تنقسم شامات الحسن إلى اثنتى عشر قصة، تتلاقى فيها الأضداد جميعها، وتتلاشى الحدود بينها: الإيروس ( الدافع أو الرغبة فى الحياة والطاقة الجنسية) فى مواجهة ثاناتوس (إله الموت عند الإغريق ويرمز إلى الدافع للموت)، اليقظة والحلم، الواقع والخيال، اللذة والألم، الوهم والحقيقة.
تخرج ذروة الحياة واللذة من رحم الموت، كما فى قصة ” دون كيشوت”، حيث تدفع الرغبة/اللذة، فى ذروتها، البطل إلى خنق القتاة دليلة حتى موتها، بينما سناء تشاهد ذلك فى متعة تتحول فى النهاية إلى ذعر صارخ:
” أحسست أننى انعزلت عما حولى؛ لا أرى سوى عينيها اللتين تفيضان بدموع اللذة، فيما هما ترقرقان فى بؤبؤى عينى، ولا أسمع سوى صوت صراخها المبحوح من فرط ضغطى على رقبتها…”
أو تزداد الرغبة كثافة كلما اقتربنا من الموت، ففى قصة “موديل عار ٍ”، يقوم الرسام بمحاولة رسم لوحة عارية لنورا، التى تقرر الانتحار بعد الانتهاء من اللوحة فى غضون أسبوعين. وتتولد المتعة من المازوخية، والخيالات الفانتازية تتحول إلى حقيقة، كما نرى فى قصص مثل “فانتازيا”، “الغابة السوداء” “عينان شاردتان”:
” كنت سعيدا باستخدام هذه المراة، وصديقها، لى فى علاقتهما الفانتازية، التى أرادا بها أن يحققا فانتازييهما الاستعراضية بين جدار القلعة وأشجار الغابة القريبة”.. قصة” الغابة السوداء”
” قلت له وأنا فى قمة لذتى أن يضربنى بالسوط، ومددت له يدى به، فأمسك السوط وظل ساكنا للحظات، بينما كنت أتمدد جاثية قريبة منه أتوقع الألم، وأشعر بالرهبة، لكنى لم أشعر بأنى سأتراجع على الأقل حتى أشعر بالضربة الأولى على ظهرى”.. قصة ” عينان شاردتان” .
تتلاشى الحدود بين الأمكنة، حيث ترتاد النصوص بلدان وعوالم أخرى، متعددة الثقافات، وشخصيات المجموعة من مختلف الجنسيات، الأوروبية والآسيوية والعربية، يوحدها الجسد كلغة تعبر عن “المشترك الإنسانى”.
قد يبدو فى شامات الحسن أن تباعد معظم النصوص عن محيطنا الاجتماعى وبيئتنا الثقافية، هو محاولة للهروب من واقع اجتماعى يفتقد الزخم المحفزعلى الكتابة الإيروتيكية، واقع يتشكل وفق بنيات سلطوية تقمع الجسد وتحتقر الرغبة، وتفرض أخلاقياتها الزائفة على الأفراد/الذوات، وأن النصوص ،بهذا التباعد، قد أهدرت فرصة مواتية لتعرية المجتمع ونقد أنساقه القيمية الجاهلة. ولكن قد يعمل تمثيل “الآخر” على فضح الذات نفسها، وكأن هذا التصويرللواقع “المختلف” هو بمثابة مرآة تنعكس عليها بشاعات واقعنا البائس، ليتضح المعنى بنقيضه.
