شاعر لعالم منهار

محمود درويش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود بركة 

أخذ الشعر في فلسطين منذ بداية التجارب الأولى  يسكب مرارة الإنسان الفلسطيني وواقعه بإتجاهات مختلفة الاتجاه الرومانسي والوطني والكلاسيكي وإلى غير ذلك من ظواهر تصيغ العلاقة بين الشاعر والوطن والأم والحبيبة دون قيود وحدود وهي الرؤى المتصورة للمستقبل والواقع الثوري والذي تلازم مع التغير من الانتقال عبر سلاسل الشعر قبل وبعد النكبة  إلى الثورة والدولة القائمة التي يزل تحطيها أسوار الإحتلال،وفي حالة محمود درويش الشاعر الذي ولد شعره بعد المأساة الفلسطينية اي النكبة يترفع بقصائده من الشعر الثوري إلى البطولات وتدوين الأساطير والملاحم التاريخية بأشكال تنوعت فيه مستويات الشكل والتعبير وقد أخذ من فلسطين المرايا ليعبر من خلالها فضاءات العالم المتغير وكأنه يتلذذ بتكرار فلسطين لايجاده دهشة المعاني وجمل بلاغتها، لعل ذلك ما كان يوصله بأرضه الأم التي طال قيدها وأشتد شوق انتظار أبنائها ومن أحبها،لشاعرنا في قولة رمزية لما سبق ” اَه يا جرحي المكابر،وطني ليس حقيبة سفر،وأنا لست مُسافر إنني العاشق والأرض الحبيبة ” عاطفة تدلل على قوة المأساة لواقع يناجي التصور على بحر من لغة الشعر و النثر

مرثية الأصدقاء والشعر بناء عالم منهار

ظهر بنزعته الإنسانية فنان شاعر كاتب حالم يتعمق في التعبير ويتألف ويعيد التشكيل لإنسانية مفقودة في عالم منهار بركام أدخنته، يلتقطها الشعر والغناء والكتابة،يصف الدكتور رجاء النقاش البيئة الفلسطينية التي تنبت الليمون والبرتقال والزيتون كما تنبت الشعر والحكمة والجراح و الأحزان، من هذه البيئة نذهب إلى عاشق من فلسطين  لم يتوقف يوماً عند حدود المكان ليكتب، كبر بالقضية والمنفى والأصدقاء، عاش فهرس المكان المتعدد،ظل  يطارده  جرح تبديل الأسماء و الأماكن و الأزمنة التي إحتلها الغرباء في أرضه، أمتد صراعه مع الكتابة من أجل أصباغ الحقيقة بالحقيقة، بعدما وقع الاعتراف بالقاتل و تبديل الحقائق و التاريخ، الكتابة بوصلة الحل و المقاومة كما  يصفها، في نفس الوقت  كان يعتبر نفسه مواطن عالمي لإرتباط فلسطين عنده  بعالمية الصراع فلا إستقرار لهذا العالم إلا بالاعتراف بالحق الفلسطيني وتحقيق مصيره، تلتقي الحالة الشعرية مع الخروج من الأرض بشاعر يمر من الوطن الى رحيق البلاد خارجاً في  أوجه المنافي و الميناء و محطات السفر البعيدة، تخرج قصيدته من سياقاتها الإبداعية ليضعها على أكتاف الاصدقاء من مرايا العاشقين لنزيف الجرح بين ضماد الكلمة، ربما لم يكتب هذه المرة من جديد تاركاً جنين كتاباته تكبر مع من عرفه يوماً ورحل و أخر يناجي حضوره بكلمات لم تغيب، الكلمة ماء و ماء الشاعر قصيدته التي لم تكتب بعد، أخذ من السفر و الأماكن محراب يتأمل الوطن و الحب و الحنين  ليفتح سلام رسائل الأصدقاء ويكتب شاعرنا الحبيب  ” سلام على من يشاطرني الانتباه إلى نشوة الضوء و ضوء الفراشة في ليل هذا النفق ”  ينتهي الاقتباس هنا، و لا ينتهي الحديث عن محمود درويش ، لا يكف عن الرحيل والعودة للوطن فلسطين، كان لنمو دواوينه الشعرية الأولى بطاقات من التعريف، (عصافير بلا أجنحة)، 1960( أوراق الزيتون )  عام 1964، وديوان (عاشق من فلسطين )عام 1966و ( لماذا تركت الحصان وحيداً ) عام 1995، جسد فيها الرحيل عن البيوت و الارض لنزاع المحتل.

