أحياء العاصمة تستقبل “الشتاء” بحملات تقليم الأشجار وتطهير بالوعات الأمطار تحسبًا للتقلبات الجوية
رئيسة وزراء نيوزيلندا تنعى “قطتها” على فيسبوك
وزراء دفاع الناتو يلتقون اليوم في بروكسل لتعزيز مهمة الحلف
ويمثل هذا الفضاء – في الرواية – واقعاً اجتماعياً تعيشه الشخصيات، وميدانا تدور في عمقه الأحداث، وحيزا إنسانيا تُنسج من خلاله علاقات اجتماعية مختلفة ومتنوعة، وتشكل البؤرة المكانية عنصرا شديد التأثير في بنية الرواية،
وتنهض في تشكيلها الحكائي علي حساسية هذه البؤرة، حيث تكون بؤرة مولّدة تختزن في داخلها تجارب حية مدفونة في عالم لا يهدأ: صاخب مندفع غوايته لا تنتهي، بائس ملتاع أحزانه لا تجف، حكايته خليط من السيرة الشخصية والأحداث الجسام،الهموم الفردية والهزائم الكبري،
مجتمع شفاف تراه وتسمعه، تقرأه وتكتبه؛ لكنه عصي علي الحصر والحصار، ينزلق دوما؛ لأنه مندفع مع تيار الحياة. (2)
عتبة العنوان وطبعات الاستهلال:
يحمل عنوان الرواية ” باب الليل ” خصوبة حكي، وينطوي علي قدر عالٍ من السرية والإغراء، كما يمثل عتبة سلطة ما بين الحاجز/ الاستئذان، والستر/ الغموض، إذ ليس ثمة مجانية في الدخول / الخروج، وكذا تتجدد وتتنوع أشكال السلطة في البناء الروائي عبر تسميه عناوين الفصول (أبوابا)، فيميل الروائي إلي عملية إقصاء/ تهميش الخارج بغية تأمين أو تحصين الحكاية ( باب الهوي، باب الملكة، باب الوجع، باب البحر، باب النار، باب العسل )، كما يعمد إلي فرز/ تنقيح الداخل سعيا وراء تناسل أو تطعيم الحكاية ( باب البنات، باب النساء، باب الرجال ).
وينفتح كل باب علي نسخة استهلالية خاصة، افتتاحية ثرّة،احتفاء يليق بالمسرود عنه، استقبال ينعش المتلقي، وتتنوع طبعات الاستهلال، ما بين وصف الأماكن والأشياء (الحمام، الطاولة،البندقية، لعبة البازل)، ووصف الشخصيات – بعدالة توزيع- والتي تحتل النصيب الأوفر (أبو شندي، أبو جعفر، شادي، غسان، هدي، نعيمة، درّة، باربي، ألفة، حلومة)، وجميع النسخ الاستهلالية فواتح شهية، تطغي فيها روح الأنوثة في جزئيات الوصف، وتنبثق منها طاقة الشعرية في نسيج الكلمات، كما في استهلال (باب العسل ): “هل رأيت امرأة تسيل الرغبات علي جدرانها مثل حبات صغيرة مكتنزة، تنفرط وتنعقد علي انحناءة هنا،وبروز هنا أيضاً،وتتوقف، إن توقفت في المكان الذي شدها أو استهواها، تسيل متباطئة علي منحدر، تتريث عند زاوية، وقد ترتاح تحت قبة أو تغطس في سرّة أو مأوي“.
المتلقي وطقس الحكاية:
تتبدي قدرة الروائي- منذ اللحظة الأولي- علي خلق علاقة شخصية وسحرية مع المتلقي، فبينما يدفع به إلي جمرة النص عبر لغة سرد شعرية، تلقائية،شفافة، ولغة وصف- للراوي الذكوري- تتسم بالامتلاء الشبقي في توازن وتكثيف يتناسبان مع حساسية المكان، وعالم الشخصيات.
ينعطف في ذات الوقت إلي خلق علاقة شخصية معه، الاحتفاظ بمكانه ومكانته عبر حيل جمالية يسعي من خلالها إلي استفزازه وإدماجه بطريقة غير مباشرة في أحداث عالم الرواية وفضائها وتوريطه في عدد من أحداثها: ” بنات يتجولن في المقهي، يخترن طاولة ثم يبدلنها، كأنما يقتربن بخفة من مواقع الأهداف،بالله عليك لا تنزعج من مشيتهن، ولا تنفرط من هيئتهن فما تراه اليوم، ستتعود عليه غدا“.