ومن المرجح أن تختفى أو تُطمس ذاتية أبطال قصص شامات الحسن، أو تتحول تلك الذوات وتجاربها المتفردة إلى مجرد “نزوات تافهة”، كنتيجة نهائية “لإضفاء الطابع الذاتى على نطاق كونى”، يتسم هو الآخر بالطابع السلعى الذى يعمل على تشيؤ الجسد واستلابه، كما يوضح “سلافوى جيجيك”، بينما يمضى واقعنا الاجتماعى فى مساره القمعى. لكن النصوص تحول دون هذه النتيجة، بما يتبدى فى رؤيتها وسردها من وعى. فلا تنطلق شامات الحسن من مفهوم قاصر عن الجسد، ولا من بنية مسبقة للفهم، تقوم على الاحتقار ما بعد الحداثى للقضايا الإيديولوجية الكبرى، حيث يصبح الجسد هو اليقين الوحيد المتبقى، والملاذ، بعد زهد الذات فى العالم. لذلك نجد أن “الرحلة الداخلية” لبطل قصة “ما يراه النهد”، كشكل من الممارسة الذاتية الروحية، تنتهى بما يشبه الفشل أو الخواء. ويتجلى الوعى بمعطيات العالم فى قصة ” عفاريت العولمة” التى تدور أحداثها فى الفلبين، وبين شخصيات ذات جنسيات مختلفة، حيث تتحدث الفتاة الفليبينية “ريزال” عن نوع من الطقسية الجماعية، وعن “موت الجنس” و “مابعد الجنس”. وحين يرد عليها الراوى المتكلم بأن هذا يشبه الحداثة وما بعدها، وأن ظواهر التحرر الجنسى صاحبت مرحلة الحداثة، أما الجنس المتعدد فهو مابعد الحداثة، ترد قائلة ً: ” ربما لا أقصد ذلك تماما، لكن الفكرة قريبة مما تقول،لكن لا تفهمنا خطأ، فنحن هنا فى الفلبين، فى النهاية، مجتمع عائلى كاثوليكى”. ثم يقول الراوى العربى مع بداية التجربة : ” كنا عفاريت العولمة، ضحايا ما بعد الحداثة، وأهلها، المارقين على الحداثة بانسجامها الذى بدا مبتذلا فى عالم تختلط فيه كل القيم”.
“.. مع ذلك بدونا منسجمين، نضحك معا ً، ونقدم أجسادنا لوليمة العولمة؛ مستثارين، ومرتبكين، مقبلين على الحياة وناقمين على ذواتنا وعلى لا عدل العالم”.
ورغم التماهى الذى يظهر فى هذه القصة ،وغيرها، مع المقولات التى ترى أنه بدلا من تغيير العالم، لابد أن نعيد اختراع أنفسنا، و كوننا بأسره، عن طريق الانخراط فى أشكال جديدة من الممارسات الذاتية (الجنسية والروحية والجمالية)، إلا أن الإدراك بقيود التسليع وتسرب القيم التبادلية الأداتية لمضمارالإيروس يظل قائما، فيمنح إبراهيم فرغلى صوتا سرديا لبطل القصة التى تحمل المجموعة عنوانها،شامات الحسن، السائق الشاب الهندى الذى أتى من بلاد الفقر والبؤس إلى البلد الخليجى بتراتبيته وطبقيته وقيمه الاستهلاكية، ويبدو فعل الحب مع “سيدته” الفتاة، كلحظة إنسانية يتم القبض عليها وسط مرارات عالم طبقى، حتى وإن كانت العلاقة تتسم بمبدأها الخاص:
” كنت أعرف فى النهاية، أنها هى التى تقود العلاقة، ولم أكن راغبا فى اختبار مخالفة هذا المبدأ الذى فرضته منذ دقت علىّ باب الغرفة”. ويمنح السرد أيضا صوتا مميزا لبائعات الهوى، حيث الأجساد مجرد أداة.
لا تطرح المجموعة الجسد وأسئلته بوصفه يقين، كما أن النصوص لا تجهد نفسها أكثر مما ينبغى لكى تمنحنا الحقيقة النهائية. فنفتتح المجموعة بقصة ” فيما يرى النائم” وسط أجواء الحلم، الطريق الملكى إلى اللاوعى، لتنتفى صفة الحقيقة عن السرد، ثم قصة “خارطة الجسد” حيث الوهم يمتزج بالحقيقة. وفى “موديل عار ٍ” نصل إلى قمة الالتباس مع نهاية القصة، فلا نعلم هل وُجدت نورا حقا، أم أن الرسام قد رسم “امرأة حلمه” كما قالت الفتاة التى تحاوره وتحمل نفس علامات نورا.