  الأصدقاء

يقول محمود درويش في حواره مع عباس بيضون في مراثي الأصدقاء، رفاق الدرب ” أظن أني شاعر مراث، أنا شاعر محاصر بالموت، قصة شعبي كلها قصة صراع الحياة مع الموت، وعلى المستوى اليومي كل يوم عندنا شهداء، الموت عندي ليس استعارة، ولست انا من أذهب إليه كموضوع بل هو يأتيني كحقيقة “، والقارئ المتيقن لشعر درويش يمكن ان يلاحظ في معجمه الشعري أن الألفاظ والبلاغة الرومانسية ترتبط بصلة وثيقة بتجربة درويش لما لها صلة بهموم الشاعر وجراحه التي نبعت من طبيعة التجربة،بالنظر إلى قصائده تتعدد الدلالات الشعرية الدالة على الأحلام و الأشواق والحب والقمر و الثورة والطيور والقلق والموت والأساطير،وذلك باعتماد الشاعر على الصور الحسية التي وضعت تجربته موضع التنوع بين العاطفة وشعبه وقضيته والبعد الاَخر من وطنه .

يتحدث الدكتور صلاح فضل في كتابه ” محمود درويش حالة شعرية ” ، أثناء بعثتي للدكتوراة في مدريد تعرفت على المستعرب الإسباني ( بدرو مارتينت مونتابيت )  وقد كان مشغولاً بشعر المقاومة ومن بين تلك القصائد والشعراء المتحمس لهم (بدرو مارتينت) هو محمود درويش، فأخذت أراجع معه ترجمته إلى الإسبانية  قصيدة  ” بطاقة هوية ”  لدرويش، فيقول الدكتور فضل، شعرت حينئذ بإنسان عربي يتمرد على قدر الهزيمة و يعلن إنتصاره الروحي، و أخذت أقرأ لرفاقي العرب و الإسبان كلمات درويش ” سجل / أنا  عربي / ورقم بطاقتي خمسون ألف / و أطفالي ثمانية / و تاسعهم سيأتي بعد صيف / فهل تغضب “،  لقد تحول درويش في بدايته الى رمز شعري و سياسي، ثم لم يلبث إالى ان تخطى الرمز ليصبح أسطورة حية، و يكمل الدكتور فضل حديثه، تابعت إنجازه الإبداعي بشغف و لهفة وعندما توفرت على رصد الملامح الأسلوبية التي تجسدت في الشعر العربي المعاصر فوجئت بظاهرة لافتة تميز شعر درويش تتمثل في قدرته الفذة على التحول من أسلوب إلى اّخر، ما زال درويش يتجذر بعمق أكثر في الوجدان العربي بأكمله، فيكتسب يقين الخلود وهو يتراءى كالطيف الشفيف في أجواء العواصم التي طالما شهدت مواسمه و تجاربه الشعرية،لم  يزال درويش بعد رحيله الحاضر يتسرب كالضوء إلى صفحات الصحف العربية،يمتد بحضوره الباهر لجوف الغياب، و يضيف الدكتور فضل مع بداياته الأولى لقراءة قصائد درويش لقد أصبح  لي مشهداَ نقديا مثيراً للتأمل، وكنت دائماً أرى الاَف من مختلف الأعمار والثقافات يتزاحمون على المدرجات الواسعة لسماع شعر درويش مع أنهم لا يطيقون قراءة قصيدة حداثية واحدة، فقد حقق درويش المعادلة المستحيلة بالجمع بين الشعر الحقيقي و سحر التلقي و الإلقاء، كان  محمود درويش يريد التخلص من جاذبية القضية الفلسطينية ليدخل في منطقة أرحب هي جاذبية الشعر الإنساني الخالد، فكان درويش يقول كثيراً لجمهوره الذي لم يخضع لإبتزازه ” ارحمونا من هذا الحب “، و يستكمل الدكتور فضل قوله، محمود درويش شاعر القضية الأخطر في التاريخ العربي وهو مع ذلك شاعر حداثي، وهذه مفارقة لافتة في حياة شاعر خاص، جمع الحداثة في فتح نصوص مختلفة القراءات،دون الإمساك بالمعنى متلبساً بالعبارة .

