمُور مَجْهُولةٌ لا تُفَسَّرُ.”(2)

 وتسودُ الدِّيوانَ وحْدةٌ نفسِيَّةٌ وجماليَّةٌ، تمتدُّ في وَحَدَاتٍ شِعريَّةٍ، تتَّخِذُ العَنَاويْنَ الآتيَةَ : “أُدَحْرِجُ الخَرَابَ.. أكْنُسُ العَتْمَةَ”، “ثعالِبُ المَدَى المَفتوحِ”، “المَسَاءُ بصَاعِقَةٍ مُحَطَّمَةٍ”، “الجُثَّةُ المُضَاءَةُ”، “جَسَدِي وهذِهِ تصَانيْفُ الغُبَار”، وقدْ انْتَهَجَ الشَّاعرُ فيْهَا جميعًا نَهْجًا تشكيليًّا جديدًا؛ هُوَ أنْ يكتُبَ السَّطرَ الشِّعريَّ، أوْ الإثنيْنِ، أوْ الثَّلاثةَ، أوْ أكْثر منْ ذَلكَ، على شَكلِ وِحْدَةٍ قائمَةٍ بذاتِهَا، نصًّا ودلالةً، وتحتَهَا تاريْخُ كتابتِهَا، في شكْلٍ أقرْبَ إلى شكْلِ اليوميَّاتِ، ولكنَّ الشَّاعرَ يكتُبُ في اليومِ الوَاحِدِ أكثرَ منْ وِحْدَةٍ شِعريَّةٍ، والحَقُّ أنَّ كلَّ وِحْدَةٍ، حتَّى ولو كانَتْ سَطْرًا وَاحِدًا، تُقدِّمُ عَالَمًا قائِمًا بذاتِهِ، يُشْبِهُ الكولاجَ، الَّذي ينفصِلُ، ويدخُلُ ضِمْنَ سِياقٍ، في وقتٍ واحِدٍ، فالمَقطَعُ الأوَّلُ، في نصِّ: “أُدَحْرِجُ الخَرَابَ، أكْنُسُ العَتمَةَ”، يقولُ:

” وَحْدِي

سَأخْرُج منْ دَمِي

هَذا المَسَاءَ

وَأشْهَدُ الـ صَّدْعَ الأخِيرْ.

25/6/93 “

والمَقْطَعُ الثَّاني، أوْ الوِحْدَةُ الثَّانيةُ، تقولُ:

” النُّجُومُ، لوْ تَشْهَدِيْنَ، مَوَائِدُ فِضَّةٍ.”

25/6/93 “

والمَقْطَعُ الثَّالثُ يقولُ:

” صَرْخَةُ البَرْقِ ألقتْنِي في المَرْفأِ.”

25/6/93 “

وعلى هَذا النَّحوِ، يمضِي النَّصُّ، في وَحَدَاتٍ شِعريَّةٍ تشكيليَّةٍ ودلاليَّةٍ مُتتاليَةٍ وناضِجَةٍ، ذَاتَ عُمْقٍ ورُؤيةٍ مُتجذِّرَةٍ في تَضَاريسِ الوَاقعِ، يقولُ في أحَدِ مَقَاطِعِ النَّصِّ:

” سَأُرتِّبُ هذِهِ الانْهِيَارَاتِ ترتيبًا آخَرَ.”

 25/6/93 “

ويقولُ في مَقْطَعٍ آخَرَِ:

” لمْ أعُدْ أُميِّزُ

في ضَرَاوَةِ المَشْهَدِ

بيْنَ القاتِلِ والقتيْلِ.”

25/6/93 “

ولاشَكَّ أنَّ النَّصَّ يدلُّ على شَاعِرٍ موهوبٍ، يُقدِّمُ أوَّلَ دواوينِهِ الشِّعريَّةِ، مُتَجَاوِزًا مَرْحَلةَ التَّجريْبِ والتَّخبُّطِ والغُمُوضِ الزَّائفِ؛ ليُقدِّمَ قصِيْدَةَ نثْرٍ حقيقيَّةٍ؛ ذَاتَ طبيعَةٍ مُخْتلِفَةٍ، وعَالَمٍ شِعريٍّ مُخْتلِفٍ، بوَعْيٍ شِعريٍّ عَمِيْقٍ بأبعادِ التَّجربَةِ الشِّعريَّةِ لقصِيْدَةِ النَّثرِ، ومِثْلَمَا نَجَحَ الشَّاعرُ في النَّصِّ السَّابقِ، في أنْ يُقدِّمَ نَمَطًا منْ أنمَاطِ قصِيْدَةِ النَّثرِ؛ يقومُ على التِقاطِ لحْظَةٍ خَاطِفَةٍ، يُسلِّطُ عليْهَا وَمَضَاتِهِ الشِّعريَّةَ، نرَاهُ في النُّصوصِ التَّاليةِ، قدْ نَجَحَ أيضًا في أنْ يُقدِّمَ عَالَمًا شِعريًّا يقومُ على بناءٍ سِرياليٍّ، يقولُ في المَقْطَعِ الثَّالثِ منْ نصِّ: “ثَعَالِب المَدَى المَفْتُوح”:

“المَرْأةُ تَنْهَضُ في جُرْحِي

طَائرٌ للغَمَامَةِ يُشْهِرُ مِنْقَارَهُ

فَتَحْتُ نَافذَةً على البَحْرِ

وَاشْتَهَيْتُ نجمَةً على

صَدْرِي الطَّرِيْحِ في قاعِ الوَحْشَةِ

سُلَّمِي قديمٌ

وَجَنْبِي هِرَّةٌ

وجُثَّةٌ لا تُضِيءُ.