وأحيانا ما يعمد إلي المشاكسة،إلي زجر المتلقي وتأنيبه، كشف عجلته واندفاعه، دعوته للسكوت والهدوء، عبر الإيهام بتدخله السافر في عالم الحكاية، وتعطيل إحدي شخصياته (أبو شندي الفلسطيني) عن استكمال حكايته “قلت لك أبو شندي يحكي حسب مزاجه، لا تنتظر منه شيئا غير هذه الإشارات أو العبارات الملغزة والمباغتة، اهدأ ولا تتعجل“.
وتزخر الرواية كما سبق بأشكال من ” الميتاسرد “، تؤكد التفاهم والحميمة بين محفلي الإرسال والتلقي، فيعود في مرة أخري وهو يصف شخصية درّة سلطة الغانيات وجميلة الجميلات إلي مراوغة المتلقي / المروي له، عبر لعبة النفي / الإثبات؛فبينما ينفي سلطته عليه، يعود ليؤكدها، وعبر لعبة التحطيم / التكريس؛ فبينما يحطم صلابة النص، يعود لتكريسه، وعبر لعبة الاستدعاء/ التهميش؛ فبينما يستدعي فن السينما – الممثلة باردو في فيلمها وخلق الله المرأة – لإبراز المحاكاة في التجسيد الحي وسلطة الصورة، يعود الي مركزية وسلطة اللغة – النص- عبر التأكيد على الأهمية الاستثنائية لحرف العطف (الواو) في عنوان الفيلم: “دعك من كل ما سبق، أنا أكذب عليك – يكذب عليك من يكتفي بذلك- هذا الوصف ليس كافيا، إن كنت قد رأيت فيلم ” وخلق الله المرأة ” الذي أخرجه المخرج الفرنسي روجيه فادم لقطّة السينما الفرنسية وقتها بريجيت باردو والذي قدّمها فيه للعالم لأول مرة كقنبلة من لحم ودم، ثم تزوجها بعده، ستعرف قيمة حرف الواو في الجملة، وأنها بدونه لا تعني شيئا، بل إن الكون كله دونه لا يعني شيئا، كأنه كان ينتظرها وحدها ليبدأ مسيرته“.
كما يشمله بمظلة حنون، فليست الحكاية تقتصر علي دراما الأحداث وتراجيديا الشخصيات، إنما تتحول إلي طقس عام، ينسحب علي كامل الفضاء الروائي، فالمكان بتاريخه وبناياته، والأشياء بتنوعها واختلافاتها، تتحول إلي حكايات سردية، وكذا الأزياء بأشكالها وماركاتها تتحول إلي حكاية سردية، كما يصف “أبو شندي” فستان محبوبته عندما شاهدها لأول مرة: “كانت تتمشي علي الشاطئ بفستان فوق الركبة بقليل، كل جزء منها يتكلم تحت الفستان وحده، يحكي حكايته وحده.. يتحدث أو يهمس مع جزء آخر، الفستان فقط كان ينظم الحكايات، يخفي حديثا دافئا أو يظهر حوار خافتا، فستان بألوان“.
وصف المكان: في المكان الجغرافي (تونس)، يتشيد المكان الروائي – المقهى – خارجيا بطريقة تشي بالخصوصية والتفرد،ويكتنز بالجمال والرفعة، علي نحو يخالف مشاعيته المعهودة ووجوده العابر: “ينتصب المقهى علي ربوة تصعد إليها عبر سهل، وتهبط منها في أرض منبسطة، ومن أية نافذة يمكن لعينيك أن تمتد بين ربوة وقبة ومنبسط“.
بينما يأتي وصف المكان داخليا عبر عملية رصد واستبطان الراوي العليم لشخصية سفيان المعماري – عشيق درّة صاحبة المقهي – في جمل سردية شعرية وحسية، تختلط فيها القداسة والفن بالرغبة والشهوة العارمتين، تذوب الروح في المادة، وتصرخ المادة بالنشوة والزهو.
“حشي بطنها في عينية بطبقاتها اللينة المشدودة، شيد السقف كله علي هيئة كثبان رملية ضربتها الريح، عصفت بها ثم موجتها كما يفعل الله فيها، لم يكن في حاجة بعدها لأن يسألها عن ثدييها، زرعهما في كل مكان من القهوة بنحاس أحمر دعكه بأيام انتظاره، حتي يكتسي بالورد تحت أضواء العنق يتدليان من مرمر السقف فوق أعمدة مخروطة تحاول أن تحاكي جسدها“.