يذكر الدكتور فضل بعض من مذكرات محمود درويش في القاهرة، وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية، ألتقى درويش في فترة تواجده بالقاهرة بالكثير من الأدباء و الشعراء و الرموز الثقافية، فقد رافق توفيق الحكيم و يوسف إدريس و نجيب محفوظ، وكان صديقا لمن تأثر بأشعارهم ومنهم :صلاح عبد الصبور وأمل دنقل و أحمد عبد المعطي حجازي و عبد الرحمن الأبنودي، الى أن غادر درويش مقر إقامته  بالقاهرة ليقم سنوات عديدة بين باريس و بيروت،على أثر ذلك ارتبط درويش بمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال رئاسته لمجلة شؤؤن فلسطينية  التابعة للمنظمة

طائرة سفر

  الدكتور رجاء النقاش في كتابه “محمود درويش شاعر الأرض المحلتة” ، والنقاش من الاوائل الذين تشكل لديهم دلالات كثيرة لترصد أشعار وحالة محمود درويش الفريدة  كحالة للبحث و الدراسة و التعرف على درويش، كان لقائي الأول مع أدب المقاومة في أرض فلسطين  المحتلة أواخر سنة 1966، حين كنت في زيارة للجزائر و المسافة طويلة تحملنا الى أكثر من مكان، و في الطائرة التي تحملنا وقعت يدي على جريدة جزائرية وفي ركن من أركان الجريدة وقعت عيني على قصيدة قصيرة بتوقيع محمود درويش بعنوان ( الأمنيات )من ديوان أوراق الزيتون، قدمتها الجريدة على انها قصيدة لشاعر من أرض فلسطين المحتلة، أخذت أقرأ القصيدة فهزني صدق ما فيها من حرارة ثورية عنيفة،لا ولست اَعرف كيف ثبت في وجداني محمود درويش، هذا ليس اسماً حقيقاً بل اَسم مستعار لمناضل عربي ثوري يعيش متخفياً في الأرض المحتلة، كما أن قصائده نوعاً من المنشور الثوري الذي يكتبه المناضل السري ليرفع الروح المعنوية للعرب المقيمين بفلسطين المحتلة، درويش ليس مجرد عبقرية فنية فردية هو أيضاً فنان مرتبط بحركة شعرية واسعة وتجربة نضالية عريضة، يتأثر برفاقه و يؤثر فيهم لانه مرتبط بإيمانه العميق بفلسطين ارتباطاَ أبدي المصير والفكر

الشعر ومقتل القمر

تقول الكاتبة عبلة الرويني، لا يحتاج محمود درويش إلى مناسبة لنذكره هو الحاضر دائماً حضور قصيدته و حضور تأثيرها في حركة الشعر العربي وفي الوجدان، ولعل درويش أحد الشعراء القلائل الذين ساهموا في توسيع دوائر جمهور الشعر و قراءّه، وأحد الشعراء الذين طوروا القصيدة محافظاً على الجماليات الفنية الخالصة، فهناك شعراء أحالوا القضية إلى قصيدة ولكن محمود درويش أحال القصيدة إلى قضية محافظاً دائماً على مشروعه الجمالي و قضيته أولا فرق بينهما ، وتُكمل الكاتبة عبلة الرويني حول لقاء درويش بالشاعر الكبير أمل دنقل، لم أعرف تحديداً الفترة التي ألتقى درويش بأمل ولكن كانت في الفترة التي اقام فيها درويش بالقاهرة أوائل السبعينات،  ومن  اللقاءات التي جمعت بينهما خارج مصر  كان مهرجان الشقيف الشعري  في دولة لبنان عام 1981 عندما تلقى أمل دعوة لحضور المهرجان من منظمة التحرير الفلسطينية وفي الشقيف ألتقيا وسافر أمل ودرويش مع مجموعة من الشعراء إلى مدينة صور بالجنوب اللبناني و ثم إلى دمشق ليوم واحد، كان محمود و أمل رفقاء أمسية شعرية واحدة في ذلك الوقت ، وعن قصيدة ” في حضرة الغائب ” تقول الكاتبة الرويني، محمود درويش أهدى هذه القصيدة إلى أمل وكتبها خصيصاً ليقرأها في الاحتفال بالذكرى العشرين لرحيل أمل دنقل الذي تحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، يقول أمل دنقل عن شعر محمود درويش  في أحدى الحوارات التي أجراها معه أنس دنقل،  بلا شك ان شعر المقاومة الفلسطينية شعر محمود درويش كان أنضج فنياً و فكرياً و أيديولوجياً من شعر النكبة سنة 48 وبالتالي أصبح ذو قيمة فنية ووطنية، تذكر  الرويني في كتابها الجنوبي، بينما أمل يخضع للعلاج بتحدي جسده للمرض وقفت في أحدى المرات أردد قصيدة محمود درويش على امل دنقل داخل المستشفى  ” يا حقل التجارب للصناعات الخفيفة و الثقيلة يا لحم الفلسطيني ..