6/7/93 “

ونُلاحِظُ أنَّ النَّصَّ كلَّهُ، بمَا فيْهِ المَقطَعُ السَّابقُ، يبتعِدُ عنْ الصُّورَةِ بمفهومِهَا المَجازيِّ القائمِ على عِلاقاتٍ بيْنَ المُشبَّهِ والمُشبَّهِ بِهِ ووَجْهِ الشَّبه؛ لتُقدِّمَ صُورَةً بَصَريَّةً مَشْهديَّةً كُلِّيَّةً، مُركَّبَةً، تغوصُ فيْمَا وَرَاءَ الحِسِّ، وتَمْتَحُ منْ اللا شُعورِ، تستبطِنُ أعْمَاقَ الذَّاتِ، في رُؤيَةٍ ناضِجَةٍ مُتكامِلَةٍ، وموقِفٍ شِعْريٍّ وَاعٍ، وبناءٍ سِرياليٍّ، ينطلِقُ منْ الوَاقعِ؛ ليقَعَ في مَنْطقَةِ اللا وَاقِعِ، كلُّ هذا في لغَةٍ شِعريَّةٍ تنْطَوِي على بعْضِ الغُموضِ؛ ولكنَّهُ الغُمُوضُ الشِّعريُّ الأصْيْلُ، “الغُمُوضُ الكاشِفُ؛ الَّذي يرتبِطُ بالحقيقَةِ الشِّعريَّةِ، ويرفعُ الحِجَابَ عنْ سِرِّهِ المَكْشَوفِ- على حَدِّ تعبيْرِ جوته في دِيوَانِهِ الشَّرقيِّ- لكلِّ مَنْ يملِكُ الصَّبرَ الكافِي على قراءتِهِ؛ بلْ إبداعِهِ إبداعًا خاصًّا بِهِ”(3)، وحتَّى عِندمَا يكونُ المَوْضُوعُ أكثرَ منْ وَاضِحٍ، فإنَّ الشَّاعرَ يُحيلُهُ إلى رُؤيَةٍ شِعريَّةٍ مُحَاطةٍ بالأسْرَارِ،  يقولُ في أحَدِ المَقاطِعِ:

“ظِلالُ مُحْيي الدِّينِ بنِ عَرَبيِّ خَضْرَاءُ

صُفوفًا تُغادِرُ المَدَى المَفْتُوحَ

فيْمَا في عِظَامِي قرْقَعَةُ

الكَوْكَبِ المُنْهَارْ.

29/7/93 “

بلْ إنَّ الشَّاعرَ ينجَحُ نجاحًا باهرًا في المَقْطَعِ التَّالي:

“هَكَذَا

كَبَرَابرَةٍ يفرُّونَ بالكنوزِ

تندفِعُ المَشَاهِدُ في رَأسِي

وتَذُوبُ.

29/7/93 “

والحَقُّ أنَّ شريف رزق في النَّصَّينِ التَّاليينِ: “المَسَاء بصَاعِقَةٍ مُحَطَّمَةٍ”، و: “الجُثَّة المُضَاءَة” قدْ اسْتَمَرَّ في تقديْمِ هَذا العَالَمَ السِّرياليَّ النَّاضِجَ؛ الَّذي  وَجَدْنَاه في نصِّ: ” ثعَالِب المَدَى المَفْتُوحِ”؛ ففي نصِّ “المَسَاء بصَاعِقَةٍ مُحَطَّمَةٍ”، يقولُ:

الذِّئبُ في أنْقَاضِ الليْلِ

يَتَمَطَّى

وَالغُبَارُ يَدْخُلُ القَتْلَى

فينقلبُونَ على جُنُوبِهِمْ

مُهْطِعَيْنَ

فِيْمَا تُحَلِّقُ القَوارِضُ

فَوْقَ رَأْسِي العَابِرِ

وَالْجِمَالُ تَذْرَعُ السَّمَاءَ

يَمُرُّ الجِدَارُ أَمَامِي

بِنقوشٍ ناقِصَةٍ

ِلجُنودٍ وَسَعَالي

وَصَيْحَاتٍ باهِتَةٍ لا تَنْتَهِي

أنْتِ غَائِبةٌ

وَبِالزَّوَارقِ تَمْلئِينَ الهَوَاءَ

السَّرَادِيبُ تَثَّاءَبُ بالدُّخَانِ

أَنَا قادِمٌ

أيُّهَا الاشْتِعالُ البَهِيجُ

ذِي خُيولِي…

21 / 8 / 93

ونكتفِي من نصِّ  “الجُثَّة المُضَاءَة”، بمقطَعَيْنِ، يقولُ في أوَّلِهِمَا:

“عُوَاءٌ، منْ ظُلْمَةِ البَحْرِ،

وأُمِّي تَذْرَعُ السَّمَاءَ

بحَمَامَاتِهَا وسَلَّتِهَا الزَّرقاءِ

تُوزِّعُ الكمثرى والبُذورَ

الحَرَائِقُ تَنْهَضُ في كُرَّاسَتِي، فيْمَا

الأمْوَاجُ تَدْفَعُ أشْجَارَ الرِّمالْ.