تتولد المتعة من ثنايا النصوص، التى تقيم ارتباطا بين الخارج عن المألوف واللغة العارية، وتصنع النصوص جدلا وتفاعلا بين الخيالات اللاواعية والدفاعات الواعية ضدها، فتتحول أعمق المخاوف والرغبات إلى معان “مقبولة” أو شديدة الوضوح عن طريق السرد المنمق، حيث يخلغ بلاغة خلابة على التجارب والرغبات والخيالات الفانتازية لشخوص القصص، كما فعل “نابوكوف” فى روايته الفذة “لوليتا”.
لذلك تكمن فى “شامات الحسن” طاقة جمالية، تتمثل فى “الصفة الإيروسية للجمال”، بتعبير هاربرت ماركوز، فالنص القصصى يتكلم اللغة “المتحررة”:
” كنت فى أوج شهوتى،وغيابى فى جسد الفتاة السمراء، أتسائل عمن تكون، سؤال يولده العناق الشهوانى والخيالات واللذة. وكانت الإجابات غامضة. كيان شبحى يفيض بما تفسره الإيروسية بأنه الغرام..”
تواجه اللغة بشعريتها وصفاتها الإيروسية المبدأ القبلى للجمال، المبدأ السائد للواقع، والذى هو مبدأ سيطرة،وتنتصر لمبدأ اللذة. وتنتقل لغة النصوص من الوصف التفصيلى أو تقرير ما يحدث، إلى وسيلة للبوح الذاتى، وإلى “شعرية” منبنية على اللاوعى ومجازيته. وتتضافر معها المادة الثقافية داخل المجموعة، والتى تتمثل فى النصوص الشعرية التى تستهل كل قصص شامات الحسن، لشعراء كبار مثل: ريتسوس، وديع سعادة، سعدى يوسف، وشاعرات متميزات مثل “جويس منصور” و “كيم أدونيزيو”. وتمثل عناصر هامة فى تكوين القصص ودلالاتها، لتخلق القصص من خلالها أبعادا دلالية جديدة ومتجاوزة للمعانى المفردة.
يديم العمل الفنى ذكرى لحظة المتعة، وتستحضر النصوص الصور المتحررة، وتتحول الحسية القاسية والعارية والجريئة إلى صور محررة، وعناصر “انعتاق جمالى”، وتحاول استحضار متعة فنية وجمالية من صور الموت والألم والفناء.
●●●
يقول “حنيف قريشى” فى حوار حول كتابه “حميمية” : ” منذ عشرين عاما كان أمرا سياسيا أن تحاول عمل ثورة وتغيّر المجتمع، بينما تنحصر السياسة الآن فى أن جسدين يمارسان الحب فى بدروم يمكنهما إعادة خلق العالم بأسره”.
يبدو أن الكاتب يعى أقوال مثل هذه،والتى بدأت تتعزز فى العقود الأخيرة، كما يعى إرث الإيروتيكا العربية، ويضيف إليها. تذكرنا “شامات الحسن” بأعمال تناولت الإيروتيكا والجسد بفنية عالية: فيلم “امبراطورية الحواس” للمخرج اليابانى الكبيرناجيزا أوشيما، وأعمال الشاعر والمخرج السينمائى الإيطالى “بازولينى”، “معلمة البيانو” للكاتبة النمساوية “ألفريدا يلينك”.. فهى، بالمثل، تحاول أن “تجعل العالم المتحجر يتكلم” كما قال ماركوز، وتدرك عبر الاستقلال الذاتى للفن، أن الفن لا يستطيع أن يغير العالم ، لكنه يستطيع الاسهام فى خلق الجمال،والحرية، وخلق وعى انسانى مغاير.