شاعر يمر

يذكر الروائي و الكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي أول من ترجم أعمال درويش الشعرية إلى الفرنسية،في مذكراته ” شاعر يمر” جائتي مكالمة من الصحفية إليزابيت لوكرية بإذاعة فرنسا الدولية، تخبرني بوفاة محمود درويش على إثر جراحة في القلب في أحد مشافي هيوسطن، فيقول اللعيبي معلقاً على  الخبر، أحسست أن يد عدوة وجهت لي بغتة صفعة قوية أضيفت لي، الى ان أخذت أشاهد حفل الوداع المهيب في رام الله لمحمود درويش، ما تم شعبية نادرة الحدوث في التاريخ، فقد استطاع درويش بمهة خاصة  خوض أطول المعارك السياسية و الإجتماعية في العالم العربي من خلال القصيدة و إعادة بناء ذاكرة الشعب الفلسطيني في ظاهرة التجاذب بين الأضداد، البندقية و غصن الزيتون، الوردة، ورائحة القهوة و روائح اللحم المتفحم، الصفعة و المداعبة، ويقول الروائي اللعيبي حول صفات محمود درويش الذي عرفها من خلال بعض اللقاءات التي جمعتهم، محمود درويش كان رفيقاً مرحاً، يسخر دون أن تشيء به ملاحظة، لم يكن يتردد في المشاركة في لعبة  قلب الدومى، كان محباً لمتع الحياة حيت يتعلق الأمر بالمأكولات و المشروبات الأرضية و أن بقى شديد التكتم بخصوص متع الجسد الأخرى، لا يتكمل عن النساء الأ مجازاً كما في قصائده الشعرية، يحاصر في الجلسة بالأسئلة فينطلق لسانه بفصاحة لكنه كانت لديه اللباقة لكي يتوقف فجأة و يعطي  الأخرين إكمال الكلام، ومن إنجازاته التي يتذكرها في قصائده عند ترجمة أعمال محمود درويش، الإنقلاب المضبوط الذي أحدثه داخل اللغة العربية، لغته تراعي اللياقة الأدبية وفي الوقت نفسه مبتكرة تقترن بحقائق العالم الحديث و متطلباته .

 إستطاع درويش نحت لغته الخاصة بصخر اللغة في التطابق المدهش بين لغة الكتابة و لغة الكلام عنده، مرثية أدبية أولى لمن عرف شاعر الأرض والبندقية والحداثة بعيون من تقاربوا مع حياة درويش الشخصية والأدبية لشاعر مرّ من الفكرة الأولى وتعدد في الأفكار والمواطن وليالي السفر،شاعر سكنته الوحدة والقلق وهواجس الموت وأخذ من القصيدة العائلة والوطن،وعاد به شعره محمولاً الى الأرض الفكرة الأولى يليقي جسده هناك بين أشجار الزيتون وشوارع رام الله والعلم الفلسطيني ليردد ويهتف بجسده ” على هذه الأرض ما يستحق الحياة “،في نهاية لا نهاية لشاعر يتكرر في تفاصيل  الحياة اليومية بين حياة العاشقين و الثائرين و المضطهدين والحالمين و السعداء  كل الأجناس البشرية،يقول  شاعرنا ” عندما يسقط القمر كالمرايا المحطمة،يكبر الظلٌ بيننا،والأساطير تحتضر،جرحنا صار أوسمة صار ورداً على قمر”.

مقالات من نفس القسم