كما تصف كاميرا الراوي الحمام – المكان المُدخل الروائي – وصفا ماديا مقتصدا،ولكنه يبتعد عن البراءة ( حركة الباب – طبيعة الضوء) ويبعث علي التآمر والريبة والفضول: “باب لزج متواطئ،يتحرك سريعا، ثم يرتد بطيئا كأنه يشارك بدوره في المكيدة، يتلقاهم حوض من المرمر الأبيض تحت أضواء كامدة تعلوه مرآة عريضة، تعكس بابين متجاورين، واحد للنساء وواحد للرجال بالطبع“.
وتتشابك هيئات وأشكال الوصف للفضاء المكاني ( الكلي، والتفصيلي، والمجازي) في توجيه علاقات الحدث السردي من جهة، ومن جهة أخري فهي تحدّث بؤرة توتر سردية تتكشف عن قابلية جديدة لإعداد الفضاء السردي لمرحلة دخول جديدة.
كما تتبدي في ممارسة صريحة للسلطة يمارسها المكان علي عالم الحكاية، فبينما تأتي الأماكن الضيقة الخاصة (الحمام ) بحكايات مبتورة، مُلغّزة، مُفخّخة، أحداثها مكتومة، متسترة، وشخصياتها أشباح مارقة بأرواح صقور لاهثة خلف حالة القنص أوالصيد،
تأتي الأماكن المفتوحة ( الباحة / الصالة) بزينتها وأضوائها وموسيقاها وأغانيها بحكايات عامرة بالخصوبة، بشخصيات حية غنية، بأحداث درامية ممتدة، يختلط فيها فضاء الجسد الأنثوي الطارح الصارخ بالغواية، مع فضاء الجسد الرجولي المفعم بالفحولة والمشتعل بالرغبة.
هواجس الشخصيات:
تتكاثر علي جسد النص الروائي شخصيات من جنسيات مختلفة : تونسية، فلسطينية، لبنانية، سورية، مصرية، ليبية، إيطالية، فرنسية، وبينما تمثل الشخصيات العربية شخصيات أساسية،مقيمة، فاعلة، تمثل الشخصيات الأجنبية شخصيات ثانوية، شاهدة،زائرة، وتشكل حكايات هذه الشخصيات صوراً واقعية تشي بدلالات تتصل بما هو اجتماعي وسياسي واقتصادي وقومي وأخلاقي وقيمي، وهي تتكاتف رغم تناثرها في فضاء المتن الروائي، لتقدم إلينا صورة كبري عن الحياة التي يعيشها الناس في هذه المقاهي بتونس.
هنا تلتقي عشيرة الغانيات (درّة، نعيمة، باربي، ألفة،أحلام)، بجماعة الأمن والمُخبرين، تختلط قافلة المناضلين القدامي (أبو شندي، أبو جعفر، شادي، فاروق جعفر)، بركب المتاجرين بالمال والقيم والسماسرة وأرباب المصالح، وتتناثر في المشهد شخصيات آخري؛ حالمة،عاشقة،مكلومة، هذا إذن عالم سلطته المال وشريكه الجسد.
كما يتصادم في واقعها – الشخصيات – هاجس التمرد النابع من الإحساس بالعبثية، بحاجز الخوف الناجم عن الشعور بالقيد أو الاحتباس أو القهر.. المقهى إذن خيارها الأصيل، تحتمي به، ويتأنسن بها، كلاهما أليف الآخر؛ رفقته، كأسه، وسُكرته.
وهاته الشخصيات تعيش الماضي بذاكرة محترقة، وتسكن الحاضر بوجود مسلوب، وهو ما يتيح للفاعل السردي – الراوي – الارتفاع بالشخصية إلى مرتبة جمالية تشطرها إلى عديد من الذوات في السبيل إلي إنجاز ذات مكبرة تحتوي الأشياء والأماكن والأحداث، وتحيط بها، وتحكي قصتها الأزلية.
_____________________________________
الهوامش :
1 – حساسية الروائي وذائقة المتلقي : عبد الباقي يوسف
2 – المغامرة الجمالية للنص القصصي : د.محمد صابر عبيد
3 – فضاء المتخيل : حسين خمري
4 – السرد والحكاية : د. محمد زيدان