27/9/93 “

فكلُّ المُفْرَدَاتِ في هذِهِ المَقْطُوعَةِ واقعيَّةٌ؛ أيْ مَأخوذَةٌ منْ صَمِيْمِ لغتِنَا الحَيَّةِ، وكَذلكَ الأحْدَاثُ: العُوَاءُ، وظُلْمَةُ البَحْرِ، والسَّلَّةُ الزَّرقاءُ، وتوزِيْعُ الكمثرى والبُذورِ، والحَرَائِقُ.. إلخ، ولكنَّ الشَّاعرَ رَبَطَ هذِهِ العَنَاصِرَ بطريقَةٍ سِرياليَّةٍ؛ فالأمُّ تذْرَعُ السَّمَاءَ بحَمَامَاتِهَا، والحَرَائِقُ تنْهَضُ في الكُرَّاسَةِ، والعُوَاءُ الَّذي يأتِي منْ ظُلْمَةِ البَحْرِ؛ مَعَ أنَّهُ منْ المَفْرُوضِ أنْ يأتِيَ منْ البرِّ، وأشْجَارُ الرِّمَالِ التي تدفعُهَا الأمْوَاجُ.. وكلُّ هذَا ينقِلُ اللغَةَ منْ عَالَمِ الوَاقِعِ إلى عاَلَمِ اللا وَاقِعِ.

أمَّا المَقْطَعُ الآخَرُ، وهُوَ أيضًا سِرياليٌّ، لكنَّهُ ينطوِي على دلالةٍ مُهِمَّةٍ، نقِفُ عليْهَا عِندَمَا نَصِلُ إلى نهايتِهِ، يقولُ:

“السَّمَاءُ تدْفَعُ أبْرَاجَهَا الحَمْرَاءَ

وثيرَانَهَا المُضِيئَةَ في أمْوَاجِهَا

والليْلُ يهتزُّ كبَحْرٍ مَنْقُوشٍ بالمُزَارِعِيْنَ

فيْمَا الأرْضُ تدورُ بأجْنَادِهَا النَّائِمِيْنَ وُقوفًا.

29/7/93 “

فهَذَا المَشْهَدُ السِّرياليُّ، ينتهِي بدلالةٍ وَاضِحَةٍ، عنْ الأرْضِ الَّتي تدورُ بأجْنَادِهَا النَّائِمِيْنَ وُقوفًا، ولاشكَّ أنَّ هذَا النَّومَ وقوفًا، تصوُّرٌ سِرياليٌّ للنَّومِ، يجعلُهُ أسْوأَ جِدًّا منْ النَّومِ الطَّبيعِي، ولعلَّ الشَّاعرَ قَصَدَ أنْ يقولُ: هذِهِ هيَ حالتُنَا، وإنَّهَا أسْوأُ مَا شَاهَدْنَاهُ في تاريخِنَا.

وهكَذَا نجِدُ الشَّاعرَ شريف رزق يرتادُ طَريقَهُ الخَاصَّ، مُعبِّرًا بصوتِهِ المُتميَّزَ الخاصِّ، في ديوانِهِ الأوَّلِ النَّاضِجِ: “عُزْلة الأنقاضِ”، وهُوَ سَوْفَ يُوَاصِلُ طريقَهُ بعدَ ذَلكَ بوَعْيٍ واقتدَارٍ في دَواوينِهِ التَّاليَةِ؛ الَّتي نترُكَهَا الآنَ؛ لنناقشَهَا في فرصَةٍ مُقبلَةٍ، إنْ شَاءَ اللهُ.

 

الهوامش

(1) د. صلاح فضل – أسَاليبُ الشِّعريَّةِ المُعَاصِرَةِ – الهيئة العامَّة لقصور الثَّقافة، سِلْسِلة: كتابات نقديَّة – أغسطس 1996 – ص: 439.

(2) وَرَدَ في مُقدِّمة رفعت سلاَّم لترجمتِهِ عددا من قصَائدِ يانيس ريتسوس، تحتَ عنوان: اللذَّة الأُولى، إصْدَار: المُلحقيَّة الثَّقافيَّة اليونانيَّة بالقاهرة – 2000- ص: 23.

(3) د.عبد الغفار مِكَّاوي، في تقديمِهِ لقصَائدَ مُخْتارَةٍ من شِعْرِ انجاريتي، إصْدارُ: الهيئة العامَّة لقصور الثَّقافة، سِلْسِلة: آفاق التَّرجَمَة – 2000- ص: 55.

 

جريدة: القاهرة  – العدد:66 – الثلاثاء 17من يوليه 2003 